ثقافة الموت تتّسع كلّما تراجعت ثقافة الذّوق والمحبة والجمال شكري ميعادي شاعر «جنوبي «، من مدينة توزر تماما ، وبالمناسبة ، فهي مدينة شاعر الحياة أبي القاسم الشابي ، قرأ قصائده أولا في أقراص مدمجة حتى تتداول بطريقة أسرع. وعلى هامش زيارته الأخيرة للمغرب للمشاركة في إحدى الملتقيات الشعرية بمدينة فاس وصدور ديوانه « الغيمة «، كان لنا معه هذا اللقاء . متى بدأت الكتابة؟ ما كانت بدايات تقليدية، أذكر أنني لم أكن من المنتبهين جدا لما يكتبه معلم الابتدائي على السبورة من جمل يطلب منا تكرار قراءتها ولكن كنت أكثر من منتبه لتلك اللوحة الخضراء العجيبة بعد أن يقوم المعلم بشطب ما عليها من سطور تاركا آثار الطباشير تلك الخطوط الباهتة و الملامح الخافتة التي تظلّ عالقة بها كانت تتوزع من جديد لتشكل رسوما تشكيلية حالمة، تلك هي أول قصائدي التي لم أكتبها وإنّما قرأتها بعيون طفل حالم بنصّ مختلف. ولماذا تكتب الشعر، والعالم عنيف ويتقن ثقافة الموت؟ تتّسع ثقافة الموت كلّما تراجعت ثقافة الذّوق والمحبة والجمال و حبّ الحياة ولذلك نتحدى بالكتابة هذا العنف، فهي محاولة لتجميل المشهد وتلميع الواقع، ونحن أشبه بذلك العازف على سفينة التيتانيك الذي ظلّ متمسّكا بكمنجته عندما كان غيره من الميتين متمسّكا بوهم البقاء. لم هذا التمسك بالحوامل الصوتية، وما الخيط السري الذي يجمعها؟- كلّ ما في الأمر أنّ حوامل الصوت مكنتني من تبليغ نصوصي بطريقة أسرع وأكثر جرأة إلى المتلقي، ففتح كتاب لا يسمح لأكثر من قارئ الاطلاع على صفحاته في حين أن اسطوانة واحدة يمكنها أن تسمع كل ركاب حافلة أو قطار أو مئات العاملين بمصنع واحد في اللحظة نفسها. كانت مغامرة مني والحمد لله نجحت، فزت أنا بتوزيع عشرات الآلاف من النسخ التي تحمل قصائدي مسجلة بصوتي، وفازت الشركة المتعاقدة معي بجني عشرات الآلاف من الدينارات وسنعتبر القسمة عادلة بين شاعر همّه الانتشار وتاجر همّه الدينار. متى تمطر غيمتك الشعرية؟ تمطر غيمتي كلّما ألقيت شعرا في حضرة جمهور ولمست إصغاءهم واهتمامهم وانتباههم وإصرارهم بعد كلّ أمسية على امتلاك نسخ من كتابي وهذا هو الغيث الذي أنتظره من غيمتي في عيون الآخرين ما يجعلني دائم التفكير في كتابة نص يحمل الاضافة المرجوّة، أمّا كثير من التفاصيل الأخرى فلا تهمني جدا. * ما حكاية هذه السخرية اللاذعة التي تسكن قصائدك؟ - من خلال تجربتي أعتبر أنّ الأسلوب الساخر في الكتابة الإبداعية وخصوصا في زمن القمع وسياسة تكميم الأفواه، هو نوع من اللجوء الأدبي والاحتماء بعالم الكوميديا السّوداء. فالنّص السّاخر هو نصّ ممانع يعلن ثورته البيضاء على السائد والواقع المعاش بطريقة مختلفة تعتمد الرّمز والطرافة أسلوبا للإقناع والإمتاع والتّبليغ. وهو نصّ زئبقيّ مراوغ لا يمكن تحديد موضوعه أو حصره من خلال عنوانه كما لا يمكن فكّ ألغازه إلاّ بالوقوف على دلالات سطوره الأخيرة التي عادة ما تبوح بأسرار النص دفعة واحدة، فتربك القارئ وتختزل الإجابة على أسئلته و تجبره على مراجعة القراءة الأولى. والكتابة الساخرة عندي هي أفضل من الانخراط في لعبة لغة الإبهام و التنكر لرسالة المبدع في الاهتمام بقضايا شعبه تحت عنوان الطموح إلى بلوغ ما بعد بعد الحداثة حينا وحينا تحت عنوان التنقيب عن غاز الشيست في المعنى الوجودي للكلمة واستخراج مادة الفهم من الأشعّة ما تحت البنفسجية، زد على ذلك بدعة إلغاء المعنى و جرائم أخرى كنبش قبر الخليل ابن أحمد لقتله بطريقة أكثر حداثة. وماذا عن النسخة القادمة من المهرجان الدولي للشعر بتوزر ؟ انطلقت أشغال الإعداد منذ جلسة انتخاب الهيئة المديرة الجديدة للجمعية وكان لي شرف ترأسها وأعمل مع بقيّة الإخوة على أن تكون الدورة القادمة على مستوى كبير من التميّز ذلك أن ما تمّ برمجته أو انجازه إلى حد الآن يعدّ نقلة نوعيّة وخطوة مهمّة باتجاه التنفيذ ومن ملامح الدورة القادمة ستشهد مشاركة دولية واسعة تقارب الثلاثين دولة بين عربية وأوربية ومناطق أخرى من العالم كذلك ستعرف هذه الدورة سابقة تتمثل في مواكبة خمسين شاعرا شابا للمهرجان نأمل أن تتكفل وزارة الشباب بتأمين مشاركتهم فضلا عن الحضور الإعلامي المكثف هذا طبعا إلى جانب حضور عدد من أهم شعراء الوطن العربيّ سنذكر أسماءهم لاحقا كما سنعلن عن قائمة بأسماء الهيئة الاستشارية الموسعة ومنها مغاربة أذكر من بينهم الدكتور عبد السلام فزازي. ما نصيب توزر من تجربتك الشعرية؟ إنّ المتأمّل في نصوصي أو في مجموعتي الغيمة، يلاحظ أن لون الصورة الشعرية هو بلون سمرة أهل الجريد وأن بنيتها تتشابه مع فنون المعمار في توزر وبساطة كلماتي هي من بساطة الفلاحين الكادحين الذين امتزج حبري بعرقهم في الواحات وبين شامخات النخيل، فإن عبرت نصوصي عن نظرة استشرافية للمستقبل، فهي من تأملي في مدى اتساع صحراء جهة الجريد وان تميّزت بجماليّة فذلك من جمال نساء جنوبيات جلسن بين نخل وماء يغزلن من سعف النخل لوحة تشكيلية لعشاقهنّ . وماذا عن تونس بعد الربيع ؟ نحن لم نهيّئ المناخ بعد لحلول الربيع الذي يحلّق كموسم حائر منذ سنتين فوق سمائنا، منتظرا تطهير البلاد من بقايا فصول الخراب التي لا تزال ماكينتها فاعلة في كل مفاصل الدولة والحياة ومنتشرة كسرطان في جسم منهك تنهشه وسائل إعلام المخلوع الحاقدة ونخب تدّعي مجازا أنها تدافع عن الحريّة وهي لا تزال تقدس فكرة الزعيم المنقذ والزعيم الإله. و بما أنّ الموسم الثوري تحوّل منذ شهره السّابع إلى موسم سياسيّ بامتياز، أي أنّ هذه الولادة القيصريّة قد أفرزت عاهات تجلّت نتائجها في خطابات رجال السياسة الذين أصبحوا نجوم المرحلة الحالية في بلادنا، فأصبح بإمكان أيّ مواطن عاديّ أن يكتشف الحجم الكارثي للغباء لدى بعض السّاسة ممّن جاءت بهم الديمقراطيّة السريعة «سياسي في دقيقة» ووضعتهم فجأة أمام الكاميرات دون سابق إعلام أو تدريب، وبذلك أصبح بإمكان المتلقّي أن يتابع النّقل الحيّ والمباشر للغباء بأشكاله المختلفة وأن يستمتع بمشاهدة عمليّات الانتحار السياسي في صفوف بعض القادة الذين يقومون في كلّ تصريح أو ظهور تلفزيّ بالقضاء على ما تبقّى من قواعدهم الشعبيّة المتهالكة بطبعها والمتكوّنة أساسا من صغار الأغبياء، فالبعض لم يفهم بعد أنّ أساليب الاستخفاف بالنّاس والعزف على أوتار أوجاعهم، لم تعد تجلب لمنتهجها غير السخرية و الشفقة و هم بهذا الأسلوب لن يساهموا إلاّ في تعطيل الثورة . كيف يمكن للأنترنت خدمة القصيدة؟ بعد تأكيدي على ضرورة تملّك الشاعر للموهبة أولا، يمكنني الخوض في المسألة التي تتعلق بمدى قدرة الانترنيت على خدمة القصيدة والنص الأدبيّ لأقول إنّ وسائل التبليغ العصريّة قد لعبت دورا مهمّا في تسهيل التواصل بين الكتّاب، وفتحت أبوابا شتّى للوصول إلى المعلومة ونشر الكتاب وساهمت في انفتاح الثقافات والتجارب الأدبية على فضاءات لا حدود لها، غير أنّه يجب أن نشير إلى مسألة مهمّة، هو أنّ الانترنيت لا يمكنها أبدا أن تصنع مبدعا، وإن صنعت فيظلّ مبدعا افتراضيّا.