إنه صبح خريفيّ باهت يتسلل نحونا بسراج شحّ فيه الضوء كعجوز متعب ليفك طلاسم عروة الوجع ويسير في دهاليز الغضب وقد خطّ الشيب أفقه الشاحب ليخيط الليل سراب البوح من دوحة الروح فلا أكاد أتبين سحره من بين خصلاته الرمادية في هذا الوقت المرتبك . يتجعد الإشراق على جبين إطلالته حين شح وميضه فأصابني من سهام ضعفه بالأحزان وتكاتفت معه كائنات الأرض فأعلنت الحزن مع رفيق الزمن وعبق الضياء .. إنها يقظة غافلة أدركت أنها تخطو نحو الزوال أو ربما صحوة بعد غواية حياة موبوءة بالمغريات تقذفنا خارج «ماخورها» بعدما تمتص أرواحنا بصمت. وبإحساس ساذج من صدى امرأة سقطت ملامحها سهوا في الخواء انتابني إحساس رقيق ونسجت معه قصة عشق مجنونة وسرية بين الشمس والأرض ليخيم عليها الصمت والوجوم. فما الخريف إلا وداع ساخن موجع بينهما والفصول تجتر الخيبة وتكنس الألَق العالق فوق شفتي الوقت ومن بقايا قُبَل صيفية الغواية سرى دبيب البوح في أعصاب كف السماء . فلماذا كلما هجع نورس الليل للسماء أسترجع هوامش الوجع الثائر من عباب الوجد لبيت الطاعة فأهزأ من فظاظة حاضر مسلوخ الفضيلة لأكتب عنه، فقط عنه. أكتب على مرآة الوهم قصيدة مغتصبة شقية ما زالت تخطو على تراب العبث أبياتا و أبياتا وإن لفها الحزن أحقاباً فلا بد للفجرِ أن يسجل في سمائها الغرور أي شيء هي الآن؟ أفلا يفرح الصبح بالقصائد الهاربة من الوقت؟ هو صباح حزين تنكس فيه الأزهار أجفانها بحنان لا يخلو من خيلاء رغم الحزن المهيمن على وجه الشمس. هواء؟ ضباب؟ غبار؟ ضوء؟ أي شيء؟ وكل شيء فقط أعطوني إشارة.. يجب أن أعرف إلى أي وجهة أرسل صوتي وصورتي؟ أعطوني وجهة ما أو هدفا ما لقد أصابني فعلا أيلول بالحزن واستفز مدونة القلب فسادها إحساس سوداوي جعل الأحلام تحني سيقانها برقي لتسجد بطاعة خالية من التمرد ثمّ تعود لرحم الأرض في سبات يرجو عودة الروح للحياة. وكلما اصفرت أوراق الشجر هولا وفرّت بذعر عشوائي كجيش مهزوم تبحث عن مخبأ ينجيها التحلّل والتحطم حتى وإن كانت محاولاتها عبثية بلا طائل هي تعاني من سكرات الرحيل . قُلوا شيئا يا سادة! كلي إصغاء لكن لا تهموا بالرحيل . إنّني اليوم مستعدة لأُصدق حتى الأكاذِيب كي لا أحترق عند الموعد كشمعة تحرق نفسها لتتقد وتخفي الظلام الساكن في الظنون إلى ما خلف المدى وأبعد ثم تفقد ذاكرتها لتعيش كما ينبغي لحظاتها السعيدة فتقيد جراحها خلف الشمس في حفلة ماجنة الانتماء أو كقصيدة ترقص بي الكواكب في سكون حذر.. يرتشف سويعات الرحيل بتأن مشوب ببعض الألم فهي فجيعة كبرى إنما يعقبها خير تحتاجه الروح كي تحيا وللحياة لا بد من موت يتبعه لقاء وذكرى لا تعود. تسخر تارة من رفات جلدها التواقة للشمس وتحن لرسائل محنطة مخيفة في درج الأحلام الثكلى فتلهت قهرا من صقيع الكلام وضمير أعمى منذ الأزل.. وأنا لم أزل أسأل؟ كيف نامت أحداق تلك العابرة وهي تطبق فرحا على فيالق المكائد؟ وهل لازال الليل يراود الأحلام عن نفسها المنسية على كتف الحياة؟ أم هو رقص فوق أشلاء عفاف هارب من تاريخ مستنسخ كشف سره فأبان عن قلة حيلته وضعف نيته وسافر نحو التيه العظيم طامعا في التناسي فعلا هو صبح خريفي باهت إنما رغم شح إشراقته وإنهاك سطوته إنما أشعرني بالسلام والسكينة والتفكّر… وشعور عميق هو أقرب إلى الله. فيا أيتها الحياة.. ألاك مني الصبر وقلة الحيلة ولي شهقة وألف عناق يعيد لي اسمي المبعثر بمسامك. ألاك فقط تهرمُ بين يدي ومازلتَ قيد قطبين المغنطة لديك حسب حياة الشُعور إما جذب مستديم، أو نفور عقيم.. وأنت أنت.. وأنا أنا ولا أدري حقا، أينام الليل في السماء أم يرقد على كتفي يثمل من أناملي كقصائد سكارى معتكفا بين أضلعي مغرقا وجهه في رمل الورق يحدق ببلاهة في كؤوس فرغت من نطف الكلام فأتساءل أيصنع من وجه شكواي أوراق بردي رخيصة أم يسلخ جلد مرآتي الحزين كي تزهر في مجازاته أكذوبة الزمن لأنجب قصيدة محرمة محظورة في بلاط المزيفين المترفين. لا لشيء إلا لكوني امرأة من برج عظيم تغمض عينيها وتحلق لتعلم أنها نصف الحياة و بياض الثلج والربيع لكل الفصول وقطرة الغيث لأرض قاحلة. لكن هذا ما يجري فعلاً. البداية خوف وارتباك وفضول وحين يداعبني الهواء الحارق أتهاطل شوقا لأحضان الحياة ومن غيم السماء ألملم ضياعي واحتياجي وأهمسي في جوف الأرض تبا للأقدار التي ضيعتني. وأُنثر شعري حول الأيام أنثره وفي آخر ليلة من العمر أقضي السمر بين أحضان الوقت كي يصبح الموت مدهشا وأعانق فيه السكون وأمضي. فأنا أتَحدى ذاتي والكون يتحدى كل من سبقوني إلى وشوشة الصمت وهو يماشي جدائل الفرح وهم يحملون الهم والحزن في راحاتهم وعقود الياسمين تزين نحر التعب بلا كلل وليكن إذن فلنتحسس دفئا يزهر في الظلام وكفى. وليكن التحدي قائما بين كل من عاشرت أرواحهم من آلهة الإلهام وعباد وكهنة بمحراب الصبر ولأكن أنثى اخترقت شفافية الضوء وجاذبية الكون ومعراج الروح وتربة الذات لتتدلى أفكارها من عناقيد منسية بين راحتي الأيام وتستقر هناك كألم شديد ومشتهى.. فأي مخلوق هي؟ أمن روح جبلت؟ أم من ظلال الروح؟ إمرأة تفهرس الذاكرة فصولا وأجزاء كي تبتكر كل تلك المفردات البكر وتتجول حافية القدمين على سرير الروح فتستنشق عطرها وعيناها تحرسان النبض كي تحب الحياة بأسلوب مختلف وطيش وجنون وأي إدمان ذاك الذي تنفثه في نبضات القلب الصامتة المركونة هناك في الزاوية كي تنتظر أحدا يحمل الحاضر على أمواج البحر الغارق في الحلم و يعزف على وترِها كل لحظة همس العواطف فتتبعثر من الأنامل كتائب سقط منها الحلم مغشيا عليه فعد ثوانيه ورحل . لا أعرف حقا كيف تنسج الذاكرة تاريخا عظيما حين يتعلق الأمر بامرأة؟ سيعرف التاريخ أخيراً أنها امرأة تمضي ولا تمضي باقية راحلة وليست بالقرب تعشق الحزن المعتق على ترائب الرسائل المخزون منذ أمد بين الضفائر لتزهر كلما انسكب المسك بين الظروف صبرا وأملا وإيمانا كدفء العطر العتيق لتستحيل الجراح فرحا وسعادة كلما ذبحت الأيام على معصم اللهفة فضاعت سونها كأنها دهر اشتكت ملامح وجهه من فقدان وجه آخر فصار أعمى البصيرتين فتركها تحت ظلال الصمت كماض عتيق. لوهلة شربت قليلا من الرحيل قبل اللقاء وابتلعت قمرا كان قد سقط في غرفتي ليلة أمس ثم رسمت على الجدران أشجارا وزهورا ونجوما بيضاء معلقة على أغصان باهتة الحضور، ورسمت أيضا وجوه أشخاص مروا على الذاكرة يوما ما وفتاة كانت تسكنني وتبتسم لي كلما تجهمت ملامحي ثم ترتل لي كلماتها الساحرة وتسابيح أفروديت.. ثم جاءت الدمع بالليل الحزين سواكبها ألم مصلوب تجر الخطى حتى تدمي مدامع الروح وتفضح اللهف العاري من زفير القلب وويح قلبي كيف لا يضمني ويحذو حذوي ويشد الرحال ولا يتعثر وبعض الظن إثم وبعد الإثم تدثر من صمت وشت به خطوات العمر قبل أن تتبعثر إلى المدى وما وراءه وفي جوفه وهي ليست سوى امرأة ترتدي عري الماء كي ترقص في أعماقه حتى النفير الأخير منه وما أجمل الابتلاء والامتلاء به ليسرع ويقطف آخر الدموع من ليل الغياب ليترنم من صلصال روحها.. فربما … وقد يكون أني …. وألف لا أحاول الخروج من شرنقتي وكفى. وعلى نخب المرة الأولى أشعل روحي من جديد ولا حولة ولا قوة لي بالوريد وهو يداري انطفاء ثرثرة شابت مع السطور ورافقتني بمأوى بلا وطن فأحرقت أصابعي مع كل الذنوب..