صادف يوم أول أمس الثلاثاء، 2 مارس 2021، مرور سنة على ظهور أول حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا المستجد، ببلادنا، حيث تم التكفل في حينه بالحالة التي سجلت لدى مواطن مغربي، مقيم في إيطاليا، لتبدأ معه معركة المواجهة مع الجائحة التي يستمر العالم في المعاناة من تبعاتها لهذه اللحظة. وفي هذا الحوار الذي خص به مجلة"BAB" (وكالة المغرب العربي للأنباء)،يتوقف الطبيب والباحث في السياسات والنظم الصحية، الطيب حمضي، عند الأزمة الصحية الراهنة التي عصفت باقتصادات بلدان العالم وأودت بأرواح العباد، وتداعياتها الاجتماعية والصحية والديمغرافية على المجتمعات كافة، وما نجم عنها من طفرات جديدة مقلقة. كيف يمكن كبح جماح هذه الجائحة المتفشية في شتى بقاع العالم؟ صحيح أن "كوفيد- 19" يشكل خطرا على المجتمعات كافة، لكنه تبين أنه أشد خطورة على فئة المسنين وذوي الأمراض المزمنة. وللأسف هذا التحدي مطروح على المنظومة الصحية منذ عدة سنوات، وكأن الجائحة جاءت لتنبهنا، بشكل درامي، إلى ضرورة الاستعداد للمستقبل بشكل أفضل. بلدان كثيرة قدمت منذ عقود أجوبة على هذه التحديات بالبحث عن كيفية ملاءمة أنظمتها الصحية مع تقدم مجتمعاتها في السن وتطور إبديميولوجية الأمراض التي أضحت متسمة بتزايد الأمراض المزمنة عوض السارية التي كانت سائدة من قبل. وهكذا، بات ارتفاع متوسط العمر وشيخوخة المجتمعات يطرحان ضغطا كبيرا على العرض الصحي كمّا وكيفا، وحاجة متعاظمة لمواجهة هذا العرض، علما أن الأمراض المزمنة مكلفة وشاقة، بينما يظل علاجها في المراحل المتقدمة ذا مردودية ضعيفة صحيا واجتماعيا رغم تكلفته الباهظة. وبحسب بعض التقديرات الحالية، فإن سن كل شخص من عشرة يفوق 60 سنة في المغرب. وفي أفق سنة 2050 ستتضاعف هذه النسبة ثلاث مرات بحيث ستفوق أعمار ربع المغاربة الستين عاما. وعلى سبيل المقارنة، فإن المؤمنين لهم أكثر من 60 سنة يستهلكون 70 في المائة من مصاريف التأمين الصحي، بينما باقي المؤمنين لهم تحت 60 سنة يتقاسمون 30 في المائة المتبقية. كما أن أزيد من 50 في المائة من مصاريف صناديق التأمين تذهب لعلاج 3 في المائة فقط من المؤمنين لهم بسبب الأمراض المزمنة التي يعانون منها. هل الوقاية والتربية الصحية وطب القرب مفاتيح حاسمة لخوض هذه المعركة الصحية؟ دول متقدمة باقتصادات قوية وأسلحة متطورة وتكنولوجيات حديثة عانت الأمرين بحثا عن وسائل الوقاية البسيطة من قبيل الكمامات والقفازات الطبية وغيرها. ولمواجهة شراسة الجائحة لم يكن الحل الحقيقي والأمثل هو تجهيز أقسام الإنعاش والمستشفيات، لأن مصير هذه الأخيرة هو الانهيار إذا لم يتم محاصرة العدوى، بل الوقاية والتربية الصحية حول المرض وطرق انتشاره والوقاية منه، والتشخيص المبكر منذ ظهور أولى الأعراض وتحديد المخالطين وتتبع المصابين والتكفل بهم مبكرا عند الحاجة. فهذه هي الاستراتيجية الناجحة للتحكم في الوباء وعدم إغراق المستشفيات بالحالات الحرجة. أما البلدان التي أهملت هذه الجوانب، فقد أدت الثمن غاليا قبل الانتباه لخطئها. وهذه المقاربة تظل كذلك أساس كل منظومة صحية تتوخى الفعالية والنجاعة سواء في أوقات الأزمات أو في الأوقات العادية. وبالتالي، بات من الضروري اليوم إعادة بناء المنظومة الصحية على أساس الوقاية والتربية الصحية والعلاجات الأساسية، ومن ثم طب القرب وطب العائلة ووضع الطب العام في قلب منظومة صحية فعالة ورشيدة. ماذا عن التغطية الصحية الشاملة؟ أظهرت أزمة كورونا كيف يؤثر غياب التغطية الصحية على مجهودات محاربة الأوبئة والتحكم فيها، مما أجبر جل الدول على اللجوء إلى التمويل الحكومي لتكثيف الجهود الرامية إلى تشخيص الإصابات وعلاجها والوقاية منها لوقف زحف الوباء، وذلك بغض النظر عن معايير التغطية الصحية. وهذه الحقيقة التي تجلت بقوة في زمن الأزمة الصحية هي كذلك قائمة خلال الأزمنة العادية، إذ لا يمكن تحسين الظروف الصحية للأفراد إلا في إطار مقاربة مجتمعية شاملة ومندمجة، قوامها تغطية صحية شاملة وولوج عادل للخدمات الصحية الأساسية. وفي هذا الإطار جاءت توجيهات جلالة الملك محمد السادس بتعميم التغطية الصحية على جميع المغاربة قبل متم سنة 2022، وذلك لتجاوز الوضعية الحالية التي تتسم بضعف معدل التغطية وعدم نجاعتها. فثلث المغاربة فقط يستفيدون من التغطية الصحية، والثلث الآخر يلجأ إلى نظام "راميد"، فيما يظل الثلث المتبقي بدون أي تغطية. وتؤدي الأسر المغربية أزيد من نصف المصاريف الصحية من ميزانياتها الأسرية. وحتى المؤمنون لهم يؤدون ما بين 30 و50 في المائة من مصاريف العلاج من جيوبهم، وهذا دون الأخذ في الاعتبار عدة صناديق متفرقة ومشتتة تؤدي إلى ارتفاع كلفة التغطية وضعف المردودية. إن التغطية الشاملة، والخريطة الصحية، والرفع من تمويل العرض الصحي وتنويعه، وتكوين وتشغيل مزيد من الأطر البشرية، تعد مداخل أساسية لتمكين ولوج عادل ومتكافئ للخدمات الصحية. كيف يمكن النهوض بالمنظومة الصحية وخدماتها كافة؟ على غرار كل القطاعات، يتعين أن يتوفر قطاع الصحة على استراتيجيات يجب تحديدها والعمل وفقها على المديين البعيد والمتوسط. ولا يمكن تصور تغيير سياسات صحية بكاملها كل أربع أو خمس سنوات مع نهاية كل ولاية انتخابية، أو كل سنتين مع كل تغيير على رأس الوزارة الوصية. كما يجب أن يتم إطلاق حوار وطني يشارك فيه كل المتدخلين في الشأن الصحي من أجل تحديد الاستراتيجيات والأهداف الكبرى على المدى البعيد. أما السياسات قصيرة المدى فيجب أن تكون مندمجة ومنسجمة مع الرؤية الاستراتيجية في مجال التمويل والتكوين والتشريع والتشغيل وأهداف الصحة العامة. ومن هذا المنطلق، تتجلى الحاجة الملحة لإحداث مجلس أعلى للصحة يكون من مهامه تنظيم وبلورة هذه الرؤى الاستراتيجية الواضحة التي تؤطر السياسات الصحية على المديين المتوسط والقصير. ماذا عن الشراكة بين القطاعين الخاص والعام؟ يعد القطاع الطبي الخاص، بحكم طبيعته وطبيعة المهام المنوطة إليه، قطاعا خاصا يؤدي خدمة عمومية. إنها حقيقة يومية وإن تم تجاهلها. وقد أظهرت الأزمة الصحية أهمية وجود قطاع طبي خاص قوي ومتطور، وكذا أهمية التعاون بين القطاعين، بتعاون مع قطاع الطب العسكري. فالشراكة بين القطاعين الخاص والعام قاطرة تعمل على ترشيد عمل القطاع العام ومساعدته على تحقيق أهداف السياسة الصحية بأقل تكلفة وباستثمار الموجود في القطاع الخاص. كما تساعد هذه الشراكة القطاع الطبي الخاص على التطور كمّا وكيفا لتقديم خدمات صحية متنوعة، وشاملة، ومتطورة، وبأقل تكلفة. ما أهمية قطاع الصحة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي؟ المؤسسات الصحية والمهنيون الصحيون لا يحاربون الأمراض ويعالجونها فقط، بل يساهمون في الحفاظ على حياة اجتماعية لائقة ودورة اقتصادية منتجة. عادة ما كان يتم النظر إلى الإنفاق الصحي على أنه عبء غير منتج على ميزانيات الحكومات، واليوم يتأكد أن ليس هناك مفاضلة بين الصحة والثروة، لأن الصحة أهم ثروة يكتسبها الإنسان والمجتمع، وبالتالي يجب الحفاظ عليها لخلق ثروات أخرى. ولذلك صار اليوم لزاما الرفع من الميزانيات المخصصة للصحة لضمان نمو مطرد ومردودية اقتصادية. فكل درهم يصرف بحكمة في المجال الصحي هو استثمار في صحة الناس والمجتمعات، وسيعود حتما بمردود اقتصادي كبير. ما أثر تدمير البيئة في تفاقم الأوبئة؟ قد يرمي الاعتداء على البيئة والهجوم على مكوناتها وعناصرها بالبشرية في براثن أوبئة وجوائح مرة كل ثلاث سنوات. فالواقع أن العالم يواجه منذ أزيد من ثلاثة عقود من الزمن أوبئة كل ثلاث أو أربع سنوات، منها ما يتم تطويقه في رقعة جغرافية معينة ("سارس" بآسيا، "ميرس" بالشرق الأوسط، إيبولا، زيكا، وغيرها)، ومنها ما يتحول إلى جائحة (إنفلونزا الخنازير سنة 2009، وكوفيد- 19 حاليا). والسبب هو اعتداء الإنسان على البيئة وعلى الفصائل الحيوانية ومضايقتها والقضاء عليها وعلى أماكن عيشها، وكذا التقرب أكثر من الفصائل المتوحشة وتربيتها واستهلاكها، مما يسبب في انتقال الجراثيم منها الى فصائل أخرى من الحيوانات وفي النهاية إلى الإنسان (السل، الطاعون، الجدري، جنون البقر، السيدا، إيبولا، الإنفلونزا، السعار، الحصبة، شلل الأطفال، كورونا، زيكا، حمى الضنك، حمى شيكونغونيا، الملاريا، الكزاز، التهابات الكبد الفيروسية، طفيليات). وكشفت دراسة علمية أنه بين سنتي 1960 و2004 ظهر 365 مرض جديد، يعود أزيد من 60 في المائة منها إلى أصل حيواني. كما تسجل البشرية سنويا أكثر من مليارين ونصف المليار من الحالات المرضية من أصل حيواني. وبالتالي، فإنه بدون إعادة النظر في علاقتنا مع البيئة نحن مقبلون على أزمات صحية شاملة ومتتابعة ومتسارعة. كيف يمكن للعالم أن يستعد على الوجه الأمثل لمواجهة هذه التحديات الصحية المستقبلية؟ كشفت أزمة كوفيد- 19 أن دول العالم ليست مستعدة لمواجهة الأزمات الصحية الشاملة. فمع الأسابيع الأولى من تفشي الوباء كانت الأنظمة الصحية مهددة بالانهيار في أقوى البلدان، ولولا الإجراءات الحاجزية وتدابير الحجر الصحي لما صمدت ولو لأسابيع معدودة. وفي هذا الصدد، أشار تقرير للبنك الدولي إلى إمكانية بناء استراتيجيات وبرامج صحية استباقية وملائمة لمواجهة الطوارئ الصحية من خلال تخصيص ميزانيات بسيطة لا تتعدى 1٫69 دولار لكل فرد. وقد أظهرت الجائحة الحالية أن الدول، التي دربت أنظمتها وساكنتها على الطوارئ الصحية كاليابان وكوريا الجنوبية، تكيفت بسرعة مع ظهور الوباء وواجهته دون أن تتعرض لخسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة. ومن هذا المنطلق تكمن أهمية الاستعداد التشريعي والتكنولوجي واللوجستيكي وتكوين الأطر البشرية والمواطنين في المساعدة على سرعة التفاعل مع الطوارئ الصحية ومن ثم التحكم فيها وإدارتها بأقل الخسائر. كما يتطلب الأمر إنشاء مراكز للرصد الوبائي وتتبع الجراثيم والفيروسات وتطورها وتحورها وتفشيها لاستباق تحولها إلى أوبئة وجوائح، بالإضافة إلى تمكين النظم الصحية من وسائل ومراكز الإنذار المبكر بغية تحفيزها قبل تطور تفشي الإصابات إلى حالة وبائية أو جائحة عالمية. كيف يمكن تعزيز كفاءة المنظومة الصحية ونجاعتها؟ لا يمكن مواجهة الأزمات الصحية، ولا حتى مواجهة المتطلبات الصحية اليومية الاعتيادية، بدون أطر بشرية مكونة ومدربة ومسايرة للتطور العلمي والتكنولوجي القائم على التكوين المستمر. كما لا يمكن مواجهة هذه المتطلبات بدون مؤسسات صحية مجهزة وقادرة على التعاطي مع مثل هذه الأوضاع. الجائحة طرحت تحدي تجهيز أقسام الإنعاش، وتوفير أجهزة التنفس، ووسائل الوقاية والأدوية، ووجود الأطر الطبية والصحية والتقنية ذات الكفاءة. لذلك يجب إطلاق ورش تكوين أكبر عدد من الأطر الطبية والصحية سنويا وإدماجها في العمل بالقطاعين العام والخاص لتدارك النقص الحاصل في هذا الجانب. كما يجب الانكباب على معالجة الظروف المهنية والمادية للعاملين بالقطاع العام، وتحفيز القطاع الطبي الخاص، ومراجعة منظومة القوانين المنظمة للمهن الصحية والمرتبطة بها، والإطار الجبائي لهذه المهن، وتوفير التغطية الصحية والاجتماعية للأطباء والمهنيين بالقطاع الخاص، حتى تصبح ممارسة مهنة الطب بالمغرب مستقطبة للأطر الطبية والصحية في القطاعين العام والخاص. فقد طرحت جائحة كورونا تحديات غير مسبوقة على المؤسسات الصحية العمومية من مستشفيات ومراكز صحية، وكذا على المصحات الخاصة والعيادات ومراكز الفحص بالأشعة والمختبرات وغيرها، وخاصة تلك المتعلقة بكيفية تدبير الجائحة مع استمرار تقديم الخدمات الصحية الاعتيادية، وذلك من الناحية المعمارية والتجهيزية وتقسيم الفضاءات. وكان واضحا أن غالبية هذه المؤسسات الصحية بمختلف البلدان صممت دون أخذ بعين الاعتبار مثل هذه الأزمات الصحية. ما مدى أهمية البحث العلمي والأمن الدوائي؟ سواء على المستوى العالمي أو الوطني، أظهرت الأزمة الصحية الراهنة الأهمية الحيوية التي يكتسيها البحث العلمي وضرورة تشجيعه وتمويله والاستثمار فيه وخلق البيئة الملائمة لتطويره قصد تتبع الفيروسات ودراستها، وصنع وسائل التشخيص وأدوية للعلاج، وبلورة آليات الاستشفاء والإنعاش، وتطوير اللقاحات، وتوفير وسائل الوقاية. كل مراحل الأزمة الصحية كان في مفاصلها حاجة إلى العلم والبحث العلمي بكفاءات وقدرات وطنية لاستيفاء حاجيات ومتطلبات محلية لم يسمح زمن الجائحة والحجر بالاستجابة لها من خلال التعاون الدولي المعتاد. المخاطر الصحية عالمية، فلماذا يجب أن تكون الأجوبة محلية؟ في زمن العولمة ووسائل النقل الحديثة والتبادل الدولي وتشابك البلدان، لم يعد كافيا الاستكانة للإجراءات الصحية الوطنية والاطمئنان لها. إذ يمكن لأنظمة صحية ببلاد قوية أن تنهار بسبب مشاكل صحية نتجت وتطورت بعيدا عنها بآلاف الكيلومترات. وبالتالي، أصبح الأمن الصحي شأنا كونيا أولا قبل أن يكون شأنا محليا، وبات التضامن بين الدول ضرورة ليس من باب مساعدة الآخرين فحسب، وإنما وكذلك لضمان استقرار الأمن الصحي داخل مختلف البلدان. بيد أنه رغم هذا التشابك الدولي، نحن أمام أزمة صحية عالمية تتطلب أجوبة محلية، وذلك على اعتبار أن الأزمات الصحية تطرح تحديات الاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس في أوقات تتقوقع فيها الدول على نفسها وتبحث عن حلول فردية لأوضاعها الصحية الخاصة.ك كيف يمكن توظيف التكنولوجيات الحديثة العالمية في هذا الإطار؟ + سواء من أجل تتبع الوباء أو تتبع المرضى زمن الجائحة والحجر الصحي، أو حتى للتعليم والعمل عن بعد عند الضرورة، برزت أهمية الاستثمار في التكنولوجيات الحديثة وابتكار تكنولوجيات أخرى من أجل توظيفها في الحياة اليومية وخلال الأزمات التي قد تضرب المجتمعات بشكل مفاجئ. وبالتالي فإن توظيف التكنولوجيا من شأنه المساعدة على إدارة أفضل للأزمات الصحية وعلى توفير حلول بديلة لمواجهة الأوضاع التي تخلفها هذه الأزمات. ماذا تقولون عن جائحة الأخبار الزائفة؟ عادة ما تعرف الأزمات الصحية والسياسية والاجتماعية انتعاشا على مستوى نظريات المؤامرة وتفشيها داخل المجتمعات. وسنة 2020، بما شهدته من تفش لجائحة كوفيد- 19، لم تسلم من الظاهرة. إذ انتعشت الأخبار الزائفة والخاطئة والمغلوطة حول الفيروس والوباء ووسائل التشخيص والعلاج واللقاح إلى درجة أصبحت معها تكاد تعادل الجائحة الصحية من حيث الخطورة.