توقيعات مفكر في أبجديات مبدع لم تكن الكتابة – يوما – شكلا وكفى.. ولم تكن مجرد أفكار عابرة، سكنتْ العقل بُرهة من الزمن، ثم غادرته لتقطن القرطاس وقد تسربل بسيول المداد، وتمنطق بتمائم الحروف المعلقة على جسر «الإبداع» بمختلف تحققاته. وأنا أقرأ كتابات «شعيب حليفي» – بل وأنا أكرر ما قرأتُ له – أجدني مشدودة في كل مرة، إلى عوالم بعيدة.. عوالم.. تنضح بندى الوجدان.. وتحتفي بعمق الفكر.. وتشدو بصفو اللغة التي يكتب بها «شعيب». فإذا بالمكتوب قطعة متلألئة، تتدحرج على سواد المداد لتُحيله شعاعا متدفقا من نوافذ الدلالة الموحية بشتى الرموز... الدلالة.. تأخذ أبعادها في هذه القراءة، من صيغة «القول المأثور» الذي يجري في نصوص «شعيب» فيستوقف القارئ، ويحيله على محكمة الفكر و القلب معا.. حيث يستقيم التدبر، وينأى بك إلى ضفاف «الحكمة» دون سابق إشعار... روايته: تراب الوتد، سيرته: لا أحد يقفز فوق ظله، رحلاته: أسفار لا تخشى الخيال، نصوصه على الإنترنت، في شكل يوميات.. مقالاته، حواراته، كلها مجتمعة.. تؤكد «سلطة القلم» الذي لا تغالبه سلطة، مهما علت.. وكيفما كانت.. حاولتُ هذه المرة، انتقاء ما جاء في كتابات «شعيب» أو قُلْ ما جاء في توقيعاته السريعة، النابضة بحس التجارب إزاء مواقف و ظروف تمليها الحياة، وتستقطبها الحروف لتشكل منها فِعْلا كتابيا موجزا يجري مجرى «المأثور في سمو المعنى، ويسلك مسلك الجمالية في لغة مغربية مطواعة، تنساب انسياب التّبر المذاب على سطور الصحائف... أولا: مأثور رواية «تراب الوتد» حفل السياق في هذه الرواية بأقوال مأثورة، وظّفها الروائي حسب استدعاء المقام لها، فجاءت متنفسا داخل المشاهد المتوالية، يستشعر معها القارئ استراحة ذهنية، تنتقل به من ملاحقة الأحداث، واقتفاء أثر الشخصيات، وُولُوجِ الأماكن التي حددها السارد و اقتناص الأزمنة، ما بين فِعْلَيْ التأزم والانفراج.. إلى فضاء آخر َيشِي بالسكينة وبالتدبر، وبالارتفاع إلى قمم الفكر المطلق، حيث اليقين الراسخ في أبلغ تجلياته: -1 «أنا ألتقط بعيني الزمن العابر والمختل، أُدوّنُهُ و أعيد رسمه حتى أفهم ما يدور حولي» (ص: 208). -2 «لست خيطا للرقع..!» (ص: 215). -3 «إن الأسلم في هذه الحياة، أن يحيا الإنسان جزءا كبيرا من حياته في الخيال» (ص: 222). -4 «التعب لا يكون من الماضي أو من الحاضر والمستقبل.. وإنما من زمن آخر هو الذي يتأملك و أنت تحكي..» (ص: 242). -5 «الأوهام توجد فوق الأرض، والحقائق تسبح في السماء وتغوص في باطن الأرض.» (ص: 318). -6 «هو الألم دائما يسحق الكلمات، فيترك على سحنات المعاني غبارا سخاميا..» (ص: 23). -7 «في أحايين كثيرة، أفكر لماذا يموت الميت عندنا أكثر من مرة؟ وكيف تسيل مآقينا بأكثر من سؤال دونما جواب؟» (ص: 11). -8 «للخيبات وجوه تستطيع الانفلات في فضاءات متعددة داخل زمن واحد (...) لِأَيّ أحكي؟ الاموات مشغولون بالحسرة والندم والتفرج على حياة الدنيا، بسخرية كبيرة. أمْ للأحياء بلغة اليتم والكرنفال، وهم في زحمة الانسحاق اليومي؟ لا أحد يهتم.. فالرحى تطحن كل شيء.. والحياة ملهاة تزهر بعروقها الملأى بالدم المنهار» (ص: 14). ثمانية توقيعات اختزلتُها من رواية الكاتب، حملتْ في طياتها الفكرة، التجربة، الحدس.. وما استقام لك من الظنون... ثانيا: مأثور «شعيب»/نصوص الإنترنت هي توقيعات جميلة، تنمُّ عن شاعرية صاحبها، حين يفسح المجال لقلمه .. ولِقلبه، ولِفكْره، فإذا بالمعاني الشامخة، تناجي العقول والقلوب في طرح جديد، يدعوك للتأمل، ويصطحبك في فسيح أرجائه.. يقول «شعيب»: -1 «الحياة توازي الإبداع والتجديد لِصدّ الأفول الزاحف، وهي من تحقق لنا ذلك السمو الحافظ لطهرانيتنا..» -2 «هل من الواجب أن أرى ما لا أحب؟» -3 «طهراني لا تعني أننا ملائكة، نحيا في أبراج نورانية نطل منها على البشر، وإنما هي كوننا نصارع ولا نهادن أو نستسلم ولكننا سائرون نخطئ ونصيب» -4 «أرى الزمن واحدا بصحاف لا منتهية، نتعاقب عليها لنعيش اللحظة نفسها بأشكال لا منتهية..» -5 «هل نحن فراشات عابرة؟ وحدها ملائكة الله تقيد أعمالنا ودقائق حيواتنا في كناشاتها العظيمة..» -6 «لا شىء َيهمّ! أتركونا فقط في دروبنا الضيقة والمألوفة نتجول ونحكي...» -7 «النص مثل الولد، لا يحق أن ينسب لغير أبيه ..» -8 «الحياة الجميلة لا تحتاج إلى مؤرخ أو مبدع ليقيد غُنجها..» -9 «... لأني في كل حياتي، امتحانات لا تنتهي..» -10 «كانت رغبتي دائما في دكّ الأرض، دكا على الزيف الذي طال كل شىء للاغتسال بعرق حقيقي» -11 «أنا الذي لملمت الدهشة قطرة قطرة ثم خبأت كل شىء في قلبي..» -12 «صارت الثقافة هي التي تتعرض للاعتقال والتهميش..» -13 «من الضروري أن نعبر عن موقف يشكل قاعدة لإبداعنا وتفكيرنا ونقدنا أيضا..» ثالثا: مأثور كتاب: أسفار لا تخشى الخيال/ الأيام -1 «أنا أثق في أحلامي المتضمنة لعلامات وإشارات مرتبطة بالسياقات النهارية والأحداث التي أعيشها.. إنها جزء من حدوسي السرية، والتي يبقى تأويلها عندي وعند غيري يسيرا وفي المتناول..» (ص: 99). -2 «لماذا حينما تهطل الأمطار، يعاودنا الإحساس بالحنين إلى جدنا آدم، كأننا أتربة حية من صلصال رباني نفرح بالمطر الذي يروينا.» (ص: 102). -3 « بإمكاني معاودة ركوب فرسي الذي تركته مربوطا في الخلاء، قبل ألفي عام أو أقل بقليل..» (ص: 106). -4 «بإمكاني معاودة الركوب عليه دون سرج ورسن أو لوازم، والانطلاق بعيدا للعبور نحو روحي» (ص: 106). -5 قلت لصديقي الذي كان على يميني: لا تخش أعداءنا، فلن نموت أبدا إلاّ إذا قتلنا أصدقاؤنا..» (ص: 106). -6 «نحن أيتام منذ موت محمد» (ص: 106). -7 «روحي التي تعلو وتعلو وانا أعلو معها، وأطمع في معجزة من ربي ليشاركني بوحي منه، حتى أعبر عما يغلي في دواخلي بقول معجز منه، صادق عفوي نافذ..» (ص: 126). -8 «الشمس التي تطلع يوميا منذ أن رفع آدم نظراته الطاهرة بحثا عن نصفه الأزلي وسط زمان و مكان لا محدود... ليست عابرة» (ص : 137). -9 «أريد أن أكون في غاري عابدا مطلقا، أدون حياة أمتي و أحلامها متأملا في من نكون... هل نحن نور الانبياء أم رمادهم الساخن أم صوتهم الساكن في أكباد الأزل؟» (ص: 142). -10 «لا تُصدِّقْ كلّ ما ترى وثِقْ فقط بخيالك.» (ص: 148). -11 «لا تكره أبدا أعداءك. ». (ص: 148). -12 «أعداؤك هم من يعرفونك ولا تبغ الوصول إلى معرفتهم.» (ص: 148). -13 «اجعل من تفكيرك نهرا يجري، وكلما حفر عميقا في مجراه الطويل والصعب، أصبح ماؤه على السطح، عذبا وصافيا.». (ص: 148). -14 «لا تكن واضحا واختر الدقة فقط.». (ص: 148). -15 «إن أسوأ الدروس هي التي تبرر كل شيء.» (ص: 148). -16 «أفدح الأخطاء تكرار الخطأ الأول.». (ص: 148). -17 قد تستعيد كل شيء ضاع منك.. ولكنك لن تستعيد نفسك إذا ما ضاعت.». (ص: 148). -18 «حياتنا مسارات و مراحل، تتغير فيها الأدوات والأمزجة باستمرار..» (ص: 148). -19 «قطاران: واحد متوقف والثاني يجري في الاتجاه العاكس.. في أي منهما تكون، هل ستشعر بنفس الشعور؟». (ص: 148). -20 «لا أومِنُ بالمصادفات العبثية، فلشد ما تكررت، وما أكثر ما خبرت مقاصدها.. إنها إشارات شاهقة تجيء في كل فصولها رموزا، عليّ تصديقها والاجتهاد في تأويلها..» ص20. -21 «المطر الذي يهبط منذ بدء العالم ويضرب الأرض حبا و غزلا، ليس عابرا» ص 137 -22 «هل يستطيع النهر تغيير مجراه حتى أغير قدري عن الموت المحتوم؟ لم يفكر أحد من قبل، كيف تشكلت تلك العلاقة أول مرة بين الماء والمجرى. وليس بين النهر والنهاية» ص 137 -23 «ألم أقل لك يا رفيقي، نكون رمادا أو بشرا أسوياء، أو لا نكون!» ص179 -24 «كل إنسان يملك مرآة رمزية يفك بها شفرات ما يسمع ويرى، وما يفكر فيه، ونفس المرآة تصوغ له المعاني التي ينتجها» ص102 -25 «روح الرحالة مثل سفينة ترسو في الميناء، لتهدأ قليلا وتستريح من تقلبات النهر والبحر، تشم رائحة التراب والناس. إنه عبور ناعم من الموت إلى الحياة.» ص: 112 رابعا: لا أحد يقفز فوق كلماته بعد هذه الاستراحة الذهنية، في رياض القطوف الواردة في رحلات «شعيب»، أنتقل إلى رائعته: «لا أحد يقفز فوق ظله» وهو العنوان الذي توّج سرديات «شعيب» وغدا في حد ذاته قولا مأثورا، يحمل سِحْر الفكرة، في بساطة لغوية مشرئبة إلى ُبعْد دلالي يختزل معنى القضاء والقدر، وما شئتَ مِنْ آفاق التأويل في رحاب القراءات المختلفة.. -1 «تخيلت كثيرا، و لكني لم أتخيل قساوة الفراق..» ص: 182. -2 «جذبتنا لا يعرفها إلا من خلا قلبه وعقله من الظنون، وامتلأ بالدهشة والمجاز» ص: 149 -3 «لم تعد الحياة في جوهرها كما خلق الإنسان لها، و خلقت له.. فطال حياتنا غبار وسخام وزيف، حتى بعدت عنا وصارت تحتاج منا إلى مجهود ملحمي للتنقيب عنها واكتشافها من جديد» ص: 100 -4 «الطهرانية هي ما يحصنني من الرجات المستمرة في كثير من قيم المثقفين، وهي ما يجعلني أحفظ الود لأصدقائي وأساتذتي» ص: 96. -5 «لو فكرت في القيمة الوحيدة التي لا أقايضها ولو بروحي، ولا أبحث لها عن مبررات مهما كان الوضع، لوجدت أنها الإخلاص وعدم الغدر بكل أشكاله وتفاصيله وفي جميع مناحي الحياة.» ص، ص:44-45. -6 «إنّ من يطعنك غدرا، يمكن أن يفعل أي شيء ويمارس كل الموبقات لكون نفسه ذليلة و بها عطب لايبرأ. فقيمة الإخلاص هي السمو بالنفس التي تجعلك تشعر بامتلاء كامل ودائم بالحب والطمأنينة.» ص: 45. -7 «لست نادما على شيء، فقد عشت كما أردت.. فخورا بحياتي وشجرة أنسابي من أبي وأمي، وقبيلتي، ولست خاشيا الموت وإنما يؤلمني الغدر..» ص: 44. تنتهي هذه الورقة، بالإشارة إلى أن القول المأثور، ِبلغته المعاصرة، في نتاجات «شعيب حليفي» سيظل رافدا من روافد الفكر والوجدان معاً، فكلاهما رسّخَ واقعا إنسانيا، وكلاهما سطّر ملمحا ثقافيا، وكلاهما حفر سبيله في الذاكرة، فالتقطته هذه الذاكرة، واحتفظت به احتفاظ النفس بالذخيرة ...ولعمري، ما أصدق الشاعر حين بادر فأنشد في هذا السياق: مِنَ الناس َمنْ لفظه لؤلؤ يُبادرْهُ اللّقط إذ يلفظ. اكتفي بهذا.. وحسبك من القلادة، ما أحاط بالعنق! إنها النثرات الشاردة نحو الارتقاء الإنساني في أعذب تجلياته، وإنه الوعي الوثيق الصلة بالذات وبالآخر، حين تسطع شمس الإبداع من سهول المزامزة، وينتشر الرحيق، فيعبق المكان ويلذّ المقام. الإحالات: رواية «تراب الوتد» شعيب حليفي، الطبعة الأولى 2013، دمشق، محاكاة للدراسات و النشر والتوزيع. كتاب اسفار لا تخشى الخيال/ الأيام. شعيب حليفي، الطبعة الأولى، يونيو 2012، منشورات القلم المغربي، دار القرويين. لا أحد يقفز فوق ظله، شعيب حليفي، روايات الهلال، أبريل 2012، القاهرة.