اضطرت الحكومة أخيرا للتحرك ضد موجات غلاء أسعار المواد الغذائية، وقررت عقد اجتماع للجنة وزارية مشتركة رفيعة المستوى لليقظة، بعد أن تفاقمت الأوضاع، وعم الاستنكار مختلف الأوساط جراء المعاناة اليومية مع الغلاء ولوبيات المضاربات وتلاعبات السماسرة. في كل الأحوال، يعتبر هذا الوعي المتأخر إيجابيا ولكن المطلوب ليس الاجتماعات وحدها وتبادل الصور والتصريحات والوعود المكرورة، ولكن المطلوب أكثر هو إعمال إجراءات وقرارات ملموسة على أرض الواقع، وأن يحس شعبنا بأثرها المباشر على قفة معيشته اليومية، وعلى تحسن قدرته الشرائية. تقول الحكومة اليوم بأن اللجنة الوزارية المشتركة لليقظة ستعمل، بشكل متواصل، إلى غاية انقضاء شهر رمضان المقبل، وذلك بغرض تتبع وضعية تموين الأسواق الوطنية ومستوى أسعار المواد الأساسية، ومعالجة الإشكالات وتأطير وتعزيز تدخلات المصالح المكلفة بمراقبة وحماية المستهلك، وآليات التنسيق بين مختلف الإدارات والهيئات المعنية. كل هذا جيد وجميل ومطلوب، ويقتضي أولا الحرص على العمل الجدي والنزيه على أرض الواقع بشكل مستمر ومنتظم، ويفرض أيضا التحلي بالصرامة في أداء مهام المراقبة والتدخلات الميدانية من طرف المكلفين بها، ولكن، علاوة على ذلك، يتطلب الأمر اتخاذ اجراءات جدية وشجاعة لها طبيعة وطنية مهيكلة، تعنى مثلا بسعر المحروقات، وكذلك بحيثيات تتصل بسلاسل الإنتاج الخاصة ببعض المواد، مثل الطماطم واللحوم والدواجن والبيض والزيوت، ثم بمنظومة النقل، وتدبير الأسواق، وضد تصرفات السماسرة ولوبيات السوق وأباطرة المضاربات، وهذا ما سيوفر البنيات المسهلة لتحقيق انخفاض الأسعار. منظومة الأسعار تحكمها، بالفعل، مقتضيات مسيجة، ولكن العوامل والسلوكات المحيطة بها، والتي تزيد من تعقيدها على أرض الواقع، وتساهم في تفاقم معاناة بسطاء وفقراء شعبنا، هي التي يجب أن تشملها أولا تدخلات المصالح الحكومية، لأن معالجتها، والتصدي، من خلالها، لممارسات المضاربين والسماسرة، يمكن أن يخفف من حدة المعاناة. كلنا نتذكر العلاقة الخاصة التي ربطت بعض مكونات الحكومة الحالية مع»القفة»في فترة الحملات الإنتخابية، والكثير من الكلام والقصص والحكايات والوقائع انتشرت حينها عن توزيع القفف على المحتاجين مقابل حجز أصواتهم أو... ولائهم الانتخابي!!! لكن لما تحقق الهدف، وحدث أن تعمقت حاجة الناس، وتدهورت قدرتهم الشرائية كثيرا، وصارت هذه»القفة»في حاجة، بالذات، إلى المساندة الحكومية الحقيقية، وإلى دعم المواد المكونة لها، وإلى إجراءات إجتماعية حقيقية دائمة ومستمرة، صمتت الحكومة، وأدارت ظهرها للناس، وتركت المعاناة تتفاقم وتحتد، ولم يجد الفقراء والمحتاجون من يساندهم أو يحس بهم أو يحمي قدرتهم الشرائية ووضعهم المعيشي اليومي. الغلاء يتفشى اليوم في كل مكان، ويمس كل المواد، ويخشى الناس استمرار ذلك خلال شهر رمضان حيث تزداد المصاريف، ومؤشرات التدني والقلق تكثر وتلف الناس من أكثر من جهة، ولكل هذا تعتبر المعضلة الاجتماعية والواقع المعيشي لفئات واسعة من شعبنا الأولوية التي يجب أن تتوجه إليها السياسة الحكومية، وأن يتحقق الاستنفار الحكومي بشأنها، وأن تعلن بشأنها إجراءات قوية وشمولية ومستعجلة. القرارات الأحادية المعزولة والجزئية لم تعد تجدي مهما كانت ايجابية، ولكن المطلوب رؤية شمولية وقرارات التقائية، وأن تكون مستعجلة، وأن تصدر عن وعي حكومي وإرادة سياسية واضحين، وعن رؤية سياسية تدرك أن الانتظارات الاجتماعية لشعبنا أساسية وراهنية، وأن معالجتها وتحقيقها يتطلبان شجاعة وصرامة ضد اللوبيات والسماسرة والمنتفعين من الفوضى والريع واختلالات السوق ونظام الاسعار والمراقبة. شعبنا في حاجة إلى حماية معيشته وقدرته الشرائية المتضررة، والحكومة، مدعوة، إلى فهم القلق الاجتماعى المتفاقم وإدراك حدته ومخاطره المتعددة. محتات الرقاص