كما قلنا سابقاً، كانت صفة الشمولية، سواء على مستوى تكوين «الكتلة التاريخية» أو على مستوى التوافق على برنامجها، وراء إضفاء صفة «التاريخية» على الكتلة، أي صفة الاستراتيجية، وإبعاد صفة الجبهة، أو صفة التحالف التاكيتكي عنها، لأن هذا الأخير لا هم له سوى تحقيق نصر انتخابي وإلحاق الهزيمة بالخصم السياسي أو الإيديولوجي، في حين تسعى الكتلة التاريخية إلى تحقيق نصر تاريخي للجميع. الكتلة التاريخية «ليست مجرد جبهة بين أحزاب بل هي كتلة تتكون من القوى التي لها فعل في المجتمع أو القادرة على ممارسة ذلك الفعل، ولا يستثنى منها بصورة مسبقة أي طرف من الأطراف، إلا ذلك الذي يضع نفسه خارجها وضدها.. الكتلة التاريخية ليست جبهة معارضة لنوع من الحكم قائم، ولا ضد أشخاص معينين، بل هي من أجل الأهداف الوطنية المذكورة». وعندما تصل شمولية «الكتلة التاريخية» إلى مستوى عظيم من الانتشار في البنيات التي تنضوي تحتها، تغوص متغلغلة في أعماقهما، ولا تبقى مؤثرة على مستوى سطح المجتمع والتاريخ وحسب. وهذا ما يجعلنا نستخلص بأن شمولية الكتلة التاريخية آتية من عمقها: «فالبديل كما يبدو على المدى المنظور هو ذلك الذي يخرج من جوف الأمة كلها، وليس ذلك الذي تنفرد به هذه الفئة أو تلك». ومما يدل على العلاقة الصميمية بين العمق والشمولية أن «الكتلة التاريخية» تضع نصب عينيها مصير الأمة ككل باعتباره جزء لا يتجزأ من مصير الإنسانية جمعاء، متجاوزة بذلك سطح التاريخ إلى أعماقه. في حين لا تهتم «الجبهة» سوى بجزء من الأمة، بتلك الأحزاب والفعاليات التي تنتمي إلى أسرة سياسية واحدة. أو لها حساسية إيديولوجية متجانسة كجبهة اليسار أو اليمين أو جبهة العلمانيين أو رجال الدين، ولذلك تبقى على السطح. نعم، هناك مَن استعمل «الكتلة التاريخية» كحل تاكتيكي فقط للخروج من أزمة اقتصادية حادة، كما فعل لينين، ولكن غرامشي الذي ارتبطت به مقولة «الكتلة التاريخية» تشبث بطابعها الاستراتيجي لأنها تعمل على إعادة سبك العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية والثقافية في إطار من التوافق والتضافر يؤسس لمشروعية سياسية جديدة، أي «لهيمنة» جديدة. وهنا نصل إلى السؤال الحرج: هل تقتضي الكتلة التاريخية فعلاً تعليق الصراع الاجتماعي والنضال الحقوقي «من أجل الديمقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية بكل شروطها» بشكل تام خصوصا إذا علمنا أنها بطبيعتها تجنح إلى السلم؟ إجابة الجابري كانت بالنفي. فبالنسبة إليه لا يمكن التغاضي عن التناقضات تماماً مهما كان عمق الوحدة داخل الكتلة، لا سيما إذا علمنا أن تحقيق أهداف الكتلة التاريخية يقتضي شيئاً من الصراع حولها: فالديمقراطية مثلاً تتطلب تفكيك بنية الاستبداد، والتحرير يستوجب تقويض عوامل التبعية، والتنمية تحتم مقاومة الفساد وخلق الثروة الوطنية. ومما يدل على حضور الصراع في فضاء الكتلة التاريخية أنها هي نفسها خاضعة لتحولات التاريخ. فالكتلة التاريخية لم تخلق لتبقى إلى الأبد، بل خلقت فقط لتشكل «مرحلة انتقالية لنجتاز المأزق الذي نحن فيه». ومتى حققت أهدافها، أفرزت ترتيباً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً جديداً، يتطلب هو الآخر تشكيل «كتلة تاريخية» جديدة. وهنا يتذكر الجابري القاموس الماركسي، ليفسر اختلاف البنيات العليا باختلاف البنيات السفلى، منبهاً بأن الكتلة التاريخية لا تصبح قادرة على الحركة والتغيير إلا إذا كانت حاضنة للاختلاف. وهذا يعني أن الاختلاف، وربما التناقض، لم يعد عائقاً، بل عنصر قوة. وتردد كلمتي القوة والفعل في حديثه عن الكتلة، دليل على أن كل من هو قادر على تحريك الجماهير، وتحريك التاريخ، مرحب به في فضاء «الكتلة التاريخية». سواء كان تقليدياً أو عصرياً، محافظاً أو ثورياً، أي مهما كانت طبيعة وحدة التناقضات التي يحملها معه. وبما أن الكل الكتلوي ليس مجرد حشد تلقائي من الناس، بل هو كل ذو غاية تاريخية، فإنه يشكل قوة تنشأ عنها هيمنة وسيادة جديدة تمارسها على كتلة أو كتل تاريخية أخرى في طريقها إلى الزوال. في ظاهرها تبدو «الكتلة التاريخية» وكأنها بنية سياسية سكونية، إلا أنها عند التأمل تبدو على العكس من ذلك بنية دينامية فعالة قادرة على تجديد السياسة والتاريخ. وتعود قدرتها على التجديد والتغيير، كما سبق ذكره، إلى وجود حركة مزدوجة بداخلها، أولاً بين القوى السياسية فيما بينها، وثانياً بين هذه القوى السياسية والقوى المادية (الاقتصادية خاصة)، وتؤدي هذه الحركة المزدوجة إلى التغيير متى توافقت البنية السفلى مع البنية العليا، أي توافق الثقافي مع الواقعي. قيادة المثقفين للكتلة التاريخية نعود من جديد لنتساءل عن علاقة «الكتلة التاريخية» بالكتلة الثقافية الأيدلوجية: هل كان رفع الجابري لشعار «الكتلة التاريخية» إعلانا صريحا منه عن التخلي عن انتصاره للعقلانية التنويرية، مكتفياً بتوظيفه الكتلة من أجل التاريخ، لا من أجل العقل، أم أن تحميله المثقفين العقلانيين الأحرار مسؤولية إقناع الجسم السياسي لثقافة التنوير؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل من حقنا اعتبار «الكتلة التاريخية» كتلة إيديولوجية، أم أنها بحكم مشروعها الاستراتيجي مضادة للثقافة طالما أن من طبيعة هذه الأخيرة الجنوح إلى الفصل والتمييز الهوياتي، لا الانفتاح والاستيعاب التاريخي للجميع؟ بعبارة أخرى، هل يقتضي الطابع التوافقي للكتلة التاريخية القيام بجملة من التنازلات، من بينها التنازل عن قيم الحرية والديمقراطية والعقلانية والعلمانية، رغبة في تحقيق أوسع وحدة ممكنة، أم أن هناك خطوطاً حمراء ينبغي عدم المساس بها لكي تحظى «الكتلة التاريخية» بالمصداقية المطلوبة من لدن الجابري؟ ونذهب أبعد من ذلك متسائلين: هل «الكتلة التاريخية» فكرة عقلانية حقاً، أم أنها بحكم تكوينها وتحالفاتها الواسعة لا بد من أن تضم أطرافا تكن عداء سافراً للعقل وللحرية وللإنسان، مما يجعلها فكرة لا عقلانية ولا إنسية ومضادة لليبرالية؟ ثم «ما هي الفئة أو الفئات المؤهلة للدعوة والعمل من أجل هذا الهدف؟»، هدف تأسيس الكتلة التاريخية، هل هي فئة المثقفين اليساريين أم كل المثقفين عملاً بروح الكتلة التاريخية؟ وأخيراً هل ما زال في إمكاننا أن نتكلم في زمن الفضاء الافتراضي، في زمن الربيع العربي، عن «الكتلة التاريخية»، وعن «المثقف العضوي»؟ ألم تصنع جماعات الفيسبوك الربيعية تغييراً سريعاً يتسم بنوع من الإعجاز بالنزول من الشارع الافتراضي إلى الشارع الواقعي تواً دون توسط المقولة «الكتلة التاريخية» العتيقة، ودون أن يكون أعضاؤها مثقفين عضويين بالمعنى التقليدي؟ نبدأ أولاً بالإجابة على السؤال المتصل بقيادة الكتلة التاريخية بالقول بأن الجابري كان يرى وجوب تولي قيادتها نخبة مثقفة متنورة، تجمع بين الفكر الديمقراطي على الصعيد القطري والتضامن الوحدوي على الصعيد القومي، لأن السياسيين والاقتصاديين غير قادرين على أن يحلوا محل المثقفين في نشر ثقافة التغيير وإنجاز المشروع الثقافي التاريخي. بل إنه حدد اللون الإيديولوجي والسياسي لهؤلاء المثقفين عندما خاطب قوى اليسار قائلاً: «وإذن، فعلى هذه القوى (قوى اليسار).. تقع مهمة التبشير بالكتلة التاريخية والعمل من أجلها وتدشين عملية الانتظام الفكري حول أهدافها». فإذا سمحت لنا هذه الإجابة بتعديل قولة سابقة له: «نقطة البدء في كل إستراتيجية تاريخية لا بد من أن تنطلق الثقافة نفسها»، لتصبح: «نقطة البدء في كل إستراتيجية تاريخية لا بد من أن تنطلق من الثقافة»، فإننا سنفهم جيداً المعنى العميق «لإعطاء الأولوية للثقافي على غيره» لإنجاز «الكتلة التاريخية» وتحقيق أهدافها الوطنية. ولا شك أن هدف الأهداف الوطنية، الهدف الجامع لكل الأهداف، هو تحقيق الاستقلال التاريخي، باعتباره «الشرط القبلي لكل طموح في صنع التاريخ». بيد أن الجابري يفاجئنا عندما يعرّف الاستقلال التاريخي بالاستقلال الثقافي من التبعية للخارج من جهة، والتحرر من الأوهام الإيديولوجية في الداخل من جهة ثانية، وبخاصة وهم إحدى الفئات بأنها قادرة على «القيام بمفردها بانجاز المهام المطروحة قطرياً أو قومياً». فإذا كان تحقيق الاستقلال الثقافي غير ممكن بدون صياغة إستراتيجية ثقافية نابعة من داخل الثقافة نفسها، فإنه سيتبين لنا أن الاستقلال التاريخي منوط بالداخل سواء تعلق الأمر بالثقافة أم بالإيدولوجيا. أن تكون الثقافة نقطة انطلاقة الثقافة هو تحصيل حاصل، في حين أن تكون الثقافة انطلاقة السياسة والتاريخ، لكونها، أي الثقافة، قادرة على استقطاب الإجماع الفكري حول الأهداف الإستراتيجية للكتلة التاريخية، فهذا هو الجديد. بعبارة أخرى، جاءت ضرورة «إعطاء الأولوية للجانب الثقافي» من قدرته على تأمين «قيام نوع من الإجماع الفكري بين جميع التيارات السياسية والطبقات والفئات والنخب حول قضايا وأهداف وطنية، اقتصادية واجتماعية وثقافية سياسية وقومية، تفرضها الظروف الراهنة على الأمة ككل». ومع ذلك، أي رغم الأهمية الاستثنائية التي يوليها الجابري للبعد الثقافي، فإنه لم يذهب إلى حد الأعراب عن رغبته في تحقيق «كتلة ثقافية»، وإنما كان أقصى ما يطمح إليه هو «تحقيق إجماع ثقافي» حول الكتلة التاريخية. ونفهم من هذا أن إعطاء الأولوية للثقافة في تكوين الكتلة التاريخية هو من أجل التاريخ، فيصبح هذا الأخير غاية الغايات في نهاية الأمر، بينما تبقى الثقافة مجرد وسيلة للوصول إلى التاريخ. والوصول إلى التاريخ، أقصد إحداث تغيير جذري في وجهته، يمر عبر تحقيق عدة مطالب، على رأسها، كما سبق منّا القول، إنجاز الاستقلال التاريخي. ويعني هذا المطلب ثلاثة أمور: إلغاء التبعية، ومواجهة الاختراق الثقافي، والتحرر من الوهم الإيديولوجي بقدرة طبقة أو دولة لوحدها على إنجاز كل مهام الكتلة التاريخية، يولي الجابري أهمية خاصة للاختراق الثقافي، حيث يرى أنه لا يمكن مواجهته مواجهة إيديولوجية أو حزبية وإنما مواجهة شاملة، أي تاريخية، لأن الاختراق الثقافي الذي قام به الغرب لذاتنا هو اختراق عام، وهذا ما يفرض مواجهته مواجهة عامة بالكتلة التاريخية. ونعود إلى مفارقة إعطاء الأولوية للثقافة والمثقفين التي أشرنا إليها، وهي كيف أن إنجاز «الكتلة التاريخية» يتطلب تجميد أو «تأجيل» أو وضع الإيديولوجيات بين قوسين، أي التغاضي عن الأهداف الخاصة بالحزب أو بالتيار الإيديولوجي أو المذهب العقدي لصالح الهدف العام والمشترك، درء لكل صراع وتناحر بين الطبقات والطوائف والشرائح والمذاهب المتعارضة من شأنه أن يعرقل عملية تحقيق المصلحة العليا للوطن. هكذا تتوارى الايدولوجيا لصالح الثقافة في الكتلة التاريخية. رفض الجابري، كما قلنا سابقاً، أن تتخلى الطبقات والتيارات التي تشكل «الكتلة التاريخية» عن أفكارها وتصوراتها للعالم. فشرط التجميد أو التأجيل «لا يعني أن على جميع المدعوين للانخراط في هذه الكتلة التاريخية أن يتخلوا عن مشاريعها الإيديولوجية ومدنهم الفاضلة، بل إن كل ما هو مطلوب هو وضع ذلك في موضعه الذي يسمح به الظرف التاريخي»، كما أنه لا يعني التخلي عن كل المبادئ التي ينهض على أساسها الفكر التنويري الحر كالعلمانية، والحرية وحتى الاشتراكية، وإنما تتطلب تجميد أو تأجيل الخلافات البينية لمدة غير محددة». فالكتلة التاريخية لا تتطلب من الأحزاب والتشكيلات الحاضرة لا التنكر لتاريخها ولا التضحية بأحلامها، ولا حتى التخلي عن أسمائها، وإنما تتطلب منها ارتباطاً جديداً، حياً وفاعلاً، بجسم المجتمع، والمساهمة بالتالي في بعث الحركة فيه من جديد». ويبدو أن شرط وضع القناعات الإيديولوجية والثقافية بين قوسين لتحقيق الكتلة التاريخية، أي لإبراز عقد اجتماعي جديد، هو شبيه بشرط «حجاب الجهل» الذي اقترحه جون رولز، أي الغفلة أو التعالي عن الانتماءات الاجتماعية والولاءات الإيديولوجية والرؤى الثقافية والفكرية من أجل غاية واحدة هي إعادة بناء الذات التاريخية. غير أن هذا التشابه الذي بدا لنا واضحاً سرعان ما يكتنفه الغموض إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجابري ينبه المقدمين على إبرام عقد «الكتلة التاريخية» بأن عليهم ألا ينسوا انتماءاتهم وحقوقهم وصراعاتهم على نحو تام، وأن يعتبروا الوضع بين قوسين هو مجرد تأجيل أو تجميد مؤقت، خاصة وأنه لم يكن يعتبر الإجماع الثقافي حول الكتلة التاريخية أمرا مسلماً به قبلياً، بل كان يدعو إلى فتح نقاش حولها، على أن لا يكون النقاش نقاشاً حزبياً، وإنما نقاش ثقافي. أناط الجابري المثقفين المتنورين بمهمة خلق الإجماع الفكري والثقافي حول المشروع الوطني للكتلة التاريخية وبمهمة قيادتها على الصعيدين القطري (إنجاز الديمقراطية) والقومي (إنجاز الوحدة والتضامن)، لأنهم يعرفون كيف يستقطبون الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والإيديولوجيين لتشكيل كتلة تاريخية غير متجانسة، بل ومختلفة وحتى متناقضة، بفضل إنتاجهم للأفكار الجديدة والحجج المقنعة، مما يؤهلهم لممارسة «الهيمنة». إنهم في الكتلة التاريخية يلعبون دور الصلة المفصلية بين الطبقات والفئات، دور اللحمة الرابطة بين العقل والإرادة، وليس دور المثقف العضوي المنحاز لتصوير إيديولوجي معين للعالم، أو الملتزم بمصلحة طبقة أو بسياسة حزب ضد طبقات وأحزاب وإيديولوجيات معادية. إن المثقفين في «الكتلة التاريخية» إذ يعلقون انتماءهم ويتخلون عن إيديولوجيتهم، فإنما يفعلون ذلك لقاء فتح صفحة جديدة في التاريخ تؤهلهم لممارسة نفوذهم وهيمنتهم، عن طريق نشرهم لتصور جديد للعالم. خاتمة احتلت المقولة الماركسية، أو بالأحرى ما بعد الماركسية، «الكتلة التاريخية»، منزلة كبرى في تفكير الجابري السياسي حملته على اعتبارها «شرط الوجود لأي مشروع مستقبلي في النهضة والتقدم»، بدونها لا أمل للخروج من الأزمة التاريخية التي وصلت إلى ذروتها القصوى في العالم العربي. عندئذ تصبح «الكتلة التاريخية» آخر ورقة يتم اللجوء إليها تعبيراً عن يأس من تغيير ظلم شمولي بالطرق السياسية المعهودة، مع الإقرار باستحالة إنجاز الهدف التاريخي الأسمى للأمة من قبل قوة سياسية واحدة، أو حتى من قبل جبهة من القوى ذات لون سياسي واحد دون غيره. بهذا المعنى تعبر «الكتلة التاريخية» عن رغبة في تغيير جذري لقواعد اللعبة السياسية قصد تحويلها إلى قواعد لعبة تاريخية، على ضوئها تتم إعادة تشكيل الإستراتيجية، أي تحديد مصدر الخطر الرئيسي، وإعادة النظر في ترتيب وتوسيع فضاء التحالف كي يضم كل أو جل القوى والطبقات والتيارات الحية في البلاد. وقد أبى الجابري إلا أن يجعل قيادة «كتلته التاريخية» بين يدي أضعف القوى: «القوة الثقافية»، وعياً منه بأن الاختراق الثقافي هو الخطر الأكبر بالنسبة لشعوبنا وبلداننا. وهو عندما يبوئ الكتلة الثقافية هذه المكانة في تخيله لكتلته التاريخية، لم يفعل ذلك لكونه كان يعتقد بأسبقية البنية العليا على البنية السفلى، ولا بكون الثقافة ثورية بطبيعتها، وإنما لكونها قادرة على الإقناع والحشد والتوحيد والتعبئة والتحريض على التغيير. بهذه الجهة تكون علاقة الكتلة بالتاريخ أشبه ما تكون بعلاقة المادة بالصورة، على اعتبار أن التاريخ هو الذي يلعب دور الصورة، أي ماهية الكتلة. بيد أنه إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التكتل، أي الوحدة والتوحيد، هو الذي يمنح التاريخ معناه، أي صورته؛ وأن الثقافة هي التي تصنع الوحدة والتوحيد، فستكون الثقافة هي ماهية الماهية، أي ماهية التاريخ. ولكن التاريخ لا بمعناه الذي يشير إلى الماضي، بل بالمعنى الذي يرنو إلى المستقبل، على أن العنصر الذي يشير إلى المستقبل في المركب اللفظي «الكتلة التاريخية» هذه المرة ليس هو التاريخية، بل هو الكتلة. فتكون الكتلة بذلك في نفس الوقت محركة وماهية للتاريخ. ومهما تعدّدت زوايا نظر الجابري إلى «الكتلة التاريخية»، فإنه يبدو أنه كان يفكر فيها وعينه على الإمبريالية التي تفتك يومياً بذاتنا، وتعبث بوجودنا ومصيرنا، وتفسد سياستنا، وتنهب وتخرب ثقافتنا. ولعل بسبب هذا التركيز على الخارج لم تنجح دعوته «للكتلة التاريخية». في مقابل ذلك، فكّر شباب «الربيع العربي» في النزول إلى الشارع واحتلاله، وعينه على الفساد والاستبداد الداخليين برؤوسهما السبعة، بدل تركيز نظرته على الهيمنة الخارجية. انبثق الربيع المغربي (حركة 20 فبراير) من خارج الأحزاب والقوى التقليدية وكأنه «خلق جديد»، بدون عصبية تحميه ولا هوية ترعاه، وإلا فلو فكر في الاتكال على العصبيات القديمة لما قوي على النزول من الفضاء الافتراضي إلى الشارع الواقعي. ولعل سر النجاح الميداني لثورات «الربيع العربي» هو أنها كانت في غنى عن الأحزاب والمثقفين، أي في غنى عن الكتلة التاريخية، وهذا ما جعل «الربيع العربي» حركة أكثر مما هو تفكير، فعلاً أكثر مما هو تنظير، فكانت إبداعا لا يمكن إدخاله في قالب «الكتلة التاريخية»، لأن هذه تقوم على «مصالحة» وطنية أو قومية سلمية بين الأطراف المتصارعة، بينما «الربيع العربي» لم يكن يريد إقامة لا مصالحة ولا توافقاً، وإنما استئصال الفساد والاستبداد بتجلياتهما المختلفة كي تعود الدولة إلى طبيعتها الأصلية أداة في خدمة المواطنين، لا آلة جهنمية في أيدي مصاصي دماء الأمة. هكذا يبدو الإنسان الربيعي (نسبة إلى الربيع العربي) مختلفاً جذرياً عن الإنسان الكتلوي. لكن هل فعلاً نجح هذا الإنسان الربيعي خفيف الظل في قلب التاريخ؟ يبدو أن التاريخ ما زال عنيداً يكرر نفسه باستمرار. فكما أن اللحظة الرشدية مهدت لظهور اللحظة الغزالية! فإن لحظة «الربيع العربي» مهدت لسيطرة يمين محافظ مضاد بطبيعته للتاريخ بمعناه المستقبلي وللثقافة بمعناها الإنسي وللحرية بمعناها الإبداعي. هذه مفارقة أخرى تنتظر مَن يغامر في التفكير فيها، وفي توقف الحتمية والضرورة عن الفعل في عالمنا العربي. *أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس