كيف ارتفع «لوتار» من حضيض الحلقة والاستجداء إلى سماء الإبداع الراقي جوانب من سيرة الفنان الراحل محمد رويشة، وبداياته الفنية وعلاقة بآلة «لوتار» وكذا بالفنانين الأمازيغ الذين تأثر بهم، منهم على وجه الخصوص المرحومين حمو اليزيد وبوزكري عمران، وكذا علاقته بوالدته «لالة عايشة» التي كانت عاملا حاسما في تشبعه بحب فن الغناء والموسيقى. كانت هذه المحاور الأساسية للقاء الذي نظم ليلة الجمعة الماضي تحت عنوان «موسيقى الأطلس: ذاكرة الفنان الراحل رويشة» في إطار فعاليات الدورة الثامنة عشرة للمعرض الدولي للنشر و الكتاب، من تسيير الحسين العمراني ومشاركة فاطمة بوخريص، سعيد يقطين، إدريس كايسي. وشهادة ابن الراحل حمد الله رويشة ورفيق الراحل الفنان مولود الحموشي.. هذا، واعتبرت الباحثة فاطمة بوخريص في مداخلتها التي كانت تحت عنوان «الفنان محمد رويشة وتعدد أبعاده الفنية» أن الفضل يعود إلى الفنان محمد رويشة في جعل آلة «لوتار» تحظى بشعبية كبيرة خلال مسار متفرد لتجربة فنية ومفعمة بالقيم الإنسانية والكونية التي آمن بها الفقيد وعبر عنها وكذلك من خلال عطاءه المتميز في مجال الأغنية المغربية باللسانين الأمازيغي والعربي الدارج. وأضافت الباحثة، وهي تحاول إعادة رسم ملامح رويشة على المستوى الفني والإنساني متوقفة عند صعوبة البدايات، وعند الأشخاص الذين مدوا له يد العون في هذه المرحلة المبكرة من عمره، خاصة صديقه محمد العلوي اللاعب السابق لفريق شباب خنيفرة، خلال فترة الستينات، والذي شجع رويشة ورافقه إلى الرباط وقدمه إلى القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية، حيث احتضنه المسؤولون آنذاك بعدما أعجبوا بموهبته وسجلوا له أول شريط باستوديوهات عين الشق بالدار البيضاء سنة 1964 تحت إشراف الإعلامي أحمد ريان الذي أصبح في ما بعد من أعز أصدقاء المرحوم محمد رويشة. كما تطرقت فاطمة بوخريص إلى مرحلة طفولة الفنان الراحل بمدينة خنيفرة التي رأى بها النور سنة 1950، حيث تلقى تعليمه الأولي إلى غاية بداية الستينات، حين بدأت مواهبه الفنية في الإعلان عن نفسها وهو بالكاد يتجاوز العاشرة من عمره، وكذا عن علاقته بالألوان التراثية والإيقاعات التي وظفها، وتميزه في الغناء باللغتين العربية والأمازيغية على حد سواء، إضافة إلى براعته في العزف على «لوتار» حدا بلغ به الابتكار في هذه الآلة التراثية، وإضافة وتر رابع إليها بعد أن انتشلها من حضيض الحلقة وسما بها لتصير آلة موسيقية قادرة على التعبير عن كوامن الذات المغربية. ومن جهته اعتبر الكاتب والناقد سعيد يقطين في مداخلته التي كانت تحت عنوان «محمد رويشة بين الثقافة الشعبية والثقافة الوطنية»، أن الفنان الراحل محمد رويشة يعود إليه الفضل في الارتفاع بالموسيقى الشعبية من مستواها المحلي الضيق الذي تميز ومنذ الاستقلال بالتهميش إلى المستوى الوطني العام ما أهلها إلى بلوغ الكونية والإنسانية. وكانت الثقافة الشعبية قبل تجربة الراحل الفنية تعتبر ثقافة تحيل على التخلف باعتبارها ثقافة البادية وثقافة المهمشين ولحد الآن مازال المغرب البلد الوحيد الذي لا يتوفر على مركز لدراسة الثقافة الشعبية ولا على مجلة متخصصة في هذا المجال أو كرسي جامعي لتدريس هذه الثقافة التي تعاني من الغبن على المستوى الرسمي بينما يحرص المغاربة على حملها معهم والاعتزاز بها في الداخل والخارج، لاعتبارها التعبير الحقيقي عن الإنسان المغربي وهويته المتفردة. وقد قدم محمد رويشة من خلال مساره الفني، النموذج الحقيقي لهذه الثقافة التي صار يتوجب على كل مثقف في أي جهة كان الحرص على تدوين ثقافة جهته حفاظا على الذاكرة الجمعية للإنسان المغربي. و تحدث إدريس الكايسي، (باحث في التراث الأمازيغي وفاعل جمعوي)، عن خصال الفنان الراحل وتجربته الفريدة على اعتباره يعكس الأصالة المغربية المنبعثة من جبال الأطلس. كما توقف الكايسي، في مداخلته، عند أهم المحطات الأساسية التي ميزت مسيرة الراحل محمد رويشة والمدارس الفنية الأمازيغية التي أثرت في عطاءه الفني، واستحضر الكايسي بحكم الصداقة التي جمعته بالفقيد محطات من مسار شخصي وفني فريد لمحمد رويشة. انطلاقا من اسمه الحقيقي: محمد هواري الذي ينحدر من أسرة مقاومة من تنغير سيفقد الأب مبكرا لتظل أمه عيشة الحاضن الوحيد للطفل محمد. معرجا على تلقيبه ب 'رويشة' التي تعني بالأمازيغية المزج والخلط وقد أطلقه عليه أقرانه كناية عن مزجه العجيب بين الإيقاعات والأغاني». مضيفا أن موهبة رويشة تكشفت باكرا لم يقو على مغالبة هوسه بالموسيقى فأغلق دونه باب الدراسة رغم شهادة مدرسيه له بالتفوق. أما حين تنبأ له عميد الموسيقى الأمازيغية حمو اليزيد ذات يوم بمستقبل واعد حين سمعه يدندن على «لوتار»فقد عرف الشاب محمد رويشة أن طريق المجد له إسم واحد: الاجتهاد. على هذا الصعيد يتوقف الباحث إدريس الكايسي عند الشغف المزمن للفنان رويشة بالبحث في الإيقاع والمتن الشعري. مؤكدا على عزفه الساحر الذي قاده إلى إضافة وتر رابع لآلة «لوتار». أما تواضعه وانفتاحه فقد مكناه من الاستفادة من توجيهات وأعمال الباحثين والمثقفين الذين التفوا حول تجربته في مجال التراث الأمازيغي, الموسيقي والشعري. وأضفت أنامل رويشة الذهبية على علاقته بآلة «لوتار» طابعا روحانيا خاصا. لم تعد مجرد وعاء منتج للنغم. بل آلة روحية تتماهى مع أشجان الذات ووجدانها ونزعتها الصوفية. ولم يتردد الكايسي في تفسير هذه الكهرباء الروحانية التي يشعلها رويشة في آلته بأصالة هذه الأخيرة وارتباطها الوثيق بهوية المكان. فهي صنيعة من شجرة الأرز الأطلسية والجلد الخام. أما عن سر انتشاره الطاغي عبر ربوع المغرب فيحيله الكايسي إلى اختياره الواعي للغناء بالأمازيغية والعربية. حتى وإن كانت إيقاعاته الشجية وحنجرته الدافئة رسالة عابرة للغات مستغنية عن الترجمان. مختتما بالقول أن إيمان رويشة بأن الفن يمشي على هذين القدمين فتح له أوسع أبواب التألق وفسح له موقع الحظوة الراسخة في قلوب عشاق الموسيقى المغربية التي توطد حالة التعددية في إطار الوحدة. هذا وتجدر الإشارة إلى أن اللقاء تميز أيضا بحضور نجل الفنان الراحل، حمد الله رويشة الذي ارتجل كلمة مقتضبة وتلقائية لكنها مؤثرة وغنية بالدلالات حول شخصية محمد رويشة الإنسان والأب قائلا « علاقتي به لم تكن علاقة ابن بأبيه، بل أصدقاء، لم يحدث أن اصطدمت معه في شيء، ولم يمارس علي وصايته كأب متسلط، بل كان عطوفا وحنونا ومتفهما.» مختتما قوله بتوجيه الشكر لكل الجهات التي ساندت أسرته وآزرتها ماديا ومعنويا خلال مرض الفنان الراحل وبعد وفاته. ومن بين اللحظات المؤثرة خلال نهاية اللقاء، التصريح الذي أدلى به رفيق دربه مولود الحموشي الذي لم يستطع مدارات دموعه وهو يذكر مناقب رفيقه الكبير فنيا وإنسانيا. فاطمة بوخريص: أن الفضل يعود إلى الفنان محمد رويشة في جعل هذه آلة «لوتار» تحظى بشعبية كبيرة خلال المسار المتفرد لتجربته الفنية والمفعم بالقيم الإنسانية والكونية التي آمن بها وعبر عنها. سعيد يقطين: مازال المغرب البلد الوحيد الذي لا يتوفر على مركز لدراسة الثقافة الشعبية ولا على مجلة متخصصة في هذا المجال أو كرسي جامعي لتدريس هذه الثقافة التي تعاني من الغبن على المستوى الرسمي. إدريس كايسي: إيمان رويشة بأن الفن يمشي على هذين القدمين فتح له أوسع أبواب التألق وفسح له موقع الحظوة الراسخة في قلوب عشاق الموسيقى المغربية.