مصطفى لغتيري من المغرب وسمر حجازي من فلسطين نموذجا أسال النقاش حول القصة القصيرة جداً كثيرا من الحبر بين مؤيد ومعارض لهذا النوع الأدبي الجديد، الذي شرع في فرض حضوره انطلاقا من سبعينيات القرن الماضي، وقد أضحى لها في يومنا هذا حضورها الطاغي بعد أن ترسخ في المشهد الأدبي العربي إبداعا ونقدا واستقر إلى حد ما. ومنذ بواكير النصوص الأولى جرت محاولات حثيثة لتعريف القصة القصيرة جداً، والإمساك بعناصرها وتقنياتها، وما زالت المحاولات مستمرة. فقد عرفها الكاتب عبدالله أبو هيف مثلا بأنها شكل سردي "أشد كثافة وأكثر بلاغة من القصة القصيرة". (عبد الله أبوهيف، مجلة الآطام، العدد الحادي والعشرون، شهر 1-2، 2005م، ص72) وينقل الناقد وليد أبو بكر تعريفاً لها عن الدكتور حسين المناصرة، الذي قال بأنها: "بنية سردية بالضرورة أولاً...غير قابلة للتأطير الجمالي السردي (العناصر الفنية للسرد)...يتشكل وجودها من خلال نصوصها". (وليد أبو بكر. "فنّ القصّة القصيرة جدّاً من التبعية نحو الاستقلال". في القصّة القصيرة جدّاً.رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي. 2011م، ص19-48) إن الخطاب السردي هو سبيل الكاتب في تقديم حكايته للقارئ من حيث ترتيب الأحداث وتفاعلها وتركيبها وتناميها. وهو الدرب الذي يوافق موقفه من اللغة والشخوص والأحداث والأسلوب الذي تم فيه طرح الحكاية. وعن الخطاب السردي قال الدكتور باسيليوس حنا بواردي: "إن الخطاب السردي للقصة القصيرة جدّاً هو خطاب سردي يفتقر إلى مرجعيات محددة من قبل، بل يمكننا القول إنه خطاب سردي رافض ومتمرد على القوالب التعبيرية العادية الناشئة عن التعالقات بين الجمعية والفردي". (باسيليوس حنا بواردي. "القصة القصيرة جداّ: طروحات عامة حول النوع والأسلوب". في القصة القصيرة جداّ. مرجع سابق. ص9-18) فهو لا يهمه الانتماء للمقدس، بل هو يمارس اللعبة المطاطية المرنة، التي تطول وتقصر حسب منظور المبدع الشخصي. فالقصة القصيرة جدّاً هي عبارة عن حدث يمر كالبرق، فمن خلال الدهشة والمفاجأة والمفارقة تلتمع وتتوهج محدثة تأثيرها في القراء، وتتركهم يتساءلون ويفكرون في تأويلها ومحاولة ملء الثغرات التي يحدثها القاص. وعلى الرغم من أن القصة القصيرة جداً تشبه وميض البرق إلا أنها تملك بنيتها السردية الخاصة، ولها عناصرها المميزة الكامنة فيها، وعند التمعن في النصوص القصصية نستطيع التعرف على هذه العناصر. لقد تفوقت القصة القصيرة جدّاً على نفسها، وقدرت على الإفلات من النمط الكلاسيكي للقصة القصيرة، وطفقت تعبر عن ذاتها بطريقتها ونكهتها ذات الرائحة النفاذة. ولا ريب إن التطور الهائل في وسائل الاتصالات، والتغيرات الاجتماعية والسياسة والثقافية العميقة ساهمت في ولادتها لتناسب إيقاع الحياة المتسارع، والذي لا ينتظر أحداً قد ساهم بشكل فعال في تحقيق ذلك... وفي مقابلة صحفية مع الكاتب مصطفى لغتيري، حول موضوع القصة القصيرة جدّاً، قال: "إن القصة القصيرة جداً منذ ظهورها وهي تجاهد لتبرهن على أنها جنس أدبيا مستقل بذاته وقد تحقق لها ذلك بعد هذا الكم الهائل من الإصدارات والدراسات النقدية والمهرجانات الأدبية المحتفية بها، والجوائز التي أنشئت ونظمت احتفاء بها، وفي رأيي المتواضع إن القصة القصيرة جدا هي جنس المستقبل، لأن العالم بأكمله ينحو نحو الاختزال والتكثيف، وليس غريبا أن تطغى على هذا العصر الرسائل الهاتفية القصيرة جدا وأغنية الفيديو كليب التي تؤدى في دقائق معدودة". ويقول الناقد وليد أبو بكر: إن ما يساعد القصة القصيرة جداً، ويقف إلى جانبها كما يرى من يؤمنون باستقلاليتها أمران هما "الأول هو توالي النماذج الجيدة، والنقد الذي درسها بجدية، والثاني هو أن كتّاباً كباراً مارسوا كتابتها منذ زمن، واعتبروا من روّادها، أغروا كتّاباً آخرين بكتابة ما يلفت النظر منها". ويضيف إن نقاداً اعتبروها أنها أصعب من الرواية التي تمتاز بمساحات واسعة من الأحداث واللغات والأصوات، وأصعب من القصة القصيرة التي تتقبل الإطالة والحوارات، أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة تجربة سردية، لا بد أن يتقن كاتبها فن كتابة الرواية أو القصة القصيرة. لقد حققت القصة القصيرة جدّاً النجاح، وانتشرت بسرعة، وما كان ذلك ليتم لولا دخول كتّاب كبار إلى مضمار الكتابة فيهذا الفن الكتابي الجديد أمثال زكريا تامر ومحمود شقير ومصطفى لغتيري وغيرهم الكثير. أما على المستوى العالمي فأنها انتشرت وتمددت في كل قارات العالم، وخاصة في أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية. إن أهم عناصر القصة القصيرة جدّاً، والتي لا تخلو منه القصة الناجحة هو الحكائية، فأي كتابة سردية لا بد لها من فكرة تتم معالجتها عبر الأحداث. والقصة هنا لا تعنيها الأحداث المتشابكة والمتنوعة، بل حدث مركز تقوم به شخصيات في فضاء محصور أو مفتوح، وبسبب عدد الكلمات القليلة لها فأنها لا تحتمل كثرة الشخصيات. الشخصيات الذين يظهرون فاعلون في قلب الحدث، مع التركيز على لحظة مصيرية في رؤيتهم أو سلوكهم، أو لحظة تحوّل مفصلية مما يضفي عليها الإثارة والتشويق والتوتر، وإبعاد شبح الضجر عن القارئ. والقاص يبدأ من داخل الحدث من لحظة التأزم، حيث يرسم القاص صور شخوصه وهي تقوم بالفعل ولا يوضح لنا أفعالها. أما التيمات الأساسية في القصة العربية القصيرة جداً فهي غالبا ما تتحدث عن الصراع الطبقي، وعن الآخر الذي يحاول السيطرة على الوطن، والخيال الفانتازي ، وعن صراع الإنسان الداخلي وعجزه عن التواصل مع الآخرين، والقضايا الفلسفية الكبرى كالموت والحياة والشيخوخة وغيرها. وأما السمات البنائية والأسلوبية فبشكل عام تتمثل في الدخول في متون الفعل دون مقدمات، والقابلية للتأويل وتعدد المعاني والمفاجأة والتكثيف والهجاء المر للمجتمع، تجاوز الواقع وتوظيف شخصيات من الحيوانات أو الجمادات، والارتكاز على الجملة الفعلية والجمل القصيرة التي تصيب الهدف، واقتراب لغة القصة من لغة قصيدة النثر، وظهور القاص كسارد على الأرجح، وكذلك النهاية المشرعة والمفتوحة على المدى وغيرها. مميزات القصة العربية القصيرة جداً من خلال نماذج قصصية لمصطفى لغتيري وسمر حجازي القصة القصيرة جداً لا بد لها أن تروي حكاية ما، وأن تدلف إلى داخل الحدث مباشرة. يقول مصطفى لغتيري في قصة تسونامي: "هنالك في ذيل القارة السوداء، جاء الغرباء فجأة، وطفقوا - بلا هوادة - يدهنون الذيل بطلاء أبيض، فاقع لونه.. من مكانها على مقربة من رأس الرجاء الصالح، رأت موجة سوداء ما حدث، فثارت غاضبة ..انطلقت من عقالها..اكتسحت الذيل، فجرفت ذلك الطلاء الأبيض". تشرع القصة من داخل الفعل، فالغرباء جاؤوا فجأة، ولا تقدم لنا القصة كيف جاؤوا ولماذا، ولا يذكر الكاتب زمن الكتابة، ولم يكن هناك شرح وتوضيح لصفات الشخصيات غير أنهم غرباء عن الأرض التي قدموا إليها. الزمن هنا مفهوم وهو زمن الاستعمار الذي نهب وقتل وشرد، ويريد أن يستولى على مقدرات وثروات أفريقيا السوداء، تتضمن القصة الصراع القاسي الذي خاضته أفريقيا للتحرر من نير الاحتلال والعبودية، والمقاومة البطولية لشعوبها. هنا لا يوجد مكان للوصف المستفيض، فكل كلمة في القصة هي ركن أساسي لا يمكن الاستغناء عنه. هي قصة تصل إلى ما تريد في أقل الكلمات. والحكائية موجودة في القصة، فهي تروي عن غرباء أتوا ليستولوا على أراض ليس لهم فيها حق، واستعباد الشعوب البسيطة والفقيرة، وتنتسب إلى فنون الحكي، فأي قصة تخرج من نطاق القصة القصيرة جداً إذا خلت من القص. وإن غياب الحكائية عن الكثير من النصوص يكون سبباً في إخفاقها. والقصة تعتمد على حدث معين، وهو على الأغلب حدث مفرد كونها قصة قصيرة جداً، ولا بد أن ترتكز على شخوص وفي أغلب القصص الناجحة يكون فيها شخصية مركزية واحدة. ولا يمكن أن يعد النص قصة إذا خلا من هذين العنصرين. إن الحدث في القصة القصيرة جداً يجب أن يكون متنامياً يومئ ولا يوضح، وأن يكون مكثفاً دون إفراط في استخدام الكلمات التي لا تفيد القصة، ويستند على فكرة عميقة، ويتصف بالسمات الدرامية من فعل وحركة وتوتر اللازمة لنمو الحدث وإحداث الرعشة في جسد القارئ وصولاً إلى النهاية في حبكة محكمة ومتقنة. تقول سمر حجازي في قصة وداعة: "صباحا غادرت فراشي، وطفقت أتجول في حديقة منزلي، أنثر حبيبات الذرة هنا وهناك، وأستمتع بنقنقة الدجاج، التي تبعث في نفسي الكثير من الرضا والحب لهذه الكائنات الوديعة. في طريقي إلى العمل، على جانب الطريق، شد بصري وجود دجاجة تنقر بقسوة بيضة، وبشراهة تلتهم الزلال". تنطلق القاصة من فكرة عميقة مع التكثيف اللغوي، فكرة إن الحياة غير منصفة، وإن الكائن الحي عليه أن يقاتل بشراسة من أجل الوصول إلى مبتغاه، وقد استخدمت الكاتبة الدجاجة كشخصية مركزية، تتصف بالمسالمة والوداعة، وكيف تحولت إلى كائن شرس وعنيف وشره لدرجة فض بكارة بيضة والتهامها، وهي لم توضح لم قامت الدجاجة بذلك، ولكن يمكن للقارئ أن يفهم أن الجوع يدفع الكائن الحي للعنف، وأن مصادرة الحقوق التي لا غنى عنها تولد الانفجار والثورة حتى على الطبيعة "الإنسانية". ومن الملاحظ أن في القصص القصيرة جداً لا يكتفي الكاتب بالشخصيات الإنسانية كشخصيات محورية في قصصه، بل لجأ إلى شخصيات من الجمادات والحيوانات، والكاتب مصطفى لغتيري يمتاز بكثرة استخدامه لشخصيات حيوانية كالكلاب، والقرود والدجاج... وقد أخضع لغتيري هذه الشخصيات للأنسنة، وبنى الكثير من قصصه على أنسنة الجمادات والحيوانات "فتتحول الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جداً إلى أقنعة بشرية رمزية تحمل دلالات إنسانية" (جميل حمداوي. من أجل مقاربة جديدة لفن القصة القصيرة جداً. موقع دروب 2009م، ص 144) قادرة على التعبير، والتفكير كما الإنسان. يقول لغتيري في قصة إنفلوانزا: "في مزرعة نائية، أصيبت دجاجة بأنفلوانزا الطيور، فاكتسحها رشح مزمن ..كل الدجاج علم بالخبر فتجنبها..وحده ديك تعاطف معها، فلازمها..أبدا لم يفارقها لحظة..بعد مدة انتقلت عدوى المرض إليه فابتعد عنه باقي الدجاج..بعد أيام قرر الديك والدجاجة مغادرة المزرعة، كي يهيما على وجهيهما، في انتظار المصير المحتوم. ليلا تسللا خارج المزرعة دون أن يفطن لهما أحد.. صباح الغد، أصدرت السلطات قرارا بإعدام جميع طيور المنطقة". من خلال القصة، نرى هذا الديك يتصرف وكأنه إنسان، يحس ويشعر ويتألم، في نظرته إلى نصفه الآخر، وتعاطفه مع الدجاجة المريضة، ومشاركته الفاعلة لآلامها وملازمته لها دون الخشية من الإصابة بالعدوى، وحتى بعد أن يصاب بالمرض نراه يقف إلى جانبها حتى النهاية، ويقررا الرحيل عن المزرعة التي عاشا فيها إلى مكان مجهول قد يكون أفضل وأجمل رغم الموت الذي ينتظرهما. وتكون النهاية المدهشة، والمفارقة. إن الموت طال دواجن المزرعة بعد أن أصدرت السلطات قرار بإعدام كل الطيور. فالقدر له كلمته الأخيرة. في القصص التي تلتقط موضوعاتها من المجتمع، يطغى عليها نقد مثالبه وإظهارها بطريقة قاسية، ولأن المرأة هي الحلقة الهشة في المجتمع، ولأننا نتناول كاتبة، فإن حياة المرأة والواقع القاسي التي تحيا فيه من الموضوعات التي تطرق بكثرة في القصة القصيرة جداً وخصوصاً إن الكثيرين من كتاب القصة القصيرة جداً من النساء. تقول سمر حجازي في قصة العقد: "أهداني عقدا حباته بيضاء ناصعة. تتوسطه حبة حمراء تلفت الأنظار... كثر الناظرون إلى عنقي وكثرت علامات الاستفهام... فرط العقد وتساقطت حباته الواحدة تلو الأخرى... تركتها وبحثت عن الحبة الحمراء... رأيته عن قرب يمعس بكعب حذائه شيئا ما". لأن المرأة مظلومة دائماً، فأنها ستدفع حتى ثمن جمالها الطبيعي الذي وهبه الله لها، تلج القاصة سمر في قصتها إلى الحدث مباشرة "أهداني"، الشخصية الرئيسية واقعة في علاقة غرامية مع شاب، الذي يعتني بها ويحبها بشغف، فيهديها عقداً ثميناً، العقد الذي يثري جمالها، ويزيده تألقاً لدرجة إن الرجال يلتهموها في أنظارهم، يفرط العقد وتتشتت حباته، وفي سعيها لإنقاذ الحبة الأجمل، تراها وحبيبها يدوس بلا رحمة عليها ويحطمها، لتنشطر العلاقة وتتشظى لذنب ليس لها يد فيه، فالغيرة مرض قاتل. ولأن الحدث متماسك بقوة، فإنه يحافظ على وحدته عبر تسليط الضوء عليه. فتعدد الأحداث يهدم البناء القصصي، لذا حققت الكاتبة هنا على الحدث مربوطاً عضوياً بصلابة مما وفر الوحدة الفنية للقصة، وحقق ذلك إبداع قصة بارعة، تثير القارئ وتحقق التوتر والتشويق المنشود. تتصف القصة القصيرة جداً بأحداثها السريعة والشحيحة، لذلك من تقنياتها الاستناد على النهاية الأخاذة اللامعة والمدهشة والتي تجعل القارئ يقف ليتأمل هذه النهاية الصادمة. فالقصة المحكمة والتي تثير القارئ هي التي تخرق السياق الدلالي للقصة، وتهشم النمطية، فالكاتب فيها يتحايل على القارئ، يخبره شيئاً ويقوده عبر القصة إلى النقيض، مما يجعله يعيد قراءة القصة لما أثارته من صدمة، ولإعادة النظر فيما قرأ. يقول لغتيري في قصة حذر: "حاملا سلته، كان الصبي يتعثر على بساط الرمال المتراكمة..بين لحظة وأخرى يدنو من أحد المصطافين، فيعرض عليه بضاعته . من بعيد، لمح الصبي امرأة تتراقص أشعة الشمس على جلدها المدهون..حين دنا منها رفع صوته ،علها تشتري منه شيئا.. ببطء رفعت المرأة رأسها، لمحت الصبي متباطئا يدب نحوها..انسلت يدها نحو حقيبتها الجلدية ..بحذر سحبتها نحوها..ثم عادت إلى غفوتها." يبدأ لغتيري قصته ويقودنا إلى صبي فقير يبيع بعض الأشياء في سلته على شاطئ البحر، يلمح امرأة جميلة، يتلألأ جسدها تحت أشعة الشمس، يمني النفس بأنها ستشتري منه، يدنو منها وعندما تراه تتناول حقيبتها وكأنها نوت أن تتناول القليل من المال منها للشراء، ليصدمنا الكاتب في النهاية، إنها لم تكن تنوي ذلك، بل هي نظرت إلى الصبي كاللص يريد أن يسرق حقيبتها فأحكمت إمساكها. ولا شك أن صدمة القارئ هنا تحفز على الإثارة والانفعال، وجذب القارئ وتشويقه لقراءتها. والمفارقة من تقنيات القصة القصيرة جداً التي تحدد نجاحها أو فشلها، ويستند البناء القصصي عليها لما تتضمنه من سخرية، كما أنها تهب القصة مستويات متعددة للقراءة. وهي تعني سرد حدث ظاهر والقصد حدث آخر بشرط أن يتم ذلك دون افتعال وتصنع بل بعفوية، وغاية المفارقة التشويق والإثارة. تقول سمر حجازي في قصة المعراج: "كل يوم بعد غروب الشمس تقريبا يستأنف أديسون جولته الليلية متفقدا اختراعه.. هو يقوم بجولته حول العالم، وأنا أتخبط في ذاتي باحثة عن بصيص ضوء. مرت تسع وتسعون ليلة على هذا المنوال، وفي الليلة المائة حين كنت أتخبط في تجاربي البائسة للوصول إلى الضوء الكامن في أعماقي، رأيت رجلا يتسلق عمود الكهرباء وبيده مطرقة". تعتمد القصة القصيرة جداً على البنية المتماسكة والعميقة، وترتكز على الجمل الفعلية، لأن ذلك يحقق لها الوصول إلى مرادها أحسن من الجملة الاسمية. كما وتعتمد على الانزياح والذي يعني أن الكلمة لا تعطي معنى واحداً بل تخرج إلى معاني عدة نستدل عليها من خلال سياق القصة. في قصة "المعراج" تكثر الكاتبة من استخدام الأفعال المضارعة (يستأنف، يقوم، أتخبط، يتسلق) وهي من خلال ذلك قصدت زج القارئ في معمعة الحدث، وكأنه يعيشه، ولا ريب أن الكاتبة أفلحت في ذلك. ومن خلال التناص والترميز، تستحضر الكاتبة العالم أديسون مكتشف الكهرباء، يدور حول العالم متفقداً اكتشافه وفوائده، وعلى منحنى آخر تقف البطلة في حالة انشطار لذاتها، وتشعر بالتشتت والضياع وتبحث داخل نفسها عن كمشة ضوء. وبعد محاولات مضنية في سعيها للوصول إلى الحقيقة في أعماقها، وقبل الوصول إلى النجاح والذي يحس القارئ باقترابه، ليفاجأ في النهاية برجل (قد يكون مؤثرا في حياتها)وهو يحطم عمود الكهرباء في داخلها بلا رحمة بواسطة مطرقة ، تاركاً البطلة في حالة من اليأس والإحباط وعدم جدوى المحاولة. وعلى منوال ألف ليلة ولية، تقول الكاتبة: "مرت تسع وتسعون ليلة على هذا المنوال، وفي الليلة المائة..." في تناص يحيل إلى شهرزاد التي لم تيأس، وستبقى تحاول الوصول إلى الحقيقة. وفي النهاية، استحضر قول الكاتب البارع محمود شقير في تجربته القصصية، فيقول: "إنه لا يحبذ البلاغة المفرطة في كتابة القصة القصيرة جداً، ولا استخدام اللغة الشعرية المتخمة بالمجاز. أنا من أنصار التفتيش عمّا في الواقع من شعر، وتقديمه في صياغة قصصية تستعين بلغة سهلة لا تبتعد كثيراً عن لغة الحياة اليومية". (محمود شقير. أنا والقصّة القصيرة جداً. في القصة القصيرة جداً. مرجع سابق. ص 67- 80) وإن الكاتب يمكن له أن يلجأ إلى السخرية والفانتازيا في السرد القصصي دون مبالغة. ففي النهاية الأمر "مرتبط بقدرة القاص وبمهارته وبراعته في صياغة المادة الخام التي بين يديه، وفي الاشتغال على اللغة وتوظيفها على نحو متقن للوصول إلى غايته". (محمود شقير. مرجع سابق) إن القصة القصيرة جداً فن ما زال في مرحلة التجريب، وما انفك بحاجة إلى الأوكسجين من خلال نماذج من القصص الناجحة كتلك التي قمت بدراستها والتي تخترق غابة القارئ الساكنة لتثيرها وتهزها. نماذج تعطينا تذكرة سفر إلى عوالم الإبداع الراقي، وتسلق عنان لذة القراءة ومتعة المغامرة.