تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع. ولعل كل أمة تنقب عن تاريخها وتصونه من أجل الرقي بحاضرها والتحضير لمستقبلها. وكذلك شأن المملكة المغربية التي اجتهد مؤرخوها لصون تفاصيل تاريخ يمتد لقرون طويلة عرف فيها المغرب عدة حضارات وساسه قادة وملوك وسلاطين. بيان اليوم حاولت النهل من كتب ومراجع ومخطوطات عديدة لتحضير هذه النافذة التاريخية لقرائها طيلة شهر رمضان الكريم، تطل من خلالها على ما مضى من مواقف ملوك وسلاطين المملكة اتجاه أبرز الأحداث. الحلقة 12: يوسف بن تاشفين (الجزء 5) بعدما ترطقنا في الحلاقات السابقة إلى ولادة يوسف بن تاشفين ونسبه ونشأته وكذا التدرج في الحكم، ومرحلة النيابة على المغرب وتولي الحكم، والإمارة واتساع دولة المرابطين واستنجاد أهل الأندلس بهم وعبورهم إليها وما دار في معركة الزلاقة الشهيرة. سنتطرق في هذه الحلقة إلى أحدلث أخرى في الأندلس بعد وصول المرابطين إليها. فقد سير ألفونسو القسم الأول من جنده بقيادة الكونت غارسيا والكونت زودريك لقتال المعتمد بن عباد قائد معسكر الأندلسيين، وقصد ألفونسو من هذا الهجوم المفاجيء بث الاضطراب والفزع بين المسلمين، ولكن اصطدم جيش قشتالة قبل وصوله لمعسكر الأندلسيين بقوات المرابطين التي قوامها عشرة آلاف فارس بقيادة القائد المرابطي داود بن عائشة، ولم يستطع ابن عائشة أن يصمد أمام زحف جيش قشتالة، وكان اعتماد ابن عائشة على قوة كبيرة من رماة السهام والنبال، وأرغمهم على الارتداد إلى خط دفاعهم الثاني، وخسر المرابطون في صد القسم الأول من جيش ألفونسو خسائر بشرية كبيرة. في هذا الوقت، كانت مقدمة المعتمد بن عباد تخوض معركة غير متكافئة في العدة والعتاد، ونظرًا لكثافة الهجوم ارتدت المقدمة عن موقعها، وفرّ بعض الأمراء الأندلسيون بعد أن أيقنوا بالهزيمة إلى مدينة بطليوس، واستطاع المعتمد بن عباد ومعه فرسان إشبيلية الصمود في مواقعهم، بعد أن وجدوا مؤازرة من فرسان المرابطين بقيادة داود بن عائشة، الذين صمدوا في هجوم جيش قشتالة الأول. وكان ألفونسو قد أحس بالنصر القادم، عندما شاهد مقاومة المعتمد تضعف أمام هجمات جيشه المتواصلة، ورأى حركة الفرار والهرب تتسع بين مسلمي الأندلس شيئًا فشيئًا، ولكن جيش المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين كان يرابط خلف أكمة عالية، تحجبه عن أنظار عدوه، ولم يكن قد اشترك في المعركة بعد، ولم يشترك فيها مع جيش الأندلس إلا العشرة آلاف مقاتل، عندها قرر ألفونسو مهاجمة قوات المرابطين المؤازرة لابن عباد بقيادة داود بن عائشة، وكان ضغط النصارى يزداد على ابن عائشة وفرسانه، فما كان منه إلا أن أخبر يوسف بن تاشفين بحراجة الموقف وما حل بهم، فأمدهم ابن تاشفين بكتيبة يقودها أقوى قادته الأمير سير بن أبي بكر، على رأس قوة من المرابطين، استطاعت هذه الكتيبة أن تنفذ إلى قلب جيش النصارى، وأن تتصل بقوات المعتمد بن عباد، فخف الضغط على الأندلسيين الذين أخذوا يستعيدون ثباتهم، إلا أن ألفونسو السادس أخذ يواصل ضغطه على قوات داود بن عائشة، ويزيد من تقدمه حتى أصبح أمام خيام المرابطين، واقتحم الخندق الذي يحميها. كان ألفونسو يدفع بجنوده في غمرة المعركة إلى الأمام، حتى استطاع أن يوقع الهزيمة بالمعتمد وجيش الأندلس، واطمأن القشتاليون إلى نهاية مرضية لهم بهزيمة جيش الأندلس والمرابطين، وانشغلوا بمواصلة تقدمهم أمام تراجع المعتمد والأندلسيين، عندها قرر يوسف بن تاشفين الدخول للمعركة، فرتب خطة تمثلت في مفاجأة العدو من جهة لا يتوقعونها، فتقدم بقواته الاحتياطية وهاجم معسكر القشتاليين، مستفيدًا من هلع خيل القشتاليين من إبل ابن تاشفين التي جلبها معه من المغرب وأضرم فيه النار وأحرقه، وقتل حماته من الفرسان والرجال، وفر الباقون منهزمين نحو ألفونسو، فأقبلت عليه خيله من معسكره فارين، وابن تاشفين في أثرهم، فلما علم بما حل بمعسكره وحاميته، وتوقف ألفونسو عن مطاردة المعتمد بن عباد وجيش الأندلس وارتد من فوره لينقذ محلته من الهلاك. أدرك ابن عباد من انسحاب ألفونسو إلى معسكره أن بوادر الهزيمة قد بدت على القشتاليين، فأمر أصحابه بمهاجمتهم، وحمل القائد سير بن أبي بكر بمن معه على قوات ألفونسو فزاد الضغط واستمرت الهزيمة، وفي ذلك الحين تراجع الجند الذين فرّوا إلى بطليوس في بداية الهجوم، وشاركوا في القتال فاشتد الهجوم على ألفونسو وقواته حتى أيقنوا بالفناء. لما اشتد القتال على جيش ألفونسو ودام القتال لساعات، أصبح ألفونسو وجيشه بين مطرقة ابن عباد وسندان ابن تاشفين، وكانت الضربة القاضية التي أنهت المعركة، حين أمر ابن تاشفين حرسه الخاص المكون من أربعة آلاف فارس بالنزول إلى قلب المعركة، فاستطاع أحدهم الوصول لألفونسو، وطعنه في فخذه، طعنة نافذه بقي يعرج منها طوال حياته، وكانت حينها الشمس قد قاربت على المغيب، فبادر مع قليل من أصحابه واعتصموا بتل قريب من موقع المعركة، ومن ثم انسل تحت جنح الظلام منهزمًا إلى قورية، وبهذا النصر انتهت معركة الزلاقة التي لم تستمر إلا يومًا واحدًا، وذاع خبر انتصار المسلمين في الزلاقة في كل الأقطار، وأمر يوسف بن تاشفين فكتب عنها بلاغا أرسل إلى أفريقية، ليقرأ في المساجد وكل مدن المرابطين. حصار حصن لييط بعد انتهاء المعركة، أقام ابن تاشفين مع قواته بظاهر إشبيلية ثلاثة أيام، ولكنه عاد بشكل سريع للمغرب بسبب وفاة ابنه وولي عهده أبو بكر المكلف بإدارة أمور المغرب، وقام بترك ثلاثة آلاف مقاتل من المرابطين، دعمًا للمعتمد بن عباد، برئاسة القائد سير بن أبي بكر اللمتوني. ما إن أَمن أهل الأندلس وأمراؤها، حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من فرقة، وانصراف لمجالس اللهو واللعب، وعاد القشتاليون للإغارة على إماراتهم ثم العودة للتحصن في حصن لييط. أما ألفونسو، فقد اطمأن بعد أن علم أن ابن تاشفين قد عاد إلى المغرب، وأخذ يطلب العون والمدد من الممالك والإمارات المسيحية في أوروبا، لتعويض خسائره الكبيرة بعد الزلاقة، فوصلته من إمارتي بيزا وجنوة الإيطاليتين إمدادات في نحو أربعمائة سفينة، فحاصر بلنسية وهاجم السواحل الأندلسية، ووجه ألفونسو هجماته على أمير إشبيلية المعتمد بن عباد، وأصبح لموقع حصن لييط أهمية كبرى في هذه المرحلة للقشتاليين، فزادوا في بنيانه وتحصينه، ليكون قاعدة متقدمة لهم في أرض المسلمين، وشُحن بالذخائر والمقاتلين حتى أصبح عدد قوات الحصن ثلاثة عشر ألف مقاتل بين فارس وراجل، فشنوا غاراتهم على سرقسطة وجاراتها، وتمادوا إلى بلنسية ودانية وشاطبة ومرسية، وأخذوا عددًا من الحصون، فأخذت الوفود الأندلسية بالتوجه نحو مراكش لطلب العون مرة أخرى لصد العدوان وحصن لييط. قرر ابن تاشفين العبور إلى الأندلس العبور الثاني، وأخذ يعد العدة والعتاد من الجيوش وآلات الحصار، واجتاز البحر في عام 481 ه الموافق 1088، فلما وصل الجزيرة الخضراء أعدها لتكون نقطة إمداد وإتصال، وبعث لملوك الطوائف يطلب منهم الاستعداد للجهاد، فوصلته كتائب ابن عباد من إشبيلية، ثم تحرك الجيش وبدأ حصار حصن لييط، واستخدمت المجانيق والعرادات، ولكن الحصن أظهر منعة ضد الهجمات، ولما طال الحصار تخاصم ملوك الطوائف فيما بينهم، ونتيجة لشح الإمدادات انسحب المرابطون نحو مدينة لورقة بعد حصار لحصن لييط دام أربعة أشهر، وما إن علم ألفونسو بانسحاب المرابطين حتى تسلل للحصن وأخلى حاميته التي كانت تغير على المدن الإسلامية، ثم أحرقه وعاد مسرعًا إلى طليطلة، فاستولى المعتمد بن عباد على الحصن، وبذلك تخلص أهل الأندلس من خطر وغارات حصن لييط، وقرر ابن تاشفين العودة إلى المغرب بعد أن أردف أربعة آلاف مقاتل من المرابطين إلى بلنسية. القضاء على ملوك الطوائف في عام 483 ه الموافق 1090 عبر ابن تاشفين البحر متجهًا نحو الأندلس العبور الثالث برسم الجهاد، وعبوره هذه المرة دون طلب استغاثة أو نجدة كما حدث في الجوازين السابقين، فسار نحو طليطلة مُجتاحًا أراضي قشتالة، وكان يرغب في استرجاع المدينة، فضرب الحصار حول المدينة وكان فيها ألفونسو السادس ملك قشتالة، ولكن يوسف تراجع أمام أسوارها المنيعة وارتد نحو الجنوب، كُل ذلك ولم يتقدم أحد من الأندلسيين لمساعدته ضد عدوهم ألفونسو. اتجه يوسف نحو غرناطة وبها الأمير عبد الله بن بلقين، الذي عمد بعد حصار لييط إلى تشييد الحصون والاستعداد لحصار طويل الأجل استعدادًا لمقاومة المرابطين، قسم ابن تاشفين جيشه إلى فرق، أرسل أحدها إلى غرناطة للاستيلاء عليها، وضربت بقية الفرق شبه حصار على كورتها لمراقبة الحصون من تغلغل النصارى لمساعدة حليفهم، وبعد حصار دام شهرين أرسل عبد الله يطلب الأمان من ابن تاشفين، فأمنه واستلم منه غرناطة فملكها، وبعث بعبد الله وأخيه تميم بن بلقين أمير ملقة إلى مراكش مع حريمهما وأولادهما، فأقاما بها وأجرى عليهما الإنفاق. ولما خلع ابن تاشفين بني باديس وملك غرناطة وملقة، خاف المعتمد بن عباد على ملكه، ولما رجع ابن تاشفين إلى مراكش، ولى على الأندلس القائد سير بن أبي بكر، فسار نحو إشبيلية، فراسل ابن عباد على أن يسلم إليه البلاد ويدخل في طاعة ابن تاشفين، فامتنع ابن عباد، ففرض سير الحصار على إشبيلية، وبعث بعض قواده إلى قرطبة، وكان أميرها المأمون بن المعتمد بن عباد، فوقع بين الطرفين معركة انتهت بمقتل المأمون وفتح قرطبة، وكان ذلك عام 484 ه، ثم فتح المرابطون بياسة وأبدة وحصن البلاط والمدور، ولم ينقض شهر حتى لم يبق لابن عباد ما يملكه من أرض سوى إشبيلية. لما اشتد الحصار على ابن عباد بعث إلى ألفونسو يطلب منه العون لقتال المرابطين، فبعث إليه قائده القومس في جيش من عشرين ألف فارس وأربعين ألف راجل، والتقى الجيشان قرب حصن المدور، وكان النصر للمرابطين، فرجع سير وشد الحصار على إشبيلية حتى دخلها عنوة عام 484 ه، وقُبض على المعتمد وأهله، وحملوا إلى أن وصلوا لابن تاشفين في مراكش، الذي أمر بنفيه إلى أغمات، فسجن بها واستمر سجنه إلى أن مات عام 488 ه. ثم ملك المرابطون بعد ذلك مابقي من بلاد الأندلس، ولم يبقى لملوك الطوائف ذكر بها، وأصبحت الأندلس تحت سلطة المرابطين، وانتهى عصر ملوك الطوائف.