خفتت الرياح كأنها تخلي فسحة للتأمل. وحده الموج يملأ المكان بحضور صاخب. أخطو مثخنا بالذكريات. نلوذ من أنفسنا وكأننا نخجل من اللحظة. هل كان مقدرا أن نكتوي بنار العنف حتى نتطهر من نجاسة الخنوع، ونكتشف خلاصنا؟ حدة تراجع الموج تسحب الرمل من تحت قدمي. يرافقني إحساس أشبه بالسير في حلم. ازدهت رمال الشاطئ بالأصداف، واحتضنت مياه أبريل أصناف الأسماك المعهودة. البوري العازف عن الأكل، والشرغو المخاتل، وأبلاغ المحبوب إلى القلب. أحيانا قد تجود الشباك بالزريقة، التي يشبهها بعض البحارة بفاتنة في خدرها. تخلص (س) من عناء رتق الشباك. ثبت معظمها على الشاطئ عند انحسار المد. والتقينا بعد أن انتهيت من تفقد شباك العمق. شهور خلت ضجرنا من انقطاع صلتنا بالبحر. بدت ملوحته ممزوجة بطعم البارود. تمور الكآبة بين موجه رمادي اللون. وينحسر المد مخليا الشاطئ إلا من شباك عشش فيها القنوط وأعشاب البحر. حتى الأسماك عافت مياهنا. فكنا نجوب الصخور بحثا عن المحار، والحلزون، والسرطانات، والرخويات الصدفية، وبعض الطحالب، لنمد الأهل بما يسد الرمق بعد أن ضُرب الحصار. اليوم يخصص البحارة حصتين في الأسبوع من صيدهم لأرامل الحي، نشاركهم فجيعة أحبة فقدناهم. تجول نظرات (س) ما سحة النتوءات الصخرية الحادة. وتنزل مع جرف شديد الانحدار. بزّ جل الأقران في حدة النظر. لو أنه في زمن المراكب الشراعية لنحت اسمه على مراكب صيد الحيتان. يتوج حضورُه ساري المراكب، يخترق دفق الرياح، ويعلن عن البشائر. وصلني صوته الأجش»من الصعب ارتقاء مكان الشريط». اقتفيت مسار نظراته. مكان صعب المنال. ممرات وعرة، ضيقة، معظمها لا يسع موطئ قدم، بعضها من تربة سهلة التفتت. منحدرات حادة، تنتهي بصخور متناثرة، متدرجة الأحجام. موضع لن يبلغه إلا من خبر المنطقة، أو من واتته جرأة خارقة للمجازفة. من المرجح أن من اختبأ فيه ابن بلدتنا. من عساه يكون؟ الذين سجلوا في عداد المفقودين فاق عددهم ضحايا الإبادة. قد لا نعرف هويته أبدا. كان التبليغ عن أماكن مثل هذه يجر معه مخاطرالتحقيق والحجز. تورط أناس دون وجه حق. عشنا وسط موتانا دون القدرة على الكشف عنهم. نتركهم لقدرهم المرعب حتى تعثر عليهم السلطات، أو نواريهم الثرى دون شاهد. نجوب امتداد الشاطئ. تقف صخوره وجروفه صرحا عتيدا. خبرنا تفاصيلها، خاصة مغاراتها. ملاذ المتشرد منا، وملجأ سمرنا الليلي. يرافقنا صدى أنفاسنا. ندقق في كل التفاصيل رغبة في فك لغز الشريط. - ربما أتلف المد المتواصل بقايا أي دليل. – لا أظن، فالصخور قد تحتفظ لسنوات بما لا يخطر على بال. - ربما يسحب علو المد في هذا الفصل كل المخلفات خلال تراجعه. – قد يكون لقوة المد فعل عكسي، كثيرا ما يثبت الأشياء التي يلفظها البحر بين الفجوات. في تجويف صخري نطلق عليه «غار الديبة» عثر (س) على بقايا جثة. كانت في الأيام الأخيرة من تحللها إبان الحرب. هيكل أفجعنا مرآه. بالقرب منه مذكرة مهترئة، وكاميرا بحجم كف اليد. أثار الموقف تساؤلات أكثر من القلق. من الأهون رؤية جسد مسجى، عوضا عن أن يطالعك هيكل اهترئ، أو أشلاء، أو أعضاء مبتورة لأشخاص ينازعون الحياة. الموت يثير في نفسك الحزن. أما الجسد المهصور فيبث فيك الرعب والشعور بالغبن والحقد اتجاه بشاعة غلو الإنسان، ويترك بداخلك ألما ينخر وجودك محملا بالكوابيس. أرفل في سروالي الجينز المبتل. أداعب زبد البحر الأغبر الدال على عتو موج المد. في طفولتنا كنا نجوس البرك التي يخلفها الجزر. نتحسس الرمل بأقدامنا لنضبط سمك موسى الراقد في الرمل. كنا نفرح لملمسه بقدر ما نخشى صعقات سمك الرعاد. ونشاكس صغار الأخطبوط العالقة في برك السطح الصخري. يركض (س) مناوشا بعض فراخ النورس. يقلد صوتها ويرمي لها نُفاية الشاطئ موهما إياها بالأكل. عرّج على ركام صخري شاقا طريقه نحو «غار الديبة». فصل من جحيم. هذا ما عشناه،وما وثقه الشريط. يلعلع الرصاص. يوقظ الذكرى المقيتة. تضج السماء بقصف القنابل. بعض أجزاء الشريط معطوبة. يبارح صاحب الكاميرا الأماكن المكشوفة. يسبقه لهاث أنفاسه غير المنتظمة. أشعر أن بين ثنايا صوره، وهواجسه، ومخاوفه، يسكن الأمل. أمل اقتسمناه كي نُبعث من أنقاض الجحيم. تتبدل الأماكن. أزقة. شوارع. منازل متهدمة. يتقهقر الزمن في حرب المدن الطائشة. أيام. أسابيع. لحظات كر وفر. تخطيط. كمائن. توجيهات وتداريب ميدانية لرفع المعنويات. يمتد شريط الذكريات.. تتفجر دروب الطفولة لتصير دروب الوغى. يتسارع الخطو وخفقان القلب. يلتحم السلاح بأجساد الشيوخ والشباب. أصبح ضرورة حياة. تفقد دروب المدينة ملامحها. وتطمس براثن الحرب تاريخ البراءة. تنصهر أرواحنا بدم انسفح في كامل عنفوانه. للحلم طعم المرارة. ربيع أبى أن يزهر إلا بدم بريء. وحده اليقين كان يخرس كل الأصوات. قبل متم الشريط، يصدح صوت كأنه يخاطب مرافقه «سوف أهدي هذا الشريط إلى كل روح اغتسلت من وعثاء الحقد بعد محنة الحرب». ما لم ندركه هو دلالة التاريخ الذي يشير إلى سنوات لم نعشها بعد. قد يكون خطأ في البرمجة، أو ربما رسالة من صاحب الشريط لم تتح له فرصة إبلاغها، تستدعي فك لغزها.