القارئ كشريك فني للمؤلف محمد الهجابي روائي مغربي، له عدد من الروايات، منها زمان كأهله 2004، بوح القصبة 2004، موت الفوات 2005، كأنما غفوت 2007، إناث الدار 2011 التي نحن بصددها في هذه القراءة. أهم شخصيات هذه الرواية من صغار الشباب والصبايا المراهقين، الذين يريدون أن يلعبوا و يتعفرتوا ، رغم السنوات العجاف التي يعيشونها مع أفراد المجتمع المغربي إبان سنوات حرب الصحراء الشرقية بين الإخوة ، كما يصفها السارد. والصحراء الشرقية هي الصحراء الواقعة بين المغرب والجزائر، والتي اندلعت بسببها حرب الرمال سنة 1963 بين المغرب والجزائر. وهذه المنطقة اقتطعتها فرنسا إبان العهد الاستعماري من الأراضي المغربية وضمتها إلى مستعمرتها الجزائر، اعتقادا منها أن الجزائر أصبحت جزءا لا يتجزأ منها. وذلك نظرا لغنى هذه المنطقة بالثروات المعدنية. في هذه الرواية، يلقي الهجابي الضوء بأسلوب واقعي اجتماعي على حرب لم يسبق أن قرأت تصويراً لواقعها بهذه الحيادية والجمالية، في رواية عربية من قبل. وهنا يأتي دور الروائي الملتزم بقضايا وطنه بطريقة فنية مدهشة. تستحضر الرواية إحدى العائلات المغربية أنموذجاً لها، حيث طالب المدرسة اليافع حميش، ووالدته لالة حليمة، هما أهم شخصين في الرواية، وفي غياب الوالد حُماد في حرب الصحراء، تجد حميش ينقب في المزابل هو وأخوه الصغير حسن وصديقهما كشكوش، ليكتشف أحدهم شيئاً من نثار النحاس وما شاكله، فيبيعه، أو يتحرك في سوق السمك، فيتاجر بأشياء بسيطة، وبهذه النقود القليلة يشاهد فيلماً سينمائيا، أو يشتري شيئاً يشتهيه. وأما إناث الدار ، وهي عمارة فيها أربع عائلات، فهن الصبايا الصغيرات محجوبة ومينة ومريم وعتيقة، ثلاث منهن بيضاوات أمازيغيات. ويصور السارد الذي نعرف في نهاية الرواية أنه هو الروائي نفسه، شقاوة الشباب الصغار -إذ خلت الدار من الرجال الكبار- وهم يتفتحون على اللعب الجنسي، وكيف يكتشفون أسرار بعضهم الجنسية، كما تقول أغنية فيروز: ودارت بينا الدار، ونحنا اولاد زغار، والهوى جمعنا، وفرقنا الهوى! . وهنا نلاحظ أن الثقافة العربية نسيج وحدها، متلاقحة متكاملة، من الرحابنة الشرقيين، إلى محمد الهجابي الغربي، وأنها كلها ثقافة واحدة.. يقوم حميش بقراءة الرسائل المرسلة من المحاربين في الجبهة، ولربما انخرطت الأمهات في صولات من البكاء الحارق، فيفض الصغار دموعاً بالمقابل، ثم يخرجون فينزوون ل يتعفرتوا باقتراف حماقات الصغار الجنسية البريئة! هذا عن الصغار. أما النساء الكبيرات، الملتزمات في غياب أزواجهن، فلا تعدم وجود من تشذ عن القاعدة، فهذه لالة منانة، زوجة الفقيه السي موحى تديم القعود المشبوه بوصيد الباب الدار البراني، بينما للدار حرمتها التي ينبغي أن تصان، ولها رجالها، حتى وإن غابوا عنها في الجبهة! ولهذا اتفق حميش وأخوه الصغير حسن، وصديقه كشكوش على التربص بمهمتهم الاستخبارية، لاستجلاء أمر لالة منانة، وقص أثرها كلما زايلت الدار! وانهمكوا في متابعة شبح امرأة يدلف نحو درب فرعي، وينمِّس في شراعة باب شبه موارب.. وراحوا يتهامسون في شائعة العثور على زوجات بعض الجنود في بيوت قحاب الباريو ملكَا . الرواية تصور هنا بلغة بسيطة، واقعية، مرارة الحرب، حيث يموت الرجال في المعركة، أو يصابون بجروح بليغة، بينما تتورط بعض النساء في الدعارة، وتجوع العائلات فيبحث أطفالها في الزبالة عما يبيعونه فيتعيشون به.. يُشعرنا الروائي في عبارات كثيرة بفنه الجميل، وذلك بجعلك تسمع الصوت، وتشاهد الصورة، وتشم الرائحة، فهو يجيد الوصف إذ يقول: تسلق حميش عقبات، وارتقى درجات، فتقطعت أنفاسه، وصار يخنخن ويلهث . وفي قوله: أضوى جسد حليمة في غياب زوجها المحارب، وفاضت عنه كسوته ، سأل حميش بجانب فمه.. ، وهذا التصوير يجعلك تشاهد فم حميش الشقي ساخراً.. كان البخار يمرق من الأفواه والمناخير كمدخنات مصانع.. ، فلا تسمع غير حركات الأفواه وهي تُحشى باللقم السائغة، والشفاه وهي تتلمظ، والأنوف وهي تتنفس بصعوبة , وفي الصفحة 83 يقول: رأس كشكوش المربعة كما علب الشاي الصيني، وأضلاع صدر حميش المتراصة كلوح فرك الغسيل.. . بهذه الرواية يُدخل إلينا الهجابي ، كلمات من الدارجة الى العربية نتعرف عليها مثل: أحاطت النساء بالطيفور المستدير.. ، وفي قوله: وينمِّس ، يشتري رزنامة كاغد تلفيف السمك. وتوضح لنا الرواية نظرة بعض الرجال الكبار للنساء، إذ يقول حُماد والد حميش: إن النساء عجماوات، ولا يفقهن من شؤون الدنيا إلا ما يلبي شهواتهن، وهي كثيرة.. وأيده سي العزيز وهو يغادر معه إلى الجبهة أن عقولهن في فروجهن.. . ويصف محمد الهجابي في إناث الدار طعام المغرب المشهور في العالم كله الكسكس ، الذي يشتمل بالإضافة إلى المفتول على قرع ولفت وجزر وحمص وسمن وأشلاء لحم، وكيف تتجمع حولها نساء الدار، الصغار والكبار فيقذفونها في أفواههم على شكل كرات مضغوطة. وفي الصفحة 82 يصف الحمّام المغربي بتفاصيله منذ الدخول وحتى الخروج. فيتذكر حميش حمام النساء الذي كان يذهب إليه مع والدته لالة حليمة وهو صغير، فيشاهد الأبدان البضة الطرية والمسترخية بأثدائها المترنحة كالبقجات، أو المشدودة كالرمان، والأرداف الودقة أو الصقيلة الشهية في حمام النساء.. أما وقد كبر، فصار يذهب وحيداً إلى حمام الرجال... يعجبك أسلوب الروائي في سرد قصة داخلية لجندي اختطف فتاة وجاء بها إلى البيت، لكنه يعيد سرد القصة بعدة وجهات نظر، على نهج رواية داريل؛ رباعية الإسكندرية ، وفي هذا تنشيط لمخيلة القارئ، واحترام لمشاركته في التفكير مع الروائي كأنه شريك فني للمؤلف. وفي الرواية نطّلع على نهج المغاربة الذين ينعتون المرأة ب الدار ، إذ يقول المغربي التقليدي: خُلق الرجل ليكون في الخارج، وخُلقت المرأة للدار ، وأحياناً ينعت أبو حميش زوجته ب الدار . سمعه مرة يقول: ستذهب معي الدار إلى السوق . وفي الرواية بلاغة لغوية جميلة، ومن ذلك: يركب صهوة جنونه صوب السينما.. ، وغيرها كثير، ما يجعلنا نتعرف على روائي مغربي ، يستحق أن يُقرأ له، رغم بعض الهنات التي لا تخلو منها رواية عربية ولا أجنبية، والتي لا مجال لذكرها هنا.