إن الحديث عن الثقافة يفضي بنا ضرورة إلى الحديث عن أهم المعالم الحضارية لأي مجتمع، فهي واجهة إنسانية، وركن أساس في سيرورة تقدم الإنسان، نظرا لما تحمله من دلالات، وقدرة على استقطاب واحتواء امتدادات معرفية، لها صلة بقضايا الفكر، والدين، والفن، والعادات، والتقاليد، والمشترك الإنساني، والمصير الواحد، إضافة إلى ارتباطها الوثيق بالتداخل الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي؛ بهذه الشمولية يمكن القول إن الثقافة وعاء للهوية بشتى مفاصلها، تضم قيما مطلقة، وموحدة تسير في اتجاهات الوعي، وتهدف إلى الفهم الحضاري، وتدعو إلى اكتساب السلوك الراقي، والعطاء الإنساني الذي يرقى لتهذيب الذائقة، وإشباع الذات. ثنائية الهوية والثقافة لعل أرقى إشكاليات الثقافة هي تلك التي تطرحها في علاقتها مع الهوية، ف "الهوية" تشكل ذاتا ثقافية سواء أكانت هذه الذات فردية أو جماعية.. لأنها، إضافة إلى كونها منظومةَ وبنيةً متغيرة باستمرار، فلها تربة تنتمي إليها، وهذا الانتماء لا يفرض عليها التقوقع أو التوجس من الآخر، إذ لا يشكل الانفتاح على الآخر خطرا، ما دمت قويا داخليا، ومحصنا بما يكفي من التبعية الثقافية، من هذا المنطلق يشكل الوعي حتمية لتقبل الآخر، إذ لا تكون الذات إلا بوجوده، ولا تستقيم الحياة الإنسانية من دون هذه الثنائية، فالإنسان يصعب عليه أن يعيش منفصلاً عن واقعه ومنعزلا عما حوله، ورغم ذلك نجد في مجتمعنا ذواتا تنتزع وتجنح نحو رفض الآخر، ومنها ما تدعو إلى احتوائه والتطلع إلى معرفته في إطار تبادل التجارب والأفكار، ومنها ما تميل إلى التبعية إليه، ويعتبر عامل الثقافة مدخلا رئيسا في فهم الآخر، والاعتراف بوجوده مهما كانت توجهاته، لتقليص الهوة ودحض الهيمنة الواحدة. ويبقى السؤال المطروح: من ينتج الثقافة؟ وأي ثقافة نريد؟ للإجابة على هذا السؤال يؤدي بنا الأمر إلى بنية المجتمع، إذ تتشكل من تركيبات متنوعة، كل واحدة تؤدي مهاما منوطة بها، والمخول لها بترويج ثقافة معينة، ولعل التجارب الناجحة كثيرا ما اعتمدت على دور المؤسسة بوصفها عاملا رئيسا في الوصول إلى أبعد نقطة في العالم، فتجاوزت مرحلة الأمن الثقافي وثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج، والانتشار، والجذب، ولنا في المراكز الثقافية التابعة للدول المنتجة مثال قوي، تعمل على ترويج ثقافتها بشكل مدروس، وتفتح فروعا تابعة لها في قلب عواصم مختلفة، مقدمة أنشطة نوعية ضمن برامجها، مستهدفة شرائح واسعة.. ثم لا نستثني عامل الترجمة، إذ تبني جسورا بين الثقافات، فتيسر عملية التواصل والتفاعل، ومنها تعبر الذات إلى الآخر، فإسبانيا مثلا تعمل على ترجمة آلاف الكتب سنويا، لأنها تعي جيدا أن الأمر يساعد على معرفة الآخر وثقافته. إن قراءة أعمال الآخر عبر ترجمته إلى لغة "الأنا" تغير الصورة النمطية، وتؤدي إلى تحطيم بعض التمثلات الخاطئة عن ثقافته، وتكشف بجلاء هويته والجوانب المشتركة، ولا نرى بابا أدق من باب الجامعة والكليات فدورها أيضا محفوظ لا يغيب، إذ تظل فضاء مفتوحا للأفئدة المتعطشة للبحث والاكتشاف التي تملك نفسا طويلا، وقادرة على تقبل الآخر ونقده، وحكيمة في تدبير الاختلاف، فالمجتمعات في حاجة إلى المثقف المبدع، والشاعر، والقاص، والروائي، والناقد الحصيف، والمؤرخ، والسوسيولوجي.. لماذا تراجع دور المثقف؟ إن نظرة عجلى لتاريخ الإنسانية تثبت أن المثقف كانت له قدرة رهيبة على النفاذ إلى كنه الاحتياجات، وتشخيص الواقع وأمراضه، وبثر علله، وطرح بدائل أخرى لها فعالية قصوى على التجاوز لأي ظرفية صعبة، ولأي أزمة محتملة تعيق التنمية، مع التطلع إلى آفاق أكثر اتساعا وجدة، وتحقيق تصور للعالم إضافة إلى قربه من الجماهير ليؤدي وظيفة المثقف العضوي حسب كرامشي، إذ لم يكن المثقف ذاك الشخص كثير الاضطلاع القادر على سرد المراجع والآراء، بل كانت له الجرأة على تقديم وجهة نظره مهما كلفه الأمر، وعلى مر الأزمات الواقعة أثبت قدرته على استقلاليته، والتفاعل بمستجدات عصره، فبيير بورديو كان يعي جيدا أهمية استقلالية المثقف لإنجاح أي تغيير، فبهذه الخصيصة يظل بعيدا عن الصراعات الضيقة، ولا يناصر أي فئة دون أخرى، ولا يخاف من غضب المعارضين، لذلك، تجده موجودا ومشاركا في النقد وحريصا على سلامة الفكر والقيم الكونية، وكل ما له علاقة بثقافة التعايش مع مختلف الحضارات، محاولا بذلك تحقيق إنسانية الإنسان ومجتمعه، وتنويره بما استجد من المتغيرات. وقد ركزت نضالات المثقفين منذ أمد أساسا على تغيير الجوانب الاجتماعية، والسياسية، والمعرفية، فتحقق الكثير من المطالب نتيجة انخراطهم، إلا أن بعد المثقف عن الحياة اليومية في الآونة الأخيرة يرجع بالأساس إلى وعيه بالحصار المفروض عليه، الذي غير اهتمامه ووجهته، وجعل قيمته الفكرية والرمزية من دون تأثير. وهناك سبيلان إثنان لتحقيق نهضة ثقافية تمس جوانب وحاجيات مجتمعاتنا: أولا: تتمثل الصعوبة الأساس التي نواجهها في ثقافتنا في الهوة الحاصلة بين عالمنا الحديث الذي نعيشه، والقيم الفكرية التي نتمسك بها، إذ تعتبر من أعمق الأمارات على مآسينا وواقعنا المجزأ، لذلك وجب تحقيق تناغم ووحدة بين طريقة الحياة وطريقة التفكير كما عبر عن ذلك أدونيس، من أجل أن نتجاوز التناقض، وتصير الحياة الثقافية لها أهداف واضحة المعالم. ثانيا: تحيين مسؤوليات المثقف، والالتزام بجميع القضايا، وإدراجها في جدول أعمال المشروع الفكري الموكول للنخبة الثقافية. إن الحياة الثقافية مؤخرا، أصبحت أسيرة التوصيات والقرارات الفوقية، أصبحت عالما يضيق بعد اتساع، وينغلق بعد انفتاح، ويتفتت بعد تماسك، وتحولت إلى تكتلات، لكل منها غاية معينة، لدرجة أن الإرث الثقافي نفسه فتت وصيغ من جديد ولم يضف إليه شيء، بل اكتفينا بالنقد والجلد، من دون أن نستثني المحاولات الرصينة للعديد من المفكرين الذين عانوا في مسارهم الفكري، وحاولوا أن يمدوا الجسور الثقافية مع راهنية المرحلة التي نعيشها، وبالأخص أسئلتها الملحة المرتبطة بالحياة اليومية للإنسان التي مازالت في حاجة إلى خلخلة جديدة، لاستدراك ما فاتَ، واستشراف الأفق بنظرة ملؤها التجاوز، وعدم الخضوع.. بقلم: الصديق الغزواني