التراث الكناوي مفعم بالحياة ويمتلك القدرة الكبيرة على اختراق أنماط موسيقية جديدة بقدر ما يثيره من سعادة خلال افتتاح دورة من دوراته، ويحدثه من متعة خلال توالي أيامه، بالقدر نفسه يثير أسى كبيرا في قلوب عشاقه. بعد انطفاء الأضواء والشروع في تفكيك أضلاع المنصات لتصير كومة من حديد تافه كأن النجوم لم تلمع فوقها وتمنح انطلاقا منها لحظات سعادة لا تنسى، للآلاف من الناس، هذا هو المهرجان الدولي لكناوة وموسيقى العالم، مهرجان الصويرة الكبير في حضوره وفي غيابه، الكبير في معانيه وأهدافه أيضا. اختتمت كما هو معلوم أول أمس الأحد الدورة الثالثة عشر للمهرجان الدولي كناوة وموسيقى العالم بالصويرة، بعد أن تركت بصمتها على ذاكرة مدينة النوارس وزوارها، مؤكدة على تقدم مسار التراث الكناوي للوصول الى العالمية وقدرته الكبيرة على اختراق أنماط موسيقية جديدة عن طريق المزج أو سبر أغوار إيقاعات جديدة لم تكتشف بعد. لقد كان موعد الافتتاح الذي صادف الرابع والعشرين من يونيو الجاري، يوما مشهودا غصت فيه المدينة بحضور كثيف لعشاق المهرجان ومدعويه جاءوا لنيل حصتهم السنوية من ألق موكادور، فنانين وجمهورا.. فمن بين الوافدين على مدينة الفنون والطقوس عشرات الفرق الكناوية بألوانها وتنوعاتها المختلفة، مؤازرة بالعديد من المجموعات التراثية جاءت من مختلف أنحاء المغرب مدعومة بوحدات من فرسان فن الفانطازيا الحربي العتيق.. ومن أوروبا وأمريكا وآسيا والبلاد المغاربية حط الرحال جاء موسيقيون ومجموعات ذات صيت عالمي، للمشاركة في هذه التظاهرة الفنية والثقافية الكبرى التي كان عنوانها، «إعادة الاعتبار للرقص في علاقاته المتنوعة بالإيقاع»... وكانت الانطلاقة بحفل لمعلمي كناوة الأخوين محمد وسعيد كويو من خلال رقصات بهلوانية كناوية مقابل رقصات من القوقاز قدمتها مجموعة البالي الوطني بجورجيا، متبوعة بعرض المعلم حسن بوسو مع المجموعة الأرمينية «أرمينيان نيفي باند»، ومنذ هذه اللحظات اندمج الكل في المهرجان اندماجا سيتواصل حتى الدقائق الأخيرة من عمر الدورة الثالثة عشر. ومن بين أهم لحظات الدورة التي ودعناها في نهاية هذا الأسبوع، يجذر ذكر الحفل الذي أحياه ليلة السبت المعلم مصطفى باقبو، الذي أظهر علو كعبه وهو صاحب اللمسات الذهبية على أوتار الهجهوج/ السنتير حين تقف عند خط تماس بين القراقب والحركات الراقصة التي قدمتها مجموعة ستيب أفريكا الأمريكية، تحت وابل من تصفيقات جمهور منبهر بهذا العرض السحري وهذا التمازج التلقائي الذي يقوده المعلم باقبو وهو في قمة تألقه الإبداعي، كان من بين المنبهرين بهذا الحفل الكبير مغني التراث الصوفي الباكستاني فايز علي فايز، الذي قدم بدوره حفلين متتابعين من مستوى وقيمة فنية عالية سواء من خلال لقائه مع مجموعة عيساوة مكناس بمنصة مولاي الحسن، أو في حضور الملحن وعازف الوتريات تيت روبن بدار الصويري. عروض أخرى مميزة كان لجمهور المهرجانيين موعد معها، من أبرزها حفل الجاز الذي أحياه عازف العود وصاحب الصوت ذي الرنات المتنوعة والغريبة ظافر يوسف، وكذا الحفل الذي أحيته الفنانة الأمازيغية المقتدرة فاطمة تابعمرانت بمنصة باب دكالة، أو العرض الذي قدمه شيخ الطقوس الكناوية وحافظ أمانة سرها المعلم الكبير محمود غينيا مع الفنان الموريتاني دابي توري، دون أن ننسى الحفل الذي أحياه الفنان العالمي باتريس، حقيقة إنها لحظات لا تنسى. مرة أخرى يؤكد مهرجان الصويرة صحة اختياراته، وهذا رأي تقاسمته كل وسائل الإعلام التي كانت حاضرة لتغطية هذا الحدث الكبير، وهي في المجموع 39 منبر إعلامي أجنبي و62 منبر إعلامي وطني، وقد صرح الفنان الجزائري أمازيغ كاتب خلال حفله بمنصة باب مراكش أمام جمهور قدر ب 80 ألف مشاهد بأن مهرجان الصويرة هو في الحقيقة مهرجان يحتفي بالحرية. هكذا عاش جمهور زوار الصويرة لحظات من السعادة القوية ترافقت وجل لحظات النسخة الثالثة عشر من المهرجان وإلى اللحظات الأخيرة حيث شرع في تفكيك المنصات منذ صباح الأحد ليتم الاحتفاظ فقط بمنصة مولاي الحسن لتحتضن حفل الختام الذي جلب إليه الجميع منذ بداية الدورة، الفنان حميد القصري ومجموعته الذين أشعلوا أضواء المنصة الكبرى وأشعلوا حماس جمهور لم تستوعبه الساحة، جمهور يتكون في أغلبيته العظمى من الشباب، ويعتبر هذا مؤشرا على ارتباط الجيل الجديد بتراثه، الشيء الذي لم يحصل مع الجيل الماضي الذي وجد نفسه مضطرا في وقت من الأوقات الى ركوب موجة الاستيلاب الثقافي والفني سواء عبر إخضاع ذوقه للشرق أو للغرب، وهذا لم يكن ليتأتى لولى تظاهرات فنية جادة كالمهرجان الدولي لكناوة وموسيقى العالم. وقد اختار الفنان حميد القصري ختام الدورة ليعرض بعضا من قطع ألبومه الأخير، مع قطع قديمة كانت تقدم تحت طلب من الجمهور مباشرة، في إطار من التجاوب والمحبة المتبادلة بين حميد القصري وجمهوره. هذا وتجدر الإشارة إلى أنه قد جرى على هامش المهرجان، توقيع عقد شراكة بين المنظمين وجمعية «ارمى كناوة» من جهة ومهرجان تقاليد العالم لشيربروك في كندا من جهة أخرى نص على مشاركة كناوية وازنة ضمن الدورة الثالثة عشر من المهرجان الكندي. دائما وفي إطار تحركات جمعية ارمى كناوة التي تضم 23 معلم كناوي، شارك معظمهم في الدورة الأخيرة، أنه تم عقد العزم، خلال جمع عام عقدوه، على ضرورة التعجيل بتدوين هذا التراث سواء من حيث النصوص أو الموسيقى، من خلال برنامج أسندت فيها الإدارة العلمية للباحث الموسيقي المغربي أحمد عيدون.