رحلة الوعي بين الذاتي والاجتماعي تمر هذه الأيام الذكرى السادسة لرحيل فنان السينما الأشهر والأكثر جدلاً المخرج «يوسف شاهين»، الذي أسس أسلوباً سينمائياً على مستوى الشكل والمعنى لا يُنكره أحد، مهما كان الجدل حول السينما التي يقدمها، إلا أن الاتفاق ربما يكون على مستوى اللغة السينمائية ومفرداتها، والتجديد الذي أدخله على فن السينما في العالم العربي، وخاصة مصر. قدم شاهين طوال مسيرته الفنية التي بدأت في عام 1950 بفيلم «بابا أمين» وانتهت بفيلم «هي فوضى» عام 2007 حوالى (37) فيلماً، إضافة إلى (5) أفلام قصيرة. أثار معظمها موجات متباينة سواء بالرفض أو القبول، كان أشهرها قضية فيلم «المُهاجر» التي أدخلت شاهين إلى ساحة المحاكم، وتم إلغاء (قانون الحسبة) بسبب هذه القضية، وأصبحت النيابة العامة هي صاحبة الاختصاص في تحريك مثل هذه الدعاوى. نال الرجل العديد من الجوائز العربية والعالمية، أشهرها جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين 1979 عن فيلمه «إسكندرية ليه»، والجائزة الكبرى عن مُجمل أعماله بمهرجان كان عام 1997، والاحتفاء بعرض فيلمه «المصير»، إلا أن السمة التي تميز سينما يوسف شاهين هي تجسيد مراحل وعيه الذاتي من خلال القضايا الاجتماعية التي مرّت بها مصر والعالم العربي، وحتى حالة التطرف والقبضة الأمنية التي سيطرت على مصر قبل رحيله. التجديد على مستوى اللغة والشخصيات بداية من فيلمه (بابا أمين 1950) نجد أسلوباً مختلفاً في السينما المعهودة آنذاك، على مستوى اللغة السينمائية، تكوين الكادر والإضاءة وحركة الممثل، إضافة إلى الأداء التمثيلي الأكثر حيوية، مقارنة بأفلام تلك الفترة، إلا أن الفيلم الذي أصبح من علامات السينما هو (باب الحديد 1958) فكانت الشخصية الرئيسية قام بالدور شاهين نفسه وعوالمها غريبة عن السينما التي كانت تجسد مواقف وحالات الطبقة العليا من المجتمع، بخلاف عدة تجارب قليلة ذات قيمة السوق السوداء لكامل التلمساني 1945على سبيل المثال إلا أن شخصية تعاني الهوس الجنسي، وتعيش في بيئة عمال القطارات، كانت غريبة على السينما، بخلاف أداء الممثلين وتحريكهم وتكوين لقطات الفيلم، هنا نجد أن العاهة التي تعاني منها الشخصية (قناوي) مثال لعاهات اجتماعية أكبر، فإصرار قناوي على ملاحقة حبيبته، يُقابله إصرار أحد العمال في تكوين نقابة خاصة برفاقه، وسط المعارضة الشديدة ومحاولات القتل حتى يخفق هذا المشروع. «الناصر صلاح الدين» هذا الفيلم الملحمي الذي أُنتِج عام 1963، في أوج حركة يوليو وزعيمها الرحل جمال عبد الناصر، معادل للآمال المعقودة على هذا الرجل، فأصبح هو صلاح الدين الذي تغنى به شاهين في الفيلم، وجعل من الشخصية الدرامية شخصية تكاد تقارب الأنبياء، رغم أن بالفيلم مغالطات تاريخية فادحة، إلا أن حركة الإسقاط التاريخي على اللحظة الراهنة، ومناقشة الوضع الآني من خلال التاريخ سيقوم شاهين بهذا في عدة أفلام بعد ذلك كانت هي المُسيطرة على الرجل، وكأنه يُقيم احتفالاً يمجد فيه عبد الناصر. من الأرض إلى عودة الابن الضال منذ فيلم (الأرض 1970)، مروراً ب (الاختيار) و(العصفور) وحتى (عودة الابن الضال 1976) تغيّر الموقف تماماً، وأصبح الرجل بعد هزيمة يونيو 1967 أكثر منطقية، وقد استفاق من حلمه كما فعل الكثيرون على كارثة لم يكن يحلم بها. فأصبحت المُناشدة بالتمسك بالأرض، في حالة رومانتيكية وأسى شديد، كما يبدو في موقف الفلاح المصري قام بالبطولة محمود المليجي وإدانة موقف المثقف ورجل الدين والسياسي، الذين تركوا «الشعب» بمفرده حتى أُخذت الأرض منه بالقوة. أما (الاختيار) فهو إدانة مباشرة لفئة المثقفين وأصحاب التنظيرات والأبراج العاجية، الذين لا يتورعون عن فعل القتل في سبيل مصالحهم الشخصية كتب القصة والسيناريو نجيب محفوظ فلا بد من إزاحة كل من يُذكِّروهم بماضيهم البائس. ويأتي فيلم العصفور ليبحث عن أسباب الهزيمة، في بناء درامي مشوّش كما الحالة التي كانت تحياها مصر وقتها، فلا أحد يعرف كيف ولماذا حدث ما حدث! لتأتي خاتمة الفيلم بخروج طوفان من الشعب هاتفاً: «هنحارب». وفي عودة الابن الضال المستوحى من فيلم لوكينو فيسكونتي الملاعين 1969 ويمثل عائلة إقطاعية تسيطر على الحياة في إحدى مقاطعات الريف، ولكن أحد أفرادها المؤمن بعبد الناصر، يعيش في سجونه، ولا يخرج منها إلا بموت عبد الناصر نفسه. حالة الفصام هذه عانى منها الكثير من يساريي وشيوعيي مصر وقتها. * كاتب صحافي