حنا ارندت... الفيلسوفة التي واجهت النازية الحلقة24 هذه الحلقات مترجمة عن كتاب باللغة الانجليزية تحت عنوان: HYSTORY OF PHILOSOPHY ) LITTLE A)، («بعض من تاريخ الفلسفة»)، وهو صادرعن مطبعة ( yale university press) لمؤلفه « نيجيل واربورتون»، أستاذ لمادة الفلسفة بجامعات لندن بانجلترا. هذا المؤلف الظريف، المفيد، والممتع، يستعرض تاريخ الفكر الفلسفي من خلال تعاقب لأكبر وأشهر الفلاسفة الغربيين عبر التاريخ منذ عهد الإغريق، كما يطرح، بأسلوب سلس، عصارة أفكارهم وطرق عيشهم، وكذا الأحداث الغريبة والطريفة التي صادفتهم في حياتهم، وكيف مارسوا نظرياتهم في واقعهم المعاش. كان النازي "أدولف إيتشمان" موظفا إداريا لا يكل من العمل. تحمل سنة 1942 مسؤولية نقل يهود أروبا إلى مراكز الاعتقال في بولندا. كان هذا جزء من " الحل النهائي" لأدولف هيتلر: مخططه لقتل كل اليهود الذين يعيشون في الأراضي المحتلة من قبل القوات الألمانية. لم يكن إيتشمان مسؤولا عن سياسة القتل الممنهج. فلم تكن تلك فكرته.غير انه كان متورطا بشكل كبير عبر تنظيم النقل السككي الذي سهل تلك المأمورية. لقد خلق "الحل النهائي" جحيما من درجة أعلى. فقرار هتلر بقتل ملايين الناس فقط بسبب انتمائهم العرقي، يعني أن النازية كانت بحاجة إلى طريقة لإخراج اليهود من المدن نحو أماكن حيث يقتلون بأعداد غفيرة. تحولت مراكز الاعتقال إلى أفران لخنق مئات الناس يوميا، وحيث أن العديد من تلك المعتقلات كانت في بولندا، فقد كان لا بد من وجود شخص ينظم القطارات التي ستقل اليهود نحو حتفهم. عندما كان إيتشمان يلعب بقطعة ورق بين يديه ويقوم بمكالمات عديدة وهامة، كان الملايين يموتون بسبب ما فعل. البعض قضى بالتفويد أو الجوع، فيما آخرون أجبروا على العمل الشاق إلى أن هلكوا، لكن الأغلبية ماتت اختناقا بالغاز. لعب إيتشمان دورا كبيرا في تلك الجرائم. وبانتهاء الحرب العالمية الثانية تمكن من الهرب من بين أيدى قوات التحالف، حيث اختفى في الأرجنتين عاش سنوات هناك في سرية تامة. في سنة 1960 تعقبه أعضاء في جهاز المخابرات الأسرائيلي وتمكنوا من إلقاء القبض عليه وترحيله إلى اسرائيل لمحاكمته. هل كان إيتشمان وحشا شريرا، هل كان ساديا يستمتع بعذاب الآخرين؟ هذا ما كان يعتقده أغلبية الناس قبل محاكمته. فطيلة حياته كان شغله هو إيجاد طريقة مثلى لإرسال اليهود إلى أفران الموت. يقينا أن وحشا فقط هو القادر على النوم بعد كل هذا الذي اقترفه. الفيلسوفة حنا أرندت (1906-75)، وهي يهودية ألمانية، كانت قد هاجرت إلى الولاياتالمتحدة تابعت تلك المحاكمة لمجلة نيويوركر الأمريكية. كانت مهتمة باللقاء وجها لوجه مع إنتاج خالص للدولة النازية الشمولية، لمجتمع لم يكن يسمح بأدنى إمكانية للتفكير في نفسك. كانت تريد أن تفهم هذا الرجل ومحاولة تشخيص لشخصيته وكيف استطاع القيام بكل هذه الفظاعات والجرائم. لم يكن إيتشمان هو النازي الأول الذي التقته أرندت ، لقد هربت هي نفسها من قبضة النازيين وغادرت ألمانيا إلى فرنسا ثم إلى الولاياتالمتحدة، حيث أصبحت مواطنة أمريكية هناك. في فترة شبابها، عندما كانت في جامعة ماربورغ، لم يكن أستاذها غير الفيلسوف "مارتن هايدجر". كان هايدجر منشغلا بكتابة مؤلف "الكينونة والزمن"، وهو كتاب صعب وصفه العديد من الناس بالإسهام الكبير في الفلسفة، فيما اعتبره آخرون قطعة مظلمة من الكتابة. سيصبح لاحقا عظوا ملتزما في الحزب النازي، مؤيدا سياسته المناهضة لليهود. بل إنه حذف إسم صديقه القديم، الفيلسوف إدموند هوسير، من صفحة إهداء كتابه "الكينونة والزمن" بسبب كونه يهوديا. غير أن أرندت تقابل الآن بالقدس نازيا من نوع مختلف تماما. لقد كان انسانا عاديا اختار عدم التفكير فيما كان يقوم به. إن فشله في التفكير أدى إلى نتائج فظيعة. لكنه لم يكن، بنظرها، ذلك الشرير السادي الذي كانت تتوقع لقاءه. كان شيئا أكثر شيوعا بشكل كبير لكنه خطير أيضا: رجل بدون تفكير. ففي ألمانيا، حيث تم تدوين أسوء أشكال العنصرية في قوانين، كان من السهل عليه أن يقنع نفسه بأن ما كان يقوم به صحيح. لقد منحته الظروف فرصة للنجاح في مساره المهني فلم يضيعها. ف"الحل النهائي"، الذي وضعه هتلر، كان فرصة لإيتشمان من أجل أن يبرع في عمله ويظهر أنه يستطيع القيام بعمل "جيد". من الصعب تصور هذا، لقد هاجم العديد من النقاد أرندت معتبرين أنها أخطأت عندما قالت أن إيتشمان كان صادقا حينما زعم أنه كان يقوم بواجبه. ويبدو،على خلاف بعض النازيين، أن إيتشمان لم يكن مدفوعا بالحقد الأعمى لليهود. لا يحمل الحقد الذي كان عند هيتلر. كان هناك العديد من النازيين الذين يتمنون، بكل فرح، تعنيف أحد اليهود حتى الموت في الشارع العام إذا لم يقم بالتحية المشهورة لهتلر: "هيل هتلر"، لكنه لم يكن من هؤلاء. مع ذلك ، فقد تبنى الخط الرسمي للنازية وقبل به، بل أكثر من ذلك، ساعد على ترحيل ملايين الأشخاص إلى حتفهم. وعلى الرغم من سماعه تهما بديهية تجرمه كان يبدو أنه لا يرى فيما فعله سوءا يستحق الذكر. هو يعتقد أنه مادام لم يخالف أي قانون، ولم يقم بقتل أي كان بشكل مباشر، أو تحريض شخص آخر على فعل ذلك لحسابه، فإنه كان يتصرف بعقلانية. لقد أجبر على احترام القانون وتدرب على اتباع الأوامر وكل ما قام به يشبه ما كان يقوم به كل الناس من حوله. كان، من خلال تلقيه لأوامر من آخرين، يتجنب الإحساس بمسؤولية ما يقوم به في عمله اليومي. لم يكن إيتشمان بحاجة إلى رؤية الناس محشورين في عربات لنقل قطعان الماشية، أو زيارة معسكرات الموت،لابالتالي، فهو لم يفعل ذلك. لقد قال للمحكمة إنه لم يتمكن من أن يصبح طبيبا بسبب عدم تحمله رؤية الدم. مع ذلك فقد كانت يداه ملطختان بالدماء. إنه نتاج لنظام منعه من التفكير النقدي في أفعاله وفي العواقب التي تترتب عنها بالنسبة للآخرين. إنه كما لو لم يكن باستطاعته تصور مشاعر الناس. لقد حمل اعتقاده في براءته طيلة أطوار المحاكمة.أو ربما يكون قرر أن يقول بأنه كان يطبق الأوامر باعتبارها أحسن وسيلة للدفاع عن نفسه، وإذا كان ذلك صحيحا، فقد أسقط أرندت في هذه اللعبة. استعملت أرندت كلمات" تفاهة الشر"لوصف ما رأته في إيتشمان. ذلك أنه إذا كان الشيء عاديا فهو شائع وغير أصلي. وشر إيتشمان كان ، بنظرها، تافها بمعنى انه كان شرا لبيروقراطية وليس شرا لشيطان. لقد فشل ايتشمان، مثل العديد من النازيين، في النظر إلى الأشياء انطلاقا من آفاق شخص آخر. لم تكن لديه الشجاعة الكافية لمساءلة القوانين التي وضعت أمامه، فهو يبحث فقط عن أفضل السبل لتطبيقها. كان يفتقد للخيال، وللعقل و للشعور أيضا. كان يبدو إنسانا عاديا، لكنه لم يكن يسائل ما كان يقوم به. فقد ساهم في أبشع الأعمال الشريرة التي عرفتها البشرية.