تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات    مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    كيوسك السبت | أول دواء جنيس مغربي من القنب الهندي لتعزيز السيادة الصحية    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقاء: الشاعرة المغربية وفاء العمراني في سلسلة «تجارب إبداعية» بتطوان
نشر في بيان اليوم يوم 28 - 02 - 2014

تواصل سلسلة «تجارب إبداعية» في حلقتها الثانية والثلاثين عبورها المدهش في أرخبيلات الثقافة المغربية بقلب مفتوح نحو المعنى. عبور متجدد على مدى سنوات حوّل المدرسة العليا للأساتذة بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان، بتأطير محكم من الأكاديمي والأديب عبد الرحيم جيران إلى فضاء سحري لترسيخ قيم الجمال والحوار والاختلاف والربط بين الأجيال والحساسيات. حلقة الشاعرة وفاء العمراني تميزت بحضور مكثف لعدد من الرموز الثقافية والأكاديمية والسياسية والجمعوية والإعلامية والنقابية والتربوية، فضلا عن الطلبة والباحثين الذين شكل حضورهم نقطة ضوء لافتة تشي بأن هذا الجيل لم يفقد بعد حبله السري مع أدبه، حيث يصر على الاحتفاء بالنبوغ المغربي. لذلك وقف طويلا وصفق بحرارة لتجربة وفاء العمراني الشعرية الممتدة في الزمن والمكان في لحظة استثنائية تفاعل معها الحاضرون وفاء لشاعرة لماحة راصدة لتحولات العالم. اللقاء الذي أداره باقتدار عبد الأحد الحداد افتتح بمداخلة رصينة للشاعر والباحث محمد أحمد بنيس وسمها ب «المغايرة في المتخيل الشعري لوفاء العمراني» انطلق فيها من الأفق الشعري المغاير لتجربتها سواء في بعده الفني أو الجمالي أو الأسلوبي، متوقفا بداية عند أهم انعطافاتها على مستوى ممكناتها اللغوية والتخييلية الخصبة منذ عملها الأول ''الأنخاب'' الصادر سنة 1991 «حيث استطاعت بناء وتشكيل تجربتها والدفع بها قدما لتتاخم حدود المطلق بكل أبعاده الحسية والرمزية والمعرفية، كل ذلك في سياق رؤية شعرية أصيلة يسندها هاجسُ الانفتاح الخلاق والواعي على روافد معرفية وشعرية في غاية الخصوبة»، مقترحا تبعا لهذا السياق ثلاثة مداخل للاقتراب من تجربتها بدء من «اللغة كعتبة للكشف»المتمثلة في انشغالها بتلك اللغة الشعرية الباذخة التي تمد القول الشعري بدهشة تحول النصوص إلى عتبة الذي يفضي إلى عوالم بديعة تشتعل فيها الاستعارات والصور وتحلق عاليا، حيث تتحول اللغة إلى أداة جمالية وفنية هدفها نحت متخيل شعري عذب يغرق القارئ في صور شعرية موحية. هذا التفرد يعود إلى انتباه وفاء العمراني المبكر إلى الممكنات المتنوعة التي تمنحها اللغة في اشتغالاتها المختلفة.
أما المدخل الثاني فرص «اشتباك الجسد بالنص»، حيث ألمح فيه الباحث محمد أحمد بنيس إلى تفرد ونضج تجربة الشاعرة وفاء العمراني في تعاطيها مع الجسد باعتباره أفقا لتحرر الذات وكسبها معركة الوعي بكل أبعادها الرمزية والثقافية،إذ يشتبك الجسد بالنص في تجربتها ضمن سياق تعزيز فاعلية الذات الأنثوية في مواجهة عالم محكوم بسلطوية ذكورية تخترق الثقافة والوعي. حيث لم يكن الجسد في أعمال الشاعرة مجرد رافد جمالي تؤثث به نصوصها، بقدر ما كان شرفة تطل بها على ذاتها ضمن مشروع لإعادة اكتشاف هذه الذات عبر تعزيز وعي مغاير بها. في ضوء ذلك، يمكن فهم واستيعاب تلك الرؤية الاغترابية التي تخترق النصوص محدثة حالة من التشظي العارم. ممثلا في هذا السياق بنصين «أرحبَ من ضيق الماء» و«أول الحلول من مجموعة «الأنخاب». لينتقل تحت هاجس الحفر إلى نص «أوراق الشمس» في ديوان «أنين الأعالي» حيث النفس الصوفي الضاج باحتمالات التلاشي بين الريح أو التحام الجسد بالروح ضمن سياق وجودي تسقط فيه الحدود بين الشيء ونقيضه. إنهاحالة إشراق آسرة تكتسح النصوص وتُحولهُا إلى حلبة تقارعُ فيها الشاعرة ذاتها وجها لوجه، حيث يشتبك الجسد والروح في التحام رمزي في غاية الدلالة. أما المدخل الثالث والمتمثل في «الحضور عبر الغياب»، فقد توقف من خلاله على عملها الأخير'' تمطر غيابا'' حيث اختارت الشاعرة أن تعبر بروحها إلى حيث يرقد بسلام شعراء البشرية حين يغادرون هذا العالم حاملين معهم أرواحهم التي لم يتلفها الصدأ. ويأخذ الأمر منحى مختلفا حين يكون أحد هؤلاء الشعراء شاعرا عربيا في قامة محمود درويش، بكل ما خلفه من إرث إبداعي وإنساني ونضالي. ورغم أن هذا العمل هو تحية شعرية وإنسانية إلى هذا الشاعر الكبير، فإن الشاعرة تجعل من غيابه الفيزيقي مدخلا لأمرين اثنين. أولا: إعادته إلينا من خلال نصوصه البديعة التي تستحق الحياة مثلها مثل أشياء كثيرة على هذه الأرض. ثانيا: إدانة الوجود الذي يسمح للغياب بأن يتسيد ويتحول إلى حقيقة وحيدة ترهن الوضع البشري للأبد، وتدفع به إلى تخوم التلاشي الكامل.
أما الشاعرة وفاء العمراني فقد قدمت شهادة وسمتها ب»صداقة الماء»، في ما يلي نصها الكامل:
شهادة الشاعرة وفاء العمراني
لعنتي الأنوثة ومجدي الكتابة
«مساء الشعر والمحبة والجمال/ودامت لكم سكينةُ القلبِ وضوءُ السريرة، وإذاً، التفاتةٌ «قِيمِيَة» طافحةٌ نبلاً، راشحةٌ صدقاً، سيما في هذا المفرق التاريخي المفصلي في ثقافة المغرب، في ظل راهنٍ ثقافي، في معظم ملامحه مُقبِلٍ على الآنيّ، منشغلٍ بالعارضِ، منصرفٍ إلى التصفيق والتهليلِ، أوملهوفٍ على كرسيّ، أو حبيس ظلاميَّةٍ فاتكةٍ، أو أسيرِ تقليديةٍ ناخرةٍ(عدوّنا الأول هذه الأيام) أو حتى مهووسٍ بتجارة الأفكار؛ على حساب المعاني العميقة لوجود الإنسان: في علاقته الحرة والواضحة سواء بذاته أوبالآخر(المختلف عادةً) أوبالأشياء والعالم من حوله.
في ظل هذا الواقع المؤلم والغريب الذي يجحف الطاقاتِ والإبداعَ وروحَ الابتكارِ الأصيلِ، في زمن الصفقات والمتاجرة بكل شيء حتى بالعقل والقلم، ما أحوجنا إلى قيمة روحية نبيلة عُليا إلى الشعر: صفاء وصدقا وحلما،
لهذا كله، وأكثر، أحضر اليوم بينكم، أصدقائي، تقودُني خيوطٌ سريةٌ أجهلُ متى وكيف تأسست، غير أني، بقوّةٍ، أحدسُ حضورها.
تغمرني اللحظةُ بفيضٍ من الإسرارِ والانسرارِ دونما حُجُبٍ..
هل أُسِرُّ النجوى؟!
إذاً اسمحوا لبوحي المنفلتِ أن يتجدْوَلَ عبر أسمَاعِ حضراتكم، عصفاً حيناً، هدوءاً آخر، في أقاصٍ تَشف وتَشفُّ، لا من الإئتلافِ، لا من الاختلاف؛ بل من عبق السُّؤَالِ ومَوْجِ الأحوال.
كَيْ أَبُوحَ لا أحتاجُ إلى أن أعرفكم واحدةً واحداً؛ يبتكرُ المبدعُ أصدقاءه مثلما يبتكرُ الأزمنةَ، الأمكنةَ، الولاداتِ.. ويوماً ما قال زارا أو نتشه على لسان زارا: (لقد طلبَ المبدعُ يوماً رفاقاً لهُ وفتش عن أبناءِ آماله، فأدرك أنه لن تجدهم إذا هو لم يخلقهم خلقا). عادة لا أتكلم كثيراً، خارج النص، عادةٌ آليتُ على نفسي ترسيخها منذ البدايات، آثرتُ دوما أن تُعرِّف بي نصوصي، وتواريثُ عن اللقاءات الصحفية والاستجوابات والتصريحات المجانية... أجَّلْتُ الكلامَ طويلاً إلى أنْ آنَ أوان بعضهِ مع وصول التجربة الشعرية إلى أحد منعطفات نضجها بعد عقدين، والآن بعد ثلاثة عقود ونصف، سأروي فضول بعض الأحبة هذا المساء.
أتيتُ من بيتٍ مغربيٍّ عربيٍّ فقهيٍّ (فالسيد الوالد خريج جامعة القرويين وأحد الأعلام المتبحرين في علوم الدين في منطقتي)، كل ما فيه يوحي باختيار واضح مسالم مؤالفٍ، أي بانقياد تقليدي تام...
في أفق هذه المهادنة التي بدأت تلوح لي متعبة بأفقيتها، يتسلل هاتف مغرق في الغور، لاجٌّ في السؤال، كي يستنفرني إليه، في الثانية عشرة من عمر لم أدرك وقتها أنه حافل بكل هذا الرحيل، تَتَفَتَّقُ شهوةٌ لم أدرك أيضا أنها هي الأخرى قادرة على كل هذا الإسار.
إنها شهوة الكتابة، شهوة المغامرة، شهوة الرفض، شهوة يعرفها، فقط، من خبر «صداقة الماء» واستسلم لحنوّ الحجر، لعلو النجم، لعزلة الشمس...
كيف لا وقد أسستْ لها غواياتُ جبران خليل جبران، وهنا أول مرفأ لي بلبنان في سن التاسعة، فبقدر ما كانت تجنحني عوالمُه، وتمنحني هامشاً مغرياً من الحلم، بقدر ما كانت تجلدني كتابات مصطفى لطفي المنفلوطي بتقليديتها؛ فيما ظلت كتابات مصطفى صادق الرافعي عماداً لغوياً لا يُفحم...
مَنْ؟ صوت قلق عنود
مِن أَيْنَ؟ من أقصى تخصباتِ الغربة
مَا؟ باتجاه صداقة الضوء، صداقة النجم، صداقة الماء...
نعم صوت وكفى، لا رجل ولا امرأة
(قَدْ) صوتُ الكائن قبل الانفصال
(وَقَدْ) لم يحدث الانفصال أصلاً.
الهوية:
يصعب أن أحدد لي هويةً، خصوصيةً داخل الأنوثة أو حتى خارجَها، ربما لسبب يطوي بي السنوات أربعين وراءً، حيث داهمتني الكتابة أولاً، فالأنوثة ثانياً، وللحدثِ قوةُ الدلالة وثقلُ الحمولة.
نعم، دمُ الحرف كان أسبق لاجتراحي، اختراقي ولانبجاس عبري قبل دم الأنوثة! وكلاهما عُمِّدَ في فضاءٍ مثلثٍ من: الحميمية-الألم-الإنشداه. كلاهما ولادةٌ طلقُها قلق وجعٌ وانتظار.. كلاهما، أيضاً، خلاصُه، خَتْمُه ُسكينةٌ ودبيبٌ يُشبه الخدَر.
لكن فيما يسري الدم الأول (الكتابة) باتجاه المغامرة، البداية، التأسيس، يماهيه ألقٌ غامضٌ ويحذوه فرحٌ خفيٌّ حفيٌّ ضاربٌ في العتاقة أو قد أورق منها؛ يسارع الثاني (الأنوثة) ليخط مجرى النهاية والخلاص بكل ما يطيقه ولا أطيقُه من الآلام المجانية.
هكذا تُحَدَّدُ هويتي في الثانية عشر فرحاً يحاصره حزن لا يُغادر، وكأن قدري أن أكون أذكى من أن أسعد!كأنما السعادة للأغبياء فقط أو الأقل ذكاء!
وإذاً اقتحمتني الكتابة قبل أن تقتحمني الأنوثة! تحدِّدُ الهويةُ سلفاً وقبل الاختيار أو القدرة عليه. هكذا أيضا، (لعنتي الأنوثةُ والكتابةُ مجدي)، وعبرهما يتأسس الإسم أو الجسد الشعري، وتنهض قامة القلب مكابرةً عاليةً في رحلة الكشف هاته.
لهذا لا أقبل بشكل من الأشكال أن يزج باسمي الشعري ضمن بدعة ما يسمى ب (الكتابة النسائية)! الإسم: وفاء وكأنها قدري..الوفاء بلا شرط في زمنٍ شَحَّ فيه الوفاء مثلما شَحَّ الهواء. الوفاء للهويّة: الكتابة، ورفض أي مستقبل = وضعية خارجها، رفض تصوره حتى.. بإصرار وبألوهية؛ بل رفض كل ما قد يشوش عليها.. (في العمل كما في الحياة الخاصة) الوفاء للمبدأ، غنيت للحرية بمسؤولية ولو بأفدح الأثمان: الخسران والتخلي» العزوف بكل أشكاله، ومن الجهة المقابلة الإقصاءُ والتهميش عقابا! الوفاء للأصدقاء، فالصداقات النوعية النادرة عبر العالم هي ما يؤسس العمر لديَّ. الوفاء للقلب واختياراته، ما لم تَمَسَّ هذه الاختياراتُ الكتابةَ أو تشكِّل خطراً عليها... الوفاء للمنبر الذي اخترتُه للنشر بالمغرب (جريدة الاتحاد الاشتراكي-المحرر سابقا) والمنابر التقدمية بصفة عامة داخل المغرب وخارجه. البدايات:
الوقت نهايةُ السبعينات، المشهد لا قرار، الساحة الثقافية متخمة ومثخنة ب «السياسي». الحظ كل الحظ للعبة الخانات وصراع الانتماءات. حظوةُ أو حضورُ الجماعي، والإلغاء أو الإقصاء للذات، للفرد.
أغادر مدينتي القاسية بحبها «القصر الكبير» شمال غرب المغرب، كانت مدينتي علمية بامتياز، حاضرة وادي المخازن، وموقع معركة الملوك الثلاثة، والشعر والموسيقى والفقه!! قاصدة فضاء الرباط الذي اختارني بقوة سحرية عجيبة لازلت أجهل فك طلاسم أسرها حتى الآن، وأتعرف شيئاً فشيئاً على المناخ الثقافي العام ببلدي، مبدعين، منابر، ملتقيات، وخانات.
آلاف علامات الاستفهام ترتسم، عشرات الطرق وكلها غامضةٌ ملغومةٌ التردد؟ الاندفاع؟ بل التأني كيما تتضح الرؤيا. التمهل في الاشتعال خوف الاحتراق ليصير التروي إيقاعا لخطواتي الإبداعية بفضل حدس داخلي دوما يقودني. ومنذ تلك الفترة قال: لا للاحتواء أيا كان شكله أو غوايته.
يحل بكُليتي-أنا طالبة الأدب العربي، شاعر كبير، وموقعه في الوجدان والذاكرة الشعريين أيضا كبير. يحفزني الأساتذة والأصدقاء، فأكاشفَه ببعض ما انكتب عبره. أطرح أمامه صبيحة ذاك اليوم أوراقي/ هلوساتي، ثم فجأة يخطر ببالي أن ألتقط حقيبتي وأهرب!يا للجسارة! من أكون؟!
وقبيل أن أفعلها، يعالجني شاعرنا بجملة انكتبت على أولى صفحات كراستي الشعرية الحميمة، وعلى أولى خطواتي الإبداعية (أحتفظ بالجملة للتاريخ) هي النذر، هي البدء، هي الوعد. بعدها تُعمدني مجلته الرائدة «مواقف» التي كانت تصدر آنذاك ببيروت بخمسة نصوص شعرية تحمل عنوانا: (موج التناقض العذب) والجملة مأخوذة من إحدى قصائدي ليتخطفها مباشرة الملحق الثقافي لجريدة «المحرر»، الاتحاد الاشتراكي الآن، وأنا معتزة بذلك لنوعية قرائه الحداثيين آنذاك. هنا تبدأ المباهج ومعها المتاعب..قالوا: تمرس بالكتابة، دراية، تميز.. وإذا اسم مستعار لرجل! استخسروا فيَّ الأنوثة، وأصروا على المشاهدة، قصيدة بصرية صرتُ! وجهوا إلي الدعوة باتحاد كتاب المغرب؛ حيث كانت أحلى قراءة شعرية في عمري، تلك القراءة/الولادة في 5 زنقة سوسة بالرباط(مقر الاتحاد بالرباط) ولدتُ ونشأتُ وترعرعت. ونموت ولامستُ النضج قبل أن أغادر إلى غربة أكثر وحشة وشموخا... وأتى الشكاكون الفضوليون (جلهم صاروا أصدقائي) يتأكدون، يتهامسون، يستمعون.. قرأتُ كانت المفاجأة لي هذه المرة: التحفظ لأنني (امرأة) أو لي شكلُ امرأة. استكبروا عليَّ قصائدي (التي مدحوها) وقالوا: هو من يكتب لها. الرجل! بيد أن القصائد توالت ومعها توالى الإيذاء والجرح والمرارة.
في أثناء ذلك، قبله وبعده، توالت سنوات العمر بلا استئذان وتناسيت أنني امرأة ولي الحق أن أصير أُمّاً لأطفال حقيقيين إلى جانب القصائد حتى نَيَّفْتُ عن الثلاثين... فكانت أروى ابنتي أجمل قصيدة في حياتي، فآثرت أن أحيا لها وبها ومعها ومنها في مد وجزر على هوى أمواج الشعر وسموه.
حين كنت أخجل أو آنفُ اقتحام الآخرين، مثقفين وأشباههم أو مشاركتهم جلساتهم، أُوسَمُ بالعنجهية أو العجرفة أو (الكبرياء) الذي غدا ميسمي، أو بلغة السبعينيات (بالبرجوازية). وللإسم وشاية بذلك (العمراني) من كبريات العائلات وذات أرومة من النسب الشريف القطب مولاي عبد السلام بن مشيش جدي).
حين أتحفظ يُشكَّك في انتمائي أو موقفي.
وإذا ما غالبتني التلقائية وهي طبعٌ لديَّ لا تَطَبُّعٌ، سِيءَ فهمي وناهيكم عن أشكال وألوان وأحجام (الاستقطابات) و(الإغواءات).. أورثتني مواجهاتي هاته حدة في الطبع دخيلةً، وكثيرا من العصبية والشك. تخلصت من الأولى بعد مراسٍ في المجال الدبلوماسي وتلك حكاية أخرى.
لم يكن قط سهلا الاعترافُ، بُذِرَ طريقي شوكاً لا ورداً. ولم يركز على إبداعي بالقدر الذي تعرض له شخصي و(شكلي) من القراءات ونضح كل إناء بلونه وحجمه ونكهته.
من جهتي كان الصمود، الإباءُ والكبرياء. أحيانا اللامبالاة سلاحاً ضد ما يفسد الحلم) مثلما علمني أستاذي الأول. كان أيضا سيل من الخسارات. خسرت أشياء وأحلاما ومواقع. ومرات كل شيء. لكن الحدس ذاتَه الذي يقودني دائما، كان يزودني بألغام من العناد والإيمان بوهم جميل..يوما ما. طريقي رسالةٌ وعليَّ أن أَجْدُرَ بها.. من أجل ذلك لا يهم كثيرا الخسران. الأكثر أهمية أن أكسب، باستمرار، نفسي، ونفسي باستمرار...
في الأول لم يكتبوا عني، رغم شهادتهم لي لا عليَّ. في السنوات الأخيرة فقط يُشرع هذا الالتفات، تلك القراءة أو ذاك النقد، لكن في اعتقادي يظل حَيِيّاً وبقدر.. أهو الخوف؟ أم.. أم هذه الازدواجية المخربّة لكل شيء جميل في وجدان المثقف العربي؟
ظني لأن لي شَكْلُ امرأة(لها أو كان لها في شبابها) وذات مواصفات معنية! ظني كذلك أنني حين سأرحل ستنهال على عملي القراءات!! وإذا الإسمُ، الهيأةُ، الخصوصيةُ: عناصرُ شكلت عوائقَ بَاعَدَتْ، في البداية، ما بيني وبين حضور فعَّالٍ حقيقةً، زمنا وحجماً هو حقِّي. كانت أستاراً لا مرايا أو نوافذَ...
هكذا آذتني الأنوثة فيما لم تسعفني مثلما يحدث لكثيرات حاليا بكل استسهال تحت تَعِلَّةِ: (الكتابة النسائية)كما يسمونها. وهذه مهزلة أخرى.
هكذا أيضا غدا الجسد ناراً لا تضيء بل تَشوي، تُحرِّقُ، تُدمِّي وبلا هوادة.. صعب أن تكون أذكى من أن تسعد! وكأن السعادة للأغبياء فقط.
الكتابة هي (من) منحني الحريةَ.
والأنوثة هي (ما)حرمنيها.
لا شعوريا، بدأت الرغبة في قتل الأنوثة الجسدية مقابل تأسيس جسدية الكتابة عبر خلق (جسد) في الكتابة الشعرية المغربية والعربية هو جسد الإسم، جسد الهوية، اللغة، التجربة، الخصوصية (الشاعرة)، والقصيدة ما هي في الحقيقة سوى تمتماتِ ذلك الجسدِ أصلاً.
على هذا النحو، وبمثل هذا الزخم بدأت الملامح الجسديةُ الأولى مع شهوية (الأنخاب، ديواني الأول)، وصوفية (أنين الأعالي) فافتنانا بالأقاصي مع (فتنة الأقاصي) التي شكلت تجربة فريدة في مجال النشر الشعري بالمغرب مع شريط صوتي في ضميمة شعرية متميزة وذات خصوصية..إلى ما هيأته له في مع (هيأت لك) الذي زاوج بين الشعر والتشكيل مع الفنان محمد المليحي أيضا متميزة، انتزعت أهم جائزة رسمية في بلدي (جائزة المغرب للكتاب)، إلى (حين لا بيت) مع الفنان محمد البوكيلي ونشر عشية ذهابي للإقامة في دمشق. ثم حاليا مع (تمطر غيابا)، كتبت في فترة إقامتي بالشام الغالية. في اشتعال الجسد يتكون إيروس/ إله الحب عند الإغريق، إيروس يحمل في طيات وجوده تناتوس أي الموت.
الحب والموت وجهان للغة واحدة هي الجسد.
الحبّ إضاءة والموت عتمة، وبينهما تنسج اللغةُ انخطافاتها والجسدُ تاريخَه.
للجسد أسطوريتُه، سحرُه وشهويتُه، لم تكن لتتفتح لديَّ في أبهى تجلياتها إلا بالحرف أو عبره. وكأن السُّرى نحو البدئيّ الغريزيّ لا يتم إلا عبر الروحي السامي المثالي.
الكتابة هي (من) منحتني الحرية.
والأنوثة هي (ما)حرمنيها!
نأتي إلى العالم لا نحمل، لا نملك شيئا ولا حتى حق المجيء، لا نملك منا سوى الجسد عاريا، ما تبقى كله مكتسبٌ: فكراً، عقيدةً وسلوكاً.. وإذاً. أنتَ جسدُك وجسدُك أنتَ. أنت عصرُك، موقعُك، تجربتُك، صدفتُك (ولعل أدق ما في الوجود هو الصدفة!) كتبت عن هذا بدقة في أنين الأعالي.
لا الذاكرة (الماضي) ولا الغيب يؤسسانك أو يمتلكان وجهتك. تلك مسؤوليتك في ظل التقليدية الوارفة الناخرة عظمَ الثقافة والتراث العربيين: فكراً وإبداعاً وقراءاتٍ.
هكذا كان علي أن أواجهني، كي أواجهني كان علي أن أفهمني، كي أفهمني كان عليَّ أن أكاشفني، علي أكاشفني كان علي الاشتغال على ذاتي كثيرا وبلا كلل. بسؤال وبغيري تاميْن كيما أستطيعُ أن أتفحصني في المرآة، وبحجمي الحقيقي: تضاريس، نتوءاتٍ، مغاورَ وندوباً أيضا، نحو غمر من التجريب والمغامرة.
حضوري بينكم هذا المساء، بكل هذا الانكشاف، وبهذه الصيغة الجديدة، مغامرةٌ في حد ذاته، وخطوة أخرى في طريق مغامرة الإبداعية الكبرى.
طريق به عثرات مثلما به قفزات وتألقات وأنا أغازل الخمسين بعمر ازدحم بالرحيل والغياب لكل ما هو بهي، أعرف شيئا واحدا هو أنه لو قدِّرَ لي أن أبدأ (النشيد) من جديد لما عزفت غير طريقي المحتدم الحافل الطافح بضوء الجرح..ولو بالإخفاقات ذاتِها كيما أتذوقُ النجاحات ذاتها.
فيما نطقت به أو عبره، مسكوتٌ عنه ظل مستعصياً خفياً أو عجزتُ عن إنطاقه. بينكم من سيكشفه ولا ريب، لعله ذلك المتلقي المرهف، الصديق المحتمل.
واعذروا جرأتي/ ألمي هي هفوةُ الصدقِ أحبائي، ومثلما استمعتُ كثيرا بالحديث إليكم هذا المساء، أكيد أنني سأستمتع أكثر بالاستماع منكم مستقبلا حول هذه التجربة الشعرية المتواضعة لكن (المختلفة) والتي أطرحها اليوم بين يديكم في كثير من الحبّ.
شهادةُ البوح هاته أسميْتُها (صداقةَ الماء) لأن الماءَ وأنا ذاكرتان للمحو، ولأنه وحده القادرُ على أن تَخُطَّ مجراه بنفسه، ربما أشبهه في مسيرتي التي ابتدأت وتشكلت خارج السربِ، خارج المؤسسة، خارج كل نفوذٍ أو احتواءٍ أو دعمٍ..وامرأة على الرغم!».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.