أنا مرسول خاص من جلالة الكاهنة... ملكتنا وملكتك أيضا كان محمد خير الدين في الرابعة والعشرين وقت أن أصدر روايته الأولى «أكادير»، التي نركب ههنا مغامرة ترجمتها لقراء العربية. رواية تحكي قصة موظف ترسله مؤسسة الضمان الاجتماعي إلى المدينة المنكوبة بزلزال 1960 ليجمع ملفات بالسكان المنكوبين. لكن تلك القصة فيها لا تعدو أن تكون مجرد ذريعة لبناء كتابة شذَرية متمردة على أعراف الكتابة السردية، فإذا «أكادير» قد جاءت نصاً مفرداً بصيغة الجمع؛ فهو يهز هزاً بنية السرد الروائي، بل يطيح بها ولا يبقي لها على قائمة، حتى أن إدموند عمران المالح عَدًّ هذه الرواية بأنها «لا تنبئ بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية فحسب، بل تنبئ كذلك عن ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية كبيرة». وقد توجت رواية «أكادير» بجائزة فريدة كذلك هي «Les enfants terribles» لمؤسسها جون كوكتو. وهي لذلك كله وغيره – استعادة صاحبها إلى مهاده اللغوي مثلاً – تستحق هذه المحاولة في الترجمة ضمن مشروع لنقل أدب خير الدين إلى العربية قطعنا فيه أربع ترجمات، والبقية تأتي. - 9 - أنا: اخرس. لقد فهمت. أنت رايس منكود الحظ، هذا كل ما في الأمر. يحسن بك أن تسوح في الأوحال وفي الأسواق. الغريب: أنا مرسول خاص من جلالة الكاهنة. أنا: لا أعرفها. الغريب: إنها ملكتنا، يا سيدي. وهي ملكتك أنت أيضاً. أنا: لا أعرفها. الغريب: أنا أعرف. أنا: فيم يمكن لهذا الأمر أن يعنيني؟ لقد ضقت ذرعاً بالملوك وبالأغبياء أمثالك. لقد جئت إلى هنا لكي أساعد الشعب. فما عدت أتحمل شمسياتهم البيضاء الجميلة وجيادهم. الغريب: أيس حصان. إنني أعرف قصتك. ليس خطأي إن كنت تافهاً. أنا: قصتي؟ أنا؟ ليس لي قصة. إنني أتحدى أي أحد يقول إنه قادر أن يصنع لي قصة. الغريب: لا أتحدث عنك. بل عن حياتك. إنني أسخر. فلوك كل شيء، يا سيدي، يسبب الهذيان. أنا: إنك غامض. لا أسمح لك بأن ترفع وإياي الكلفة. الغريب: ينبغي أن أرفع وإياك الكلفة. لكن احذر أن تفرط وإياي في الكلفة. أنا : تطمع في أن تشرع القانون في بيتي. إنك أحمق. الغريب: يصفعني. لقد نسيت أقوالك قبل بضعة أيام. إنك فاقد للذاكرة. لا، إنك لا تملك منها فتيلا. إذن، فلتنصت إلي.إنني أحذرك، لا تحاول بعد أن تصطنع الجهل. شيطان، إنك تعرف كل شيء. نعم، إنك تعرف أين تضع قدميك. أنا: إنني أنصت. الغريب: سأحكي لك حكاية الإنسان. في البدء كانت الظلمات. هزت الأرض كتفيها وقالت للصمت: ارفع يديك. فاستقال الصمت وبزغت الشمس، وكانت لا تزال نحيفة، أشبه بجثة، لكن فراشة من حيث جاءت أملت عليها الطريقة لتلعب ترابها وإذا النور الحقيقي يؤخذ في الظهور من غير انتظام عبر تيارات وبحار فهذا سر الأرض وإن لم يسعدها فحركت عينيها المبهورتين وصاحت: أحتاج إلى ظل لا يغتفر! ومن أعلى ألقت إليه الشمس بمغمد أجنحة. فأمسكت به الأرض بمخالبها المتوهجة، وحكت به عضوها وانتظرت أن تزمع الزمجرة في رحمها لكن الشمس ضحكت منها طويلاً. صاحت الأرض من جديد: أريد ظلاً لا يغتفر. ولم يأت شيء. ما خلا صوت ضحكة الشمس. وإذا الأرض مشعثة الشعر، تقذف دمها وتلبث وحيدة، منخرقة برصاص الشمس الهازئة المتخبطة في روث النيازك الزاعقة المضايقَة بالكلمات التي فاهت بها. ولما ملت الأرض الانتظار ابتكرت عدسية مكبرة بعد أن ضحت بالرمل وأخذت تنحت ردفيها ورأسها وباطن قدميها. وانبثقت حية جلجلية من تحت نعلها الصافر فتناولتها وحملتها إلى شفتيها (وهكذا لم نعد نتحدث لا عن حواء ولا عن آدم) وأصبحت شجرة تفاح على وجه الدم زبداً رشيقاً على مستوى الحاجز فتعجلت النوم وإياها لكن الحية لدغتها. ومن تلك اللدغة ولدت الخليقة الرفيعة والوضيعة التي هي الإنسان السلبي. في السنة القابلة، سأقص عليك بقية الأزمنة. ولنكن الآن أكثر واقعية. سأدعو الهواة ومدعو المعرفة بالتاريخ. سنثرثر للحظة. بفضلك إن فررت. أنا: كلا! إن الأمر يزداد إبهاماً، وهو لذلك أيضاً يثير اهتمامي. الغريب: يخطب في حشد. حان الوقت. دقت الساعة. لنفتح الباب الحقيقية. إن أبناءنا وأبناء أبنائنا لا يعرفوننا. فلنبدأ بإعطائهم درساً سُرياً. أخرجوا جميعاً من قبوركم. قوضوا الربوة. أزيحوا الحجارة. أواه، اخرجوا! سيكون من الصعب عليَّ، أنا وحدي، أن أقنع هؤلاء الجاحدين. ومع ذلك، فإن جنسنا يذوي في أسطورة القرن العشرين تلك الأسطورة الفظيعة. أوه، أوه، هووهووو، أخرجوا جميعاً. زمجرة تحأرضية. يتغير الإطار. تينة مبقعة بالأبيض والأسود. زيز في غناء متقطع. رجال بجلود مدبوغة، أقرب إلى الخضرة، يتلون بما ينعكس عليه من أشعة الشمس، بين الرمادي والأصفر، وحتى الأزرق. امرأة بلباس في غاية البساطة. وهي التي تتولى الكلام. المرأة: أنا الكاهنة الأمازيغية. الروم يسمونني الملكة الحية على بلاد البربر. لكنني شيوعية، حقاً، مثل الحية. أحب إخواني كثيراً، وأكره الرجال. الرايس: ليس عندنا وجود لعبيد. فنحن آلهة أنفسنا، لكن، لا نسود أحداً. لقد ترك لنا الرومان كنوزاً من اللحم، فاتخذنا لنا منهم إخواناً. أنا: هذا روث قديم. فليس لديكم إذن جديد لتقترحوه عليَّ. هذه المرأة... الكاهنة: عجبا، هذه المرأة! هل كلمة مني تخلق وضاعة؟ هل ظل ينهيني قبل مغيب الشمس الذي لسنا مولهين به؟