الأم هذا الكائن، الكينونة الأبدية. هذا الإنسان الذي وضعته كل الديانات السماوية في قمة القمم، نعم كل الديانات السماوية وحتى الوضعية، كل المصادر التشريعية السماوية والأرضية، المادية والروحية، شكلت الأم عندهما نقطة التوافق/ التوحد المطلق. الأم قصيدة شعرية: كل شعراء الكون تغنوا بالأم، احتفلوا واحتفوا بها، تغنوا بها ورهنوا حياتهم بحياتها ما الذي يجمع بين الأم والشعر؟ انه الشعور والوجدان والحب، فكلما اقترب الشاعر من لغة الأمومة، كلما اقترب من مصدر الإلهام الخصب، لنتذكر الشاعر الفلسطيني محمود درويش وهو يحن إلى خبز أمه وإلى قهوة أمه. إن هذه المواد الغذائية بمعزل عن منحها بأيادي الأم، تبقى مجرد مواد غذائية لكن ربطها بالأم ولد فعل الحنين / الوجدان / العشق. الأم شاعرة بامتياز: من هذا المنطلق السالف الذكر يتضح لنا أن كل أمهات هذا الكون. هن شاعرات بامتياز حتى وإن كن يعشن فعل الأمية (لاحظ فعل التداخل اللغوي بين الكلمتين) فالقاسم المشترك بينهما هذا البعد الفطري / الطبيعي. نعم الأم شاعرة بامتياز بوجدانها وتنبؤاتها، شاعرة بقلبها الفياض، بقلبها الخصب المملوء بالعطر والروائح التي تذكرك في مصدر ولادتك، مصدر حياتك، طعامك الأول، ثديها / حليبها، لقيماتها الأولى، قطرات مائها الأولى، ابتساماتها الأولى، كليماتها / أصواتها الأولى. إن الأم بهذه المعاني الفطرية الأولى هي الأمة، بل هي الكون! نعم وما ينهض عليه هذا الكون من تجليات إلهية، فكل شيء فيه يوحى بقوة خالقه، وما الأم إلا ذلك التدفق الوجداني /القلبي/ الباطني.إنها وبكل بساطة، تدفق نوراني/إلهي حجة أخرى تؤكد عظمة هذا الخالق والمتجلية في عظمة وجدان قلب هذا الكائن الشعري الذي يفتقد الكون قيمته الجميلة بمعزل عنها. إنها الأم نعم، الأم فحتى المادة الصوتية لكلمة الأم لا تخلو من أصوات ذات بعد فطري طبيعي فهي من جملة الأصوات التي ينطقها المولود الإنسان والمولود الحيوان وتصدرها بعض مكونات الطبيعة الصامتة، وليس عبثا أن يربط الخالق رضاه برضاها، وليس عبثا أن يوصينا نبيه المصطفى بها ثلاث مرات والأب مرة واحدة، ليس عبثا أن تكون رائحتها همزة فصل بين الحق والباطل كما ورد في القرآن الكريم، ليس عبثا أن يتواصل المولود معها بأصوات وحركات ويتفنن هذا المولود في فك رموزها ودلالاتها، ليس عبثا أن يتمتع الكاتب المبدع (في مجال المسرح أو الشعر أو السينما أو القصة أو الرسم..) بقوة التوظيف لهذه الرمزية الإنسانية الخالدة. إن الإصغاء إلى شعرها /شاعريتها بكل لغات العالم، وبكل رموز التواصل الإنساني القديم المحفور في العديد من صخور هذا الكون. إصغاء من شأنه أن يغير نبضات قلب السامع كيفما كان وضعه سواء بصيغة المفرد أو الجماعة، فماذا لو أصغى صناع قرار هذا العالم إلى كلام/ قصائد أمهاتهم، ايم الله لو أحضر كل مسؤول صورة أمه وهي تداعبه، لتوقف وامتنع عن توقيع العديد من قرارات ضرب واغتيال أطفال هذا العالم سواء كانوا في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو لبنان أو فيأي نقطة من هذا العالم. نعم لو أحضر صناع القرار في عالمنا العربي صورة الأم لما وقعوا على قرار تخلفنا ونهب حياتنا، وجعلنا ندخل قاعة انتظار طويل. كل شيء معلق فيها وإلى إشعار آخر في زمن تتبعثر فيه أوراق هذا العالم، ليوزع إلى قسمين: عالم أمريكي / صهيوني/ غربي يمارس طقوس الديموقراطية حينما يتعلق الأمر بأمر داخلي يهمه، ليكشر عن أنيابه حينما يتعلق الأمر ببلد أو قضية من صنعوا تخلفه بخطة اقتصادية / هندسية محكمة. ألم أقل لكم إن الاقتراب من الأم هو اقتراب من حكي فطري، حكي حقيقي يصبح فيه القلم متوج بهذا الحب، ليقول الحقيقة بكل صدق، إن الأم بهذا المعنى حكم طبيعي، الاقتراب منها يعني الابتعاد عن فعل الشر والعكس صحيح، بل ولعمري إن أروع ما كتب ورسم وقيل في الإبداع العربي، بل والإنساني ككل هي تلك القطع أو النتف المرتبطة بها. لذلك تبقى الأم، هذا الكائن الأبدي، الجميل، واحدا من أسرار هذا الكون. أسرار هذه الحياة، فنحن نقترب إليها في كل مراحل هذه الحياة، بل وحتى في مماتها ننتظر التواصل معها، بفك رموز ما نشاهده من أحلام، أو رؤى لنعيد صياغته وفق شبكة الرموز التي كانت تحكمنا في تواصلنا معها، لنؤول ما شاهدناه وفق خارطة طريق تتميز بالحب والوفاء والإخلاص. إنها الكائن الذي نستحضره في صلواتنا وفي آلامنا وآمالنا، فقبور الأمهات قبور شهداء الحب والوصال والعطر والفوانيس والدروب المضيئة بالنور الإلهي، تقبيل هذه القبور تطهير للجسد والروح من كل تعفنات هذا العالم الموحش بوحشية عولمته المؤلمة. فكلما أحسسنا بانغماسنا في هذه العولمة المبتعدة في العديد من نواحيها عن لغة الأمومة ومكوناتها الثقافية العميقة، نستحضر أمهاتنا في حياتهن ونتخيلهن جميلات في مماتهن، نحاورهن بصمت نطلب منهن السماح، نطلب منهن العون والدعم، نطلب منهن ابتسامة الولادة، ونستحضر تلك اللقيمات الأولى التي هي ألذ لقيمات هذا الكون حتى ولو أتيحت لنا فرصة مضغ مطابخ بيوت رؤساء وحكام وإقطاعيي هذا العالم. إنها اللقيمات الأولى التي يبني بها الجسم مادته / حيويته الفطرية الأولى، فلقيمات الأم واحدة من متع ولذات هذه الدنيا / الآخرة، لقيمات نستحضر من خلالها طهر وقدسية هذا الكائن الذي أزوره بشكل مقدس، كلما أحسست بهفواتي وزلاتي تتكاثر، أحتمي بهذه الزيارة لأجدد رغبتي في الحياة / الكتابة / البحث عن معان جديدة لعالمنا الذي أرهقنا بدمائه التي تسيل ونحن نأكل لقما غير لقيمات الأم، فماذا لو أحضر الجميع صورة الأم، ماذا لو أحضرنا كل اللحظات الممتعة معهن؟ ماذا لو قررنا إزالة خطايا هذه الوحشية الكونية التي تصاغ بثنائيات ضدية بدءا مما هو عالمي وصولا إلى ما هو جد محلي، بالتقرب إلى لغة الأمومة الخالدة؟ فماذا لو أصغينا إليهن في الحياة والممات؟فاللهم اجعلنا على مقربة دائمة من أمومتنا يارب. *كاتب مغربي