دعوة مفتوحة للتأمل في واقع متحرك منفتح على عوالم أخرى لن تفاجأ وأنت بداخل عيادة الدكتور صلاح الدين الطوبي أحد المختصين البارزين في أمراض وجراحة الفم والأسنان، بتلك اللوحات التشكيلية التي زين بها جدران عيادته، وفي الوهلة الأولى قد يبدو لك الأمر عاديا، كون جدران العيادات الطبية غالبا ما تكون مزينة بلوحات فنية لكبار الرسامين والفنانين التشكيليين، لكن سرعان ما يتبدد هذا الانطباع إذا علمت أن تلك اللوحات هي في مجملها بريشة الدكتور صلاح الدين الطوبي الذي يعتبر من بين الفنانين التشكيلين المغاربة العصاميين. قصة صلاح الدين الطوبي مع الريشة والصباغة، كما رواها لبيان اليوم التي انتقلت إلى مرسمه بالرباط، مشابهة تماما لقصته مع الطب والجراحة، لأن الطب، في نظره، إلى جانب كونه ينتمي إلى مجال العلوم الحقة، فهو أيضا، في جوهره وبعده الممارساتي فن يرتقي بصاحبه إلى درجة الطبيب الفنان، فهو يقتضي على غرار الفن، الدقة في الجراحة والتركيز والملاحظة، بالإضافة إلى أن الطب هو مجال للعلاقات الاجتماعية بكل أبعادها، والتي توحي للفنان الطوبي بمواضيع عديد يترجمها في لوحاته، بما أن اللوحة الفنية هي فضاء للتعبير. وأنت تنظر إلى لوحات الفنان صلاح الدين الطوبي، تستوقفك للوهلة الأولى جرأة الموضوعات الفنية التي يشتغل عليها الفنان الطوبي، والتي يحاول من خلالها اختزال واقع اجتماعي للمغرب العميق بكل نتوءاته وعقده الاجتماعية والثقافية والحضارية، لكنه في الوقت ذاته، يقدم مقاربة لواقع، مفتوح على الأفق وعلى الأمل في التغيير، مستلهما عمقه الفني من المزاوجة بين المدرسة الواقعية والمدرسة التعبيرية (التأثرية)، على اعتبار أن نقله للواقع كما هو يحمل إشارة لقضية اجتماعية محددة، فلا يمكن فصل إحساسه بالحياة عن طريقته في التعبير عن ذلك الواقع، مثل ما هو الحال بالنسبة لاشتغاله على المرأة كتيمة، وكقيمة اجتماعية، يحاول رصد وتتبع واقعها الاجتماعي، مبحرا في فضاء حالما بتغييره. هذه المزاوجة العميقة جعلت لوحات الفنان الطوبي عبارة عن دعوة مفتوحة للتأمل في واقع أراده متحركا منفتحا على عوالم أخرى وعلى حضارات إنسانية أخرى. فالعتمة أو الظلمة تكاد تختفي من لوحاته، وإن وجدت فهي فقط لتدلك على منار أو درب مضيء في العمق، مفتوح على المستقبل. إن رسومات الطوبي تتميز بالتدرّجات اللونية (للإيحاء بالعمق والمسافات المكانية أو الزمانية) وتسليط الضوء على أجسام واقعية متواجدة مع أشكال غير واقعية أو متخيلة، تتداخل، فيما بينها بانسجام موضوعي، مع بعض الإشارات المادية المستوحاة من الواقع والتي تحيل في الأصل على عادات وأعراف اجتماعية، أو مهن يدوية، كتلك المرأة التي تغزل الصوف داخل القصبة التاريخية أبت بن حدو. حضور جسد المرأة بشكل كبير في لوحات الدكتور صلاح الدين الطوبي هي في نظره ، نتاج لمسار قضية تحرر المرأة وحضارة الأنثى وهي، أيضا، ثمرة كفاح ونضال المرأة منذ بدايات القرن العشرين، ولكن مع ذلك فالمرأة في لوحاته لا تتخذ مساحة رباعية الشكل وهي ليست لوحة قياساتها وأبعادها ثابتة وفق معايير الفن التشكيلي، فهي ليست شكلا هندسيا، بل هي مساحة واسعة، وأفاق مفتوحة، تجسد عمق البعد النظري والفكري لصلاح الدين الطوبي كواحد من المتشبعين بالفكر والفلسفة التحررية، وينتمي إلى مدرسة فكرية مناصرة لقضايا الحداثة والتقدم ولقضايا المرأة، بالرغم من وجود بعض المؤثرات الاجتماعية مثل بعض العادات والتقاليد المستمدة من الواقع المغربي، وهي مؤثرات اجتماعية تحيل على مفهوم الإرادة عند صلاح الدين الطوبي، والتي هي جوهر أي رغبة في التغيير. كما يشتغل الفنان العصامي صلاح الدين الطوبي، في لوحاته على الأمكنة، والتييحاول من خلالها الإحاطة بكل المشاكل والحيثيات «الإستطيقية»التي يستدعيها مفهوما المكان والرؤية في الفن التشكيلي، انطلاقا من استعمال تقنية «المنظورية» باعتبارها «رؤية للمكان يتجاوز فيها الفنان التمثل البسيط الذي يكتفي بتقليص الموضوعات الجزئية مثل المباني وتجهيزات المنازل، ويعمد إلى تحويل لوحاته في كلياتها إلى «نافذة» نلقي فيها ببصرنا على المكان فنحوم في أرجائه بالكيفية نفسها التي يريد أن يخلقها عندنا الفنان التشكيلي» حسب مفهوم الباحث الألماني إرفين بانوفسكي، محاولا بذلك بناء صورة جديدة للمكان وللتمثل يجسد بها رؤيته لمفهوم المكان بحمولته الحضارية والثقافية والاجتماعية. فعندما يقحم القصبات التاريخية والمدن العتيقة كمدن فاس، تطوان، الرباط والشاون ... وكذا الأبواب القديمة في فضاء لوحاته، فإنه يفعل ذلك ليس من منطلق رؤية هندسية للمعمار، وإنما انطلاقا من أن للمكان أبعادا فكرية مرئية بالدرجة الأولى وتحيل على نسق مجتمعي وحضاري. فالمكان التشكيلي كإطار ثقافي، حسب صلاح الدين الطوبي، يأخذ تأويلا سوسيولوجيا، أي أنه يزاوج بين «المكان التشكيلي» و «المكان الاجتماعي» فالمكان بهذا المعنى بالنسبة له هو «تجربة الفنان ذاتها» فهو يحاول من خلال تلك الأمكنة المؤثثة للوحاته، أن يستعمل مفهوم الاسترجاع، والغوص في ثنايا الذاكرة التي تختزل تجربة ومسار الفنان وفي نفس الوقت تحيل على رغبته في الحياة وفي الانفتاح على المستقبل من خلال ما ترمز إليه تلك الأبواب القديمة المفتوحة على الحاضر والمستقبل. صلاح الدين الطوبي، يقف مشدوها أمام لوحات الفنانين العالمين الكبار من أمثال فان غوغ وبيكاسو بالإضافة الفنانين المغاربة من أمثال عبد الحق الزين، وفؤاد بلامين وبلكاهية، لكنه لا يقف عند حالات الاندهاش التي تخلقها لوحات هؤلاء الفنانين الكبار، بل يحاول رسم مسار خاص به، ليس للتفرد، ولكن لأن كل لوحة فنية هي في نظر صلاح الدين الطوبي، تجربة شخصية بكل حمولاتها، وبالتالي لا يمكن التماهي مع أي تجربة شخصية لفنان أخر. واقع الفن التشكيلي بالمغرب، يراه صلاح الدين الطوبي، واعدا خاصة مع وجود فنانين شباب أصبحوا يؤثثون الساحة الفنية المغربية منذ العقد الماضي، ودعا في السياق ذاته إلى الأخذ بيد هؤلاء الشباب من طرف الفنانين الكبار، وإقامة معارض جماعية يشارك فيها الشباب إلى جانب الفنانين الكبار، حتى ينتقل الفن التشكيلي من بعده النخبوي إلى بعده الجماهيري على غرار فن المسرح والموسيقي، وخلق دينامية فنية تجعل من هذا الفن في متناول جميع المغاربة بكل فئاتهم الاجتماعية. الجدير بالذكر أن أخر معرض شارك فيه الفنان صلاح الدين الطوبي، يعود إلى سنة 1996، لكنه راكم تجربة هامة في مساره التشكيلي من خلال عدد من الملتقيات التكوينية التي شارك فيها، كالأيام المغربية الأفريقية للصباغة، كما أن تلقيه للمبادئ الأولى للفن التشكيلي على يد الفنانة الفرنسية إلين جاكي، عمق معارفه وعلاقته بهذا الفن البديع.