كما كان متوقعا، ظل المناخ الاقتصادي والاجتماعي الدولي والأوروبي وكذلك العربي متقلبا طوال سنة 2011. في حين شهد الوضع السياسي المغربي انفراجا وذلك بإقرار دستور جديد سوف تنظم طبقا لمقتضياته انتخابات تشريعية سابقة لأوانها خلال شهر نونبر المقبل. ولذلك يتسم مشروع قانون المالية 2012 الذي هو قيد التهييئ بأهمية خاصة، بحيث لا يرجى منه اقتراح سبل وحلول ناجعة للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية الملحة فحسب، بل كذلك يتطلع الملاحظون إلى الكيفية التي سوف يعد بها هذا المشروع الأول من نوعه في نطاق الدستور الجديد خصوصا وأن هذا الدستور قد نص على مبادئ أساسية عدة كضرورة مراعاة التوازن المالي العمومي. لذا ينتظر منطقيا من الحكومة الحالية أن لا تتعامل مع هذا المشروع كأنه مجرد مشروع انتقالي، ومن المعارضة أن لا تولي اهتمامها كليا للاستعداد للانتخابات وأن لا تتهاون في نقاش جدي لهذا المشروع. سيما وأن الحصيلة الاقتصادية لسنة 2011، وإن كانت تحمل في طياتها نتائج إيجابية فهي لا تخلو من أخرى يستوجب الاهتمام بها وبحزم. ذلك، وحسب المعطيات المتوفرة، أن نسبة النمو الاقتصادي سوف تحقق رقما محترما يصل إلى حوالي 4 أو 5 (كما أن نسبة التضخم تظل تحت السيطرة إذ لم تتعد 2). على العكس، فقد بات من شبه المؤكد على أن عجز الميزانية العمومية سوف يقارب 6 (من الدخل القومي الإجمالي رغم المداخل التي حققتها عمليات الخوصصة التي تمت خلال السنة. في حين سوف ترتفع نسبة المديونية العمومية إلى نحو 53). في وقت تراجعت فيه الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتفاقم فيه العجز التجاري الخارجي، كما تقلصت نسبة الاحتياطي من العملات الصعبة إلى ما يعادل 5 شهور من قيمة الواردات الإجمالية. أضف إلى ذلك ارتفاعا في نسبة البطالة وتدن في رقم المعاملات في سوق القيم وتذبذب قيم كانت تعد صلبة إلى وقت قريب كقيم بعض الابناك ذات الرساميل الأوروبية وذلك في سياق التدهور المالي الكبير الذي تعرفه منطقة اليورو. صحيح أن الحكومة الحالية واجهت ظرفية متسمة بارتفاع كبير لثمن البترول المستورد، كما أقرت زيادات عامة في الأجور ورفعت من ميزانية صندوق المقاصة للحفاظ على القدرة الشرائية للمستهلكين وذلك تحت ضغط الشارع. أما إذا نظرنا إلى العوامل المحركة للنمو الاقتصادي فسوف نلاحظ أن الصادرات وان تحسن نموها خلال السنة، لا تزال الوضعية الاقتصادية المتدنية في البلدان الأوروبية بمثابة تهديد لها. كما أن الاستهلاك الخصوصي لا يزال في منحى تصاعدي خصوصا وان القدرة الشرائية للموظفين تحسنت نسبيا. على العكس قد تعيد الدولة النظر في وتيرة نمو النفقات العمومية عامة وخصوصا الاستثمارات في الأشغال العمومية وذلك تفاديا لتفاقم اكبر لعجز الميزانية العمومية مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة كتلك التي تعيش على وقعها بلدان مثل اليونان و اسبانيا والبرتغال التي أسرفت في النفقات على مشاريع عمومية مكلفة. أضف إلى هذا وذاك ضرورة مراعاة تحولات عميقة يشهدها مناخ الاقتصاد الوطني على المدى المتوسط والتي تستوجب كل العناية الضرورية. على سبيل المثال نورد المؤثرات القوية للاتفاقيات التجارية الحرة خصوصا تلك التي تربطنا بأوروبا والتي تدخل حيز التطبيق كاملا خلال سنة 2012 في وقت تمر فيه المفاوضات الفلاحية بين الطرفين بمرحلة حساسة. أضف إلى ذلك إغلاق أبواب أوروبا أمام عمالتنا المهاجرة، وتدني الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وانخفاض المداخل الجمركية، وتباطؤ تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، وتذبذب عائدات قطاع السياحة وذلك نظرا لانخفاض النفقات المخصصة لذلك من طرف زبنائنا الأوروبيين، والوضع المتأزم لصناديق التقاعد والتي تشرف على الإفلاس إن لم تعد هيكلتها سريعا ، والتشنج المستمر في سوق الشغل وانعدام التناغم بين المخططات التنموية القطاعية المتعددة والتي ينتج عنها استمرار الهشاشة في قطاع الإنتاج وضعف في الصادرات المتميزة أصلا بهزالة قيمتها المضافة، ومشاركة ضعيفة في الإنتاج القومي للقطاعات المرتكزة على الابتكار والمعرفة والخدمات اللامادية... باختصار إن المناخ الحالي يتطلب تعبئة شاملة لكل عوامل القوة المتوفرة لدى الاقتصاد الوطني وعملا ممنهجا للتغلب على المعيقات التي تواجهه. بمعنى آخر إن التدابير التقليدية للسياسة الاقتصادية سوف لن تكفي وحدها. ففي مجال السياسة المالية يتوجب العمل على توسيع الوعاء الضريبي وتحسين المردود الجبائي، إذ لم يعد ممكنا للمغرب أن يرجئ أكثر إصلاحا ضريبيا عميقا من شانه أن يزيل الخلل الذي يميز نظامنا الضريبي، ويعبئ مدا خيل وافرة متواجدة خصوصا عند شرائح اجتماعية معفاة أو تلك التي تعفي نفسها. فمثلا لماذا يرجئ إصلاح نظام الضريبة على القيمة المضافة، ولو كان هذا الإصلاح معقدا، خصوصا وان قطاعات واسعة من المستهلكين ورجال الأعمال تطلب هذا الإصلاح الذي سوف يمكن الدولة في نفس الوقت من تحقيق موارد مالية وأهداف اقتصادية واجتماعية ذات أهمية قصوى. كما بات من الضروري العمل على الرفع من المساهمات التي توفرها المؤسسات العمومية لميزانية الدولة، ولم لا التخلص من شركات عمومية باتت ثقلا على مالية الدولة لعقود طويلة. ولن ننسى أن نشدد على ضرورة إعادة النظر في الأولويات المبرمجة في ميدان الاستثمارات العمومية، والعمل على الرفع من نسبة المشاركة للشركات الوطنية في انجاز المشاريع المقررة وذلك بتشجيع اكبر للشراكة بين القطاعين العمومي والخصوصي (PPP). ولتحقيق ذلك يجب إصدار قانون منظم لهاته الشراكة عوض القانون الحالي الذي يقتصر على تنظيم عمليات تحويل بعض الخدمات العمومية إلى الخواص. أما فيما يخص فكرة خفض نسبة الأجور العمومية في الدخل القومي فهي فكرة لا يمكن أن تتبلور في الواقع إلا إذا أقحمت في نطاق برنامج شامل. من البديهي أن ذلك لن يتحقق إلا برفع المستوى العام للواردات العمومية، وإعادة هيكلة للنفقات، والرفع من مستوى التنمية الاقتصادية. وهو نفس المنهج الذي يستوجب إتباعه لحل معضلة صندوق المقاصة الذي يكلف أموالا طائلة جاوزت 40 مليار درهم هذه السنة. يجب الإسراع بإيجاد آلية إدارية وتقنية لجعل أموال هذا الصندوق تذهب حصرا إلى الطبقات المعوزة وذلك في انتظار إيجاد نظام عام وناجع لتوفير دخل مشرف مقابل مساهمة شغلية إن أمكن، لكل مواطن عديم الدخل. ولعل المستعجل الآن هو البدء بصون المال العمومي وذلك من خلال تطهير شامل وعميق لتدبير كل الشركات والمؤسسات العمومية، وكذا الجماعات المحلية التي نرى اليوم كثيرا منها وهي في شلل تام وذلك لاعتبارات قد تكون موضوعية أحيانا، أو سياسوية محضة في غالب الأحيان. ومن المعلوم أن السياسة الاقتصادية لا تنحصر في شقها المالي. في مناخ يتميز بسيولة نقدية متدنية، من المحتمل أن تتواصل خلال الأشهر القادمة نظرا للضغط المسلط على ميزانية الدولة، ونظرا كذلك للمصاعب التي تلاقيها هذه الأيام بعض الأبناك ذات الرساميل الأجنبية، فمن المستبعد أن يكون للسياسة النقدية الموجهة مباشرة صوب التضخم (inflation'litique de ciblage de loP) كامل فعاليتها، ليس لسبب سوى أن السوق المالي الوطني لا زالت هياكله هشة نسبيا كما أن متغيرات كبيرة تسري الآن في السوق المالي وسوق القيم. ولنفس هذه الأسباب لا يمكن لأي مستشار متبصر أن ينصح اليوم الدولة بالتخلي عن مراقبة دقيقة لسوق الصرف. نعم إن السؤال المحوري يتعلق في الظروف الحالية بمعدل النمو و بمستوى الخدمات الاجتماعية المتوفرة للمواطنين، وهنا لا يمكننا إلا أن نذكر بإحدى البديهيات التي تؤكد على انه لا يكمن لأي بلد أن يقدم خدمات اجتماعية وافرة وناجعة إلا إذا نجح في خلق نظام إنتاجي قوي ونسبا عالية ومسترسلة لنموه الاقتصادي. لذا فان الإشكال الصعب يكمن في كيفية الحصول على نقطتين أو ثلاث إضافية من الدخل القومي الإجمالي التي يحتاجها المغرب بصفة دائمة. للإجابة على هذا الإشكال يستوجب علينا أن نقول بكل صراحة بان الحل سياسي أكثر مما هو اقتصادي. نعم إن الحل يتجلى اليوم في تطبيق امثل لمقتضيات دستور فاتح يوليوز الذي اقر مبادئ من الأهمية بمكان قادرة على تحقيق دولة القانون والديمقراطية والنماء. قد يتفهم المرء الفكرة التي مفادها أن ميزانية الدولة لسنة 2012 لا تعدو أن تكون ميزانية تحول من مرحلة إلى أخرى (Budget de transition) وعلى انه ليس من المنطقي أن تقدم الحكومة الحالية على إصلاحات جوهرية طالما أن الحكومة التي سوف تخلفها بعد الانتخابات قد تريد تطبيق سياسية جديدة تبدأها بإصدار ميزانية تصحيحية. هذا نظرا قد يتفهمه البعض، لكننا في ما يخصنا وبكل تجرد لن نتفق معه لان ديمومة الدولة تحتم على الحكومة القائمة أن تقوم بواجبها على أحسن حال خصوصا وان كل انتظار يطول أكثر، قد يعمق من ندرة الموارد ومن تدني الإنتاجية إلى أسوء الدرجات. لذا يستحب من الحكومة الحالية أن تهيئ مشروع الميزانية بجد، أي طبقا لروح الدستور الجديد، كما يجب عليها أن تهيئ الجو اللازم لانتخابات نزيهة وشفافة، ولا مجال للطعن فيها وذلك طبقا لمنطوق وروح الخطابين الملكيين الأخيرين. إن انتخابات نظيفة هي الطريق الأمثل لتعيين حكومة قوية قادرة، تحت قيادة وتحكيم ملكيين، على اتخاذ التدابير الضرورية بما فيها تلك التي قد تكون قاسية. إذ لا مفر من إصلاحات شجاعة لتنقية شاملة لمناخ الإنتاج والاستثمار، وللرفع من مستوى الموارد، ولتحفيز كافة الشرائح المجتمعية للرفع من مستوى جهدها، بما فيها تلك الشرائح المتعلمة التي تطالب في الشارع بالشغل، شريطة أن يكون هذا الشغل في الإدارة العمومية، وهي تعلم بان ذلك غير ممكن. كما أن الإصلاح ضروري لإعادة التصالح بين الضريبة وبعض المواطنين الممتنعين عن أداء مستلزماتهم إما كليا أو جزئيا وذلك لأسباب عدة لا تقنع أبدا. إن فرصة تهيئ مشروع المالية لسنة 2012، هي فرصة سانحة لانجاز إصلاح شامل للقانون التنظيمي للمالية العمومية، حتى يمكن إعمال المقتضيات الرئيسية التي نص عليها الدستور الجديد من قبيل الجهوية المتقدمة، والمراقبة الدائمة والتوازن المالي الذي يجب التعامل معه كتوجه أو حركية لا غير خصوصا ونحن في بلد نامي سكانه في حاجة ماسة إلى خدمات اجتماعية متعددة. * أستاذ الاقتصاد والتجارة الخارجية بالمعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات (ISCAE)