أين سنقيم قداس احتفالاتنا المسرحية؟ نكاد لا نمل، في بلادنا، من تكرار عبارة «قلة وانعدام البنيات التحتية الضرورية» لاستقبال الفرجات المسرحية بالمواصفات والشروط التقنية والفنية المتعارف عليها دوليا.. في كل تظاهراتنا ومهرجاناتنا المسرحية، المقامة هنا وهناك، في المدن الكبرى والصغرى وعواصم الجهات، نضطر لتقديم عروضنا على خشبات ليست ككل خشبات العالم، وفي صالات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها تصلح لعرض كل شيء ما عدا الفرجة المسرحية.. ومن داخل هذه المهرجانات، لا نمل من ترديد نفس الصرخات: «أين سنقيم قداس احتفالاتنا المسرحية؟» وأين سنقدم منتوجنا الإبداعي بعد معاناتنا الطويلة مع المسالك الوعرة للإنتاج والترويج وظروف الشغل القاسية؟ أو ليست البناية المسرحية مجالا لتوفير فرص الشغل للممثلين والفنانين المشتغلين بالدراما المسرحية؟ وبالتالي ألا يشكل غياب وانعدام مسارح صالحة للعرض مساسا بحق من حقوق الفنانين، حقهم في الشغل أساسا، ثم حقهم في التعبير.. باعتبار أن المسارح تشكل منصات راقية للتعبير الثقافي والفني والتواصل مع الناس.. ألا يعتبر هذا الغياب الفظيع للبنيات المسرحية الضرورية ضربا صارخا لحق من حقوق الجمهور وعموم المواطنين وخرقا لمبدإ حق الولوجية للثقافة والفنون؟ ثم، بعد كل ذلك، كيف سيتأتى للجمهور أن يتصالح مع مسرحه الوطني في غياب مكان للقاء به؟ وكيف لنا أن نربي مواطنينا وأسرنا وأبنائنا على ارتياد المسارح والمسارح أصلا غير موجودة.. لاحظوا كيف أن الإقبال على ملاعب كرة القدم يكاد يصير عادة اجتماعية لدى الناس وموعدا أسبوعيا منتظما لدى بعض الأسر، لا لشيء إلا لأن ثمة ملاعب وبنيات رياضية موجودة ومؤمنة ومفتوحة أمام الجميع.. في كل اللقاءات والندوات والمؤتمرات التي تنظمها الدولة ومؤسساتها أو بعض الهيئات المنتخبة أو هيئاتنا التمثيلية أو بعض الجمعيات الثقافية أو بعض الأحزاب السياسية، نصر على رفع عرائض ولوائح مطلبية تتصدرها الحاجة إلى فضاءات لائقة باستيعاب عروضنا المسرحية.. لكن لا حياة لمن تنادي؟... إلا من رحم ربك.. دعونا الآن نشخص الواقع ونفصله حتى لا يقول قائل إننا نتنكر لما تحقق من منجزات في هذا الباب وننفي بعض المؤسسات المتواجدة والنشيطة، رغم أن الواقع يعلو ولا يعلا عليه.. كيف ذلك؟ في المغرب المعاصر لا نتوفر سوى على بضع مسارح بمواصفات مقبولة إلى حد ما، وبمقومات متفاوتة من حيث الجودة والنوعية، ونقصد بالمسارح تلك البنايات والمؤسسات التي وضعت أساسا لاستقبال الفرجة المسرحية والفرجات الفنية، وليست قاعات عروض داخل مركبات أو مراكز ثقافية أو صالات داخل العمالات والبلديات. ولا شك أن التقويم والإحصاء في هذه الحالة سيكونان ميسرين للجميع: 1- فهناك، أولا وقبل أي شيء آخر، المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط الذي ينفرد من حيث المواصفات والمقومات بقدرته على توفير كل ظروف وشروط الفرجة، من خشبة بمعايير دولية، وصالة المتفرجين مريحة، وتقنيات الصوت والضوء من مستوى عال، وإدارة محترفة، وموارد بشرية مهنية، وبرمجة منتظمة ومتنوعة، وميزانية سنوية، ومجلس إداري يراقب سير العمل، ومقاربة تدبيرية ناجعة وفعالة، وشراكات متعددة، وتواصل دائم ومستمر مع الزبناء.. هذا هو المسرح الوحيد في بلادنا الذي يتمتع بهذه الصفات؛ وما عدا مسرح العاصمة، ليس في المغرب، إلى حد اليوم، مع الأسف الشديد، أي مسرح آخر بهذه المواصفات. الآن ما هي تلك البضع مسارح التي ذكرنا قبل قليل؟ 2- بعد المسرح الوطني محمد الخامس يمكن الحديث عن مسرح سعيد عفيفي بمدينة الجديدة، في الدرجة الثانية، إلا أنه يفتقر لشروط الحياة والانتعاش في غياب ميزانية قارة وبرمجة منتظمة وهلم جرا.. رغم أنه يعد أقدم مسرح في البلاد.. 3- ثم هناك مسرح المحمدية، الذي قيل عنه إنه أكبر مسرح في إفريقيا، والذي يكاد يشكل اليوم أسطورة بسبب المشاكل التي تراكمت حوله جراء هيمنة بعض العقليات المتحجرة التي حرمت ساكنة المحمدية ومسرحييها وفنانيها من معلمة وقع تشييدها وتجهيزها منذ أزيد من عقدين من الزمن بملايير السنتيمات، وحين تلج مسرح المحمدية اليوم تجد كل تجهيزاته معطلة. حتى اسمه لم يستقر على عنوان، فتارة يسمونه مسرح عبد الرحيم بوعبيد وتارة يسمى المسرح البلدي، وتارة له مدير وتارة بدون إدارة، وسمعنا مؤخرا أن ثمة شراكة نسجت خيوطها بسلاسة بغية حل المشكل الأزلي لهذا المسرح، بين البلدية صاحبة المسرح وبين وزارة الثقافة من أجل التسيير والتنشيط، إلا أن الاتفاقية فسخت من طرف واحد، ولا ندري المصدر الذي يملك القرار؟ 4- مسرح محمد السادس بجماعة الصخور السوداء بالدار البيضاء، الذي اشتهر بفضيحة التمويه أثناء التدشين حين كذب المسؤولون المنتخبون على ملك البلاد لما جلبوا أو اكتروا أرفع التقنيات الصوتية والضوئية ليؤثثوا بها القاعة والخشبة يوم التدشين، وحينما غادر الملك أبهاء المسرح، انتقلت كل التجهيزات إلى صاحبها، وبقي المسرح فارغا إلا من الخشبة والكراسي.. حتى أن الموظف المكلف بتسيير المسرح أقنع عمدة المدينة أن المسارح لا تجهز لأن الفنانين والفرق المسرحية يتكفلون بذلك أثناء تقديم عروضهم، وكأن عمدة المدينة لم يلج قط قاعة مسرح من مسارح الدنيا.. شأنه في ذلك شأن العديد من رؤساء بلدياتنا.. والواقع أن مسرح محمد السادس لا يحتاج سوى لتجهيز تقني جيد ومدير محترف وميزانية قارة ليصبح من أحسن مسارح الدار البيضاء، خصوصا أنه يتوفر على مرافق مهمة ويتواجد في منطقة قريبة من وسط المدينة في حي نشيط تجاريا وسكانيا.. والولوجية إليه ميسرة بكل وسائل النقل الحضرية بما فيها الترامواي الذي يمر بجانبه ويرسو بالقرب من محطة القطار «الدار البيضاء المسافرين». هذه هي المسارح القليلة جدا التي نتوفر عليها في مغرب الحداثة والديمقراطية، ولا أدري كيف تستقيم مفاهيم بهذا الحجم من دون مسارح تعكس الحياة الثقافية والإبداعية للشعب؟ بقية مسارح المغرب، إن شئنا أن نسميها مسارح، مجرد قاعات لاستقبال الفرجات تتوسط المراكز والمركبات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة أو البلديات.. وهي وإن كانت متفاوتة من حيث الحجم والجودة وقدرتها على استيعاب الفرجة، فإنها تلتقي في قواسم مشتركة منها عدم تمتيعها بالاستقلالية، وعدم تمكنها من إنتاج الفرجات المسرحية، وافتقارها لبرمجة قارة وواضحة المعالم. فعلى مستوى عواصم الجهات نكاد لا نعثر بها سوى على قاعة واحدة، باستثناء مدينة الدار البيضاء، بحيث نجد مثلا قاعتي محمد زفزاف وثريا السقاط بالمعاريف، مسرح المركب الثقافي مولاي رشيد ببنمسيك، مسرح سيدي بليوط، قاعة كمال الزبدي بسيدي عثمان.. كلها فضاءات ناقصة إما من حيث التجهيزات التقنية، أو من حيث غياب إدارة قارة وميزانية وبرمجة منتظمة، أو من حيث كونها في حاجة إلى إصلاحات وترميمات.. هناك استثناء واحد بالعاصمة الاقتصادية هو مسرح حسن الصقلي رغم أنه يحتاج بدوره إلى ميزانية وبرمجة وتنشيط.. في باقي العواصم، نجد بالكاد قاعة في حجم متوسط كقاعة المركب الثقافي الحرية بفاس، وقاعة المركز الثقافي المنوني بمكناس، وقاعة المركز الثقافي الداوديات بمراكش، والمسرح الملكي بمراكش الذي يشتغل بنصف حجمه الحقيقي فقط بينما النصف الآخر ما يزال ورشا في انتظار إتمامه؟... والغريب في الأمر أن عواصم جهوية ومدن كبرى ومتوسطة لا تتوفر، إلى حدود اليوم، لا على مسرح ولا على قاعة عروض صالحة للمسرح، من حجم أكادير والعيون وتارودانت وتطوان وأصيلا وشفشاون والناظور والقنيظرة والداخلة وسطات وخريبكة وكلميم والعرائش وسلا والخميسات وإفران وورزازات والراشيدية وخنيفرة وإنزكان والصويرة وسيدي سليمان ومارتيل وتاوريرت وبركان وتيفلت وأزرو وبويزكارن وطانطان وطاطا وواد زم وبرشيد وتمارة وبوزنيقة وبنجرير وغيرها.. وثمة مسارح صغرى جميلة ومجهزة تابعة لدور الثقافة والمراكز الثقافية لوزارة الثقافة أو بعض البلديات تسع لما بين 300 و400 متفرج متواجدة في بعض البلدات والمدن الصغرى كتزنيت، سلا الجديدة، قصبة تادلة، بنسليمان، أبي الجعد، سيدي رحال، قلعة مكونة، أزمور، خميس الزمامرة، الحاجب، الحسيمة، المضيق، الفنيدق، أزيلال، أسفي، مولاي ادريس زرهون، جرادة، فيكيك، بلقصيري.. وهناك اليوم بعض المسارح التي انتهت فيها الأشغال الكبرى والصغرى والتكميلية، وسلمت لأربابها، وأصبحت جاهزة للاشتغال، لكنها ظلت مغلقة لمدة غير قليلة، في مدن كأيت ملول، وتارودانت، وتازة، وبني ملال ووجدة.. أما في مدينة الرباط، فقاعة باحنيني الموجودة في قلب وزارة الثقافة، أصبحت فضاء بدون هوية ولا رئة، والحال أن وزارة الثقافة لا تخلو من منشطين وفنانين مقتدرين ومهنيين بمقدورهم تسيير وتدبير وتنشيط هذه القاعة الصغرى الجميلة وبميزانية متوسطة الحجم. وقاعة المهدي بنبركة بحي المحيط مهملة تماما، وقاعة علال الفاسي الشهيرة التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة غير نشيطة، وقاعة المركب الثقافي أكدال لا تصلح إلا لنوعية خاصة من العروض، وقاعة المنصور في وضعية مرتبكة.. إذن قاعات الرباط العاصمة في أمس الحاجة لتدخل حازم وحاسم لنفخ الروح فيها وإعطائها ما تستحقه من عناية ودينامية. وهناك المشاريع الثلاثة العملاقة التي سيشكل لا محالة علامات حضارية شامخة في سماء المغرب الثقافي المعاصر، وهي مسرح الدار البيضاء الكبير، ومسرح الرباط أبي رقراق، ومسرح طنجة الذي دشنه ملك البلاد ضمن مشروع مركب ثقافي ضخم، الأربعاء الماضي، حيث تتصف هذه المشاريع الثلاثة بكل مقاييس المعمار المسرحي الحديث في فضائها الداخلي والخارجي، ومحيطهما البيئي والمجتمعي والسكاني.. نتمنى أن تتمتع باقي عواصم جهات البلاد الثلاثة عشر بمثل هذا الامتياز الرائع الذي يضفي صورة جميلة على وجه المغرب، وسمعته وصيته. وإذن، هذا هو الواقع الحقيقي لبنياتنا المسرحية المتأرجحة بين الغث والسمين، بين المكتسبات القليلة والإخفاقات الجمة في باب توفير الفضاءات المسرحية وحق الولوجية للثقافة ودمقرطة الشأن الثقافي ببلادنا. ولا يمكن للدولة ومؤسساتها وجماعاتها الترابية أن تتملص من مسؤوليتها في هذا الباب بأي شكل من الأشكال، لا سيما وأن الاستثمار في الثقافة وبنياتها لا يغري رؤوس أموالنا الوطنية ولا مقاولاتنا الكبرى، التي باستطاعتها، في إطار إعمال مبدإ المقاولة المواطنة، أن تستثمر في الإنسان لتنميته وإسعاده على مستوى وجدانه وعاطفته وروحه وذوقه وثقافته وتراثه وهويته. من ثمة على الدولة أن تغير نظرتها واستراتيجيتها ومخططاتها فيما يخص بناء الإنسان، ومخاطبة العقول، وصنع المستقبل.. وعلى الدولة أن تفكر وتعي بأنها كلما بنت مسرحا بحي أو قرية أو مدينة إنما تعزز المسالك لمواطنيها نحو التربية على الديمقراطية والحرية والكرامة وعزة النفس، كما تقطع الطريق المتواجد بجانب هذا المسرح على كل أعمال وأفكار العنف والتطرف والظلام، كما تربي شبابا محبا ومتذوقا للجمال والفنون، وتبعده عن كل مظاهر الاستلاب والانحراف والانزلاق، وتجعله متشبثا بهويته ومؤمنا ببلده ومتطلعا نحو عيش كريم ومستقبل أفضل. ألم يكن المسرح مهدا ومعهدا للديمقراطية؟ أليس المسرح قناة للحوار ومنبرا للتعبير الحر؟ أليس المسرح فضاء للبوح واللعب والحرية؟ أليس المسرح محكا حضاريا للصراع الثقافي والفكري والسياسي؟ أليس في المسرح متعة ونشوة وسعادة؟ أليس في المسرح سحر وإبهار ودهشة وعجائبية؟ أليس المسرح تربية على الكلام والمعاملة والذوق؟ أليس بالمسرح تقاس ثقافة وحضارة وذكاء الأمم والشعوب؟ من قال إن المسرح أبو الفنون، ما أخطأ وما ادعى وما زعم وما كذب. فاعطونا معمارا مسرحيا، نعطيكم إبداعا راقيا.. أما اليوم فلا نبالغ إن قلنا إننا نقيس إبداعاتنا الدرامية وديكوراتنا وعدد شخوص مسرحياتنا، بل وحتى أفكارنا وخطاباتنا بحجم ونوعية القاعات والفضاءات التي تستوعبها..