عقد مجلس المستشارين يوم الثلاثاء 09 فبراير 2021 جلسة عامة سنوية خصصت لمناقشة وتقييم الإستراتيجية الوطنية للماء. وقد قدم ذ. عبد اللطيف اعمو، خلال هذه الجلسة، مداخلة باسم مستشاري حزب التقدم والاشتراكية، أبرز فيها وجود العديد من الاختلالات والمساوئ على مستويات عدة، التدبير والتأخر في تنفيذ المشاريع، مشددا على أن الوضعية الحالية، على ضوء التوصيات المقدمة، غير مرضية بالكامل. فيما يلي نصها الكامل للمداخلة السيد الرئيس، السيدات والسادة الوزراء ، السيدات والسادة المستشارون، يشرفني أن أتناول الكلمة في إطار الجلسة السنوية المخصصة لمناقشة وتقييم"الإستراتيجية الوطنية للماء"، بمناسبة إيداع المجموعة الموضوعاتية المكلفة بالتحضير للجلسة السنوية لتقريرها حول موضوع "الإستراتيجية الوطنية للماء2009-2020" بعد مرور أزيد من عشر سنوات على عرض إستراتيجية المياه الجديدة على صاحب الجلالة في 14 أبريل 2009 بمدينة فاس. ولا شك أن رفع تحدي تحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة "في أفق 2030" المتمثل في ضمان توفر المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة هو تأكيد وتثبيت للحق في الماء كحق من حقوق المواطنة وكضرورة من ضروريات الحياة. كما أن تشكيل مجموعة موضوعاتية وبرمجة جلسة سنوية لتقييم السياسات العمومية في مجال الماء ليترجم اهتمام المؤسسة البرلمانية بالموضوع.ويندرج هذا الاهتمام ضمن اضطلاع المؤسسة التشريعية بأدوارها الرقابية من خلال طرح أسئلة متنوعة ومتعددة حول كل المعوقات والاختلالات التي يعاني منها المواطن في حياته اليومية، في علاقته بالماء والتطهير والخدمات العمومية المرتبطة بها بصفة عامة، كالانقطاعات في التزود وعدم التكافؤ في الاستفادة من الموارد المائية، وهواجس التلوث والخلل في التدبير وضعف النجاعة في المعالجة… ومن خلال دورها في تقييم السياسات العمومية بقياس مؤشرات النجاعة والجودة في الخدمات العمومية، طرحت اللجنة عدة أسئلة دقيقة على مختلف القطاعات الوزارية التي تتدخل في مجال الماء "التجهيز – الفلاحة – الداخلية – الصناعة – السياحة – …"، فانتظرنا أن يكون الجواب واضحا ودقيقا، وبلغة الواقع، إلا أن الخلاصات التي توصلت إليها اللجنة قد أظهرت حجم خيبة الأمل، كما أن التوصيات العديدة التي جاءت في التقرير، بالنظر لأهميتها وجديتها، نتمنى أن تثير اهتمام القطاعات العمومية المعنية والانكباب على دراستها وتوفير الإمكانيات الضرورية لتجاوزها. أيتها السيدات، أيها السادة، إن أهمية ومحورية الماء تكمن في كون هذه المادة الحيوية هي مصدر الحياة وسر دوامها، وعنصر توازن الطبيعة وانتشار الخير والرخاء. وحول الماء تتأسس المجموعات البشرية وتبنى المجتمعات، وتقام الحضارات. ولا غرابة إذن أن يكون الماء رمزا للحياة الكريمة وللصحة الجيدة. ولا يمكن فهم قيمته إلا بالتعليم ونشر المعرفة والتربية على ترشيد استعماله وتحقيق المساواة في توزيعه والجودة في استغلاله. أكيد أن بلادنا تتوفر اليوم على رصيد مهم من المنشآت المائية في طور الاستغلال، تتمثل في 145 سدا كبيرا، بسعة إجمالية تفوق 17.6 مليار متر مكعب، و 157 سدا صغيرا، إضافة إلى 14 سدا كبيرا و 30 سدا صغيرا بسعة تخزينية تفوق 21 مليار متر مكعب في طور الإنجاز… وأن هذا الجهد ثمرة سياسة استباقية وطموحة في مجال تدبير الموارد المائية. لكن، هل لدينا تصور دقيق لمدى فعالية البرامج الوطنية المعتمدة "البرنامج الأولوي الوطني للتزود بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027 والمخطط الوطني للماء 2020-2050″؟ وهل لدينا تتبع دقيق للبرامج المتعلقة بتدبير الماء وبتحقيق الأمن المائي، في ظل عدم وضوح الرؤيا وعدم استقرار القطاع الوزاري الذي يشرف على هذا القطاع الحيوي، وتعدد المتدخلين، وضعف التنسيق والحكامة؟ فإذا كانت الإستراتيجية الجديدة المعلن عنها في أبريل 2009 تعني وضع سياسة للتحكم في الموارد المائية والتغلب على محدوديتها والحد من الاستغلال المفرط للموارد الجوفية، والاستجابة لارتفاع الطلب على الماء ووضع بيداغوجية للترشيد في استعمال المياه، فهذه الإستراتيجية حددت أهدافها كذلك في توفير الموارد المائية الضرورية لمصاحبة التطور الاقتصادي والأوراش الكبرى للمملكة (إستراتيجية "الجيل الأخضر"( مخطط المغرب الأخضر سابقا)، المخططات السياحية والصناعية، …) وتوفير مليارين ونصف متر مكعب من الماء بحلول سنة 2030 وضمان التدبير المندمج والمستدام للموارد المائية وتعبئة كل الوسائل والأدوات القانونية والبيداغوجية لتغيير سلوك مستعملي المياه وابتكار وسائل جديدة وغير تقليدية لتوفير المياه، واستكمال بناء 14 سدا كبيرا و 20 سدا صغيرا إضافيا في أفق 2030، إضافة إلى 145 سدا متوفرا، مع تكثيف تحلية مياه البحر وتعميم استعمال المياه العادمة بعد معالجتها وتطوير وعصرنة الإدارة وتأهيل الموارد البشرية ووضع نظام للحكامة يستجيب للأهداف المرسومة، فإن لجنة التقييم ضبطت بدقة وضع الأسئلة التي تمكن من تقييم ومراقبة الأهداف المذكورة ومدى تنفيذ الخطط المرسومة للوصول إليها. وهذا ما يتجلى من خلال المحاور الستة الواردة في التقرير، حيث أبانت، من خلال رصدها للخطط والأهداف المعلنة في الإستراتيجية، عن العديد من الاختلالات في الجوانب المرتبطة بالسياق التدبيري للبرنامج. وخلص التقرير إلى أن مسار تفعيل الإستراتيجية 2009-2020 قد تعثر كثيرا من ناحية الزمن المحدد لذلك، وكذا الانجازات التي تم التعهد بها، والأهداف المسطرة للإستراتيجية. أيتها السيدات، أيها السادة، إن المغرب يوجد في واحدة من أكثر المناطق ندرةً في المياه، ولهذا، فهو يواجه تحديات كبيرة جراء انخفاض الموارد المائية ومواصلة تدهورها من جهة، وتزايد الطلب عليها من جهة ثانية. كما أن هيدروغرافيا المغرب تتصف بكل السمات المتوسطية، من شح في المياه وضعف في الصبيب. ويتفاقم هذا الوضع بسبب تكرار نوبات الجفاف وحدتها، وانخفاض معدل الترشيد في استهلاك المياه، وضعف الحكامة في تدبير القطاع. وكل هذا يزداد تعقيداً بسبب الآثار المتوقعة في المستقبل لتغير المناخ. مما يحثنا على مزيد من الاقتصاد في الموارد والحكامة في التدبير. إن مفاتيح قراءة السياسة المائية تظل في غالب الأحيان حبيسة المنظور التقني، وقليلا ما يتم تسليط الأضواء على الجانب السياسي . فمع ارتفاع تكاليف تهيئة التجهيزات المائية الكبرى، وتكاليف العصرنة والصيانة "التي قد تصل إلى مستوى 25 إلى 40 % من تكلفة بناء جديد" ازدادت حدة الاختلالات في تدبير سياسة العرض في الموارد المائية، وتفاقمت الأضرار البيئية. فمن منظور سياسي، يحق لنا التساؤل حول هذا العنصر الحيوي في حياة الإنسان: فهل الماء ملك ثقافي عام، أم سلعة للاستهلاك؟ كما أنه من منظور القانون الدولي والتزامات الأطراف الموقعة على العهود والمواثيق الدولية، لا يمكن اعتبار الماء سلعة اقتصادية بالأساس، بل يعتبر الحق فيه ضرورة للحياة الكريمة . أيتها السيدات، أيها السادة، لقد عرفت السياسة المائية، عبر عقود، ضعف الاعتبار لحقوق الفلاحين الفقراء والمتوسطين في الماء، مما مس حقوقهم الأساسية الأخرى، ودفع موجات من سكان البوادي إلى الهجرة، وتطعيم أحزمة وبؤر الفقر بضواحي المدن الكبرى. وتعود مسؤولية ذلك أساسا إلى السلطات العمومية… وتحق المسائلة بهذا الخصوص، وجبر الضرر الجماعي عبر التفاتة خاصة وتمييز إيجابي لصالح الطبقات والفئات المتضررة من المخططات والبرامج والسياسات المائية بشكل عام. لكن الدولة اختارت المسار الليبرالي الغير المقنن والمعقلن، وانحازت إلى مسار الزحف نحو الخوصصة، التي تميزت بالانتقائية وضعف الشفافية، وطغيان المحسوبية… حيث يبدو جليا أن المخططات الاقتصادية الكبرى في هذا المجال، فيها تحيز كبير للفئات الاجتماعية العليا وتمييز خطير تجاه الفئات الفقيرة والمهمشة. ولقد أبانت السياسات المنتهجة سابقا عن محدوديتها وضعف حكامتها. ونخشى أن تكون إستراتيجية "الجيل الأخضر" كسابقها "مخطط المغرب الأخضر" في جوانبه المهمشة للفلاحة التضامنية، وجها من وجوه استمرار تكريس هذه الفئوية، بتجاهل مصالح وحقوق الفئات الدنيا وتركها خارج الأهداف التنموية. أيتها السيدات، أيها السادة، لقد أصبح الماء رهانا سياسيا ومحط توافق. وبناء على ذلك، فإن تقييمنا للإنجازات والإكراهات، قد ينبني على مناقشة الأهداف والنتائج، بالنظر للوسائل والموارد، ورصد الاختلالات، بحكم أن اعتبار تحقيق أي خطوة إيجابية في حد ذاتها نجاحا، دون مسائلة الطرق والوسائل المعتمدة والكلفة الاقتصادية والاجتماعية للجهد الجماعي، قد يخفي الجوانب المهمة في العملية التقييمية، التي يتوخاها التقرير الذي نحن بصدد مناقشته. فمن يستفيد؟ ومن يدفع ثمن السياسة المائية؟وحتى لو كان دفع الثمن مكلفا وحتميا، فهل تم ذلك باختيار واعي وبالتراضي وبتوخي التكافؤ في توزيع المنافع؟ وهنا تظهر قيمة المسائلة. إن استهلاك الماء في المغرب يعود بالأساس للفلاحة. وأن الموارد المائية المتجددة والمحتملة التعبئة، حسب الشروط التقنية والاقتصادية في تناقص وفي تدني مستمر. وأن المنحى الطبيعي يسير نحو الاهتمام بتعبئة المياه السطحية أساسا، وتبني سياسة السدود الكبرى كمرحلة أولى… لكن الإنسان القروي ظل بشكل عام خارج الاهتمام وضحية حقه في الماء، حيث تميز تمويل السياسة المائية لعقود برصد اعتمادات مالية هامة للأراضي المسقية "15%" على حساب الأراضي البورية "85%"، مع تغليب التوجه الفلاحي المكرس للنموذج الفلاحي التصديري، وعدم تحمل المستفيدين للكلفة العامة لمياه السقي، حيث تشير الدراسات إلى تغطية 20 % فقط من الكلفة الحقيقية للماء من طرف الساقي/ المستفيد. وبإضافة تهرب النافذين من الأداء، وضعف نسبة استخلاص الديون، نجد أنفسنا أمام منظومة فساد تقوي الجانب الريعي، في غياب ثقافة حقيقية للتقييم ودراسة حكامة آليات وإدارة وتدبير الموارد. فقد أشارت دراسة تقارن بين مساهمة الأراضي المسقية في الثروة الوطنية وقيمتها المضافة في كل متر مكعب من مياه السقي، انطلاقا من رقم حسابات المخطط الوطني للماء في سنة 2000، والتي حددت القيمة المضافة ما بين 1.7 إلى 1.84 درهما للمتر المكعب، خلصت إلى أن الماء يكلف المجتمع المغربي أكثر مما يساهم به في الثروة الوطنية. كما أن وكالات توزيع الماء الصالح للشرب غالبا ما لا تفوتر ((facturer ) إلا جزءا من تكلفة إنتاج الماء الشروب. ولا تسترد دائما مجموع السعر الحقيقي لكلفة الإنتاج. مما يجعل صيانة الشبكة وتجديد البنيات التحتية صعبا، ويحتم تدخل الموازنة العامة لتحمل الخصاص. فهل ساهم الجهد العمومي والاستراتيجي للدولة في مجال تدبير الموارد المائية في مقاربة حقيقية ومنطقية للكلفة مقارنة مع المردودية ؟ فعند الحديث عن مسألة "التضامن"، فما زالت تحملات الميزانية العامة للدولة تغذي بكرم وسخاء الفلاحة الكبرى، فيما يستفيد الملاك الكبار من 88 % من الموارد المائية الوطنية، في ظل تمتيعهم كذلك من إعفاء ضريبي شامل وتام منذ سنة 1984 إلى حدود السنوات الأخيرة، حيث تم التضريب الجزئي. ويبدو أن المخططات الاقتصادية الكبرى في هذا المجال، فيها تحيز كبير للفئات الاجتماعية العليا وتمييز خطير تجاه الفئات الفقيرة والمهمشة. مما يؤدي حتما إلى ارتفاع نسب الفقر والهشاشة بالعالم القروي والجبلي. فماذا تغير اليوم؟ لقد ظلت السمة الغالبة على سياسة توزيع الماء الشروب إلى حدود بداية القرن الواحد والعشرين هو تجاهل ساكنة العالم القروي، حيث لم يتم ربط إلا 14 % بشبكة أو نقط الماء في سنة 1994 لترتفع النسبة إلى 77 % سنة 2006 ، ثم إلى نسبة ربط فردي بشبكات التوزيع في حدود 97 % مؤخرا. مما يستدعي تقوية التزويد بالماء الصالح للشرب بالوسط القروي، ومد العالم القروي بشبكات الصرف الصحي،حماية للمياه الجوفية من التلوث. أيتها السيدات، أيها السادة، يحق للمغرب أن يفتخر بكونه من البلدان التي استطاعت أن تؤمن تزويد أغلبية مدنها الكبرى بالماء الصالح للشرب، وتحسن قدرتها على تعبئة مياهها وتطور مجال الري، لكن يحق التساؤل حول مساوئ التدبير والتأخر في تنفيذ المشاريع وإهمال إصلاح القنوات وضياع الماء وعدم الشفافية في ميزانيات المشاريع المائية وضعف استخلاص ديون السقي … وغيرها. كل هذه الاختلالات يؤدي الإنسان القروي بالأساس ثمنها غاليا، بحرمانه من موارد حيوية. ويحق القول بأن الوضعية الحالية، على ضوء التوصيات المقدمة، غير مرضية بالكامل. ولا أدل على ذلك، ما تعرفه مناطق الحوز وسوس والوسط والشرق من حالة عجز مائي حاد. ومن المتوقع أن تتضرر أحواض أخرى بالشمال، مثل حوض سبو، وغيرها. وعلى مستوى التباين الترابي، فرغم أن الوضع المائي بشمال الحوض المائي لنهر أبي رقراق مريح أكثر من غيره من الأحواض، فقرابة 80% من الموارد المائية الوطنية توزع على حوالي 30% من التراب الوطني. لقد أصبح تدبير الموارد المائية رهانا يتطلب إشراك السكان في القرار،فيما يتعلق بالثروات الوطنية، ولا مناص في وضع الجماعات الترابية، التي تدبر يوميا المجال الترابي والملفات المرتبطة بالموارد المائية، في قلب المعادلة، وكذلك جمعيات المجتمع المدني والبحث العلمي والإعلام الوطني، والقطع مع التهميش دور السكان في المشاركة في اختيار نموذج التنمية، وإنهاء مركزية القرار، ووضع الإطار المؤسساتي العام الملائم لرسم سياسة مائية وسقوية مندمجة تضع الإصلاح الزراعي وحل مشاكل البنيات العقارية في قلب توجهاتها. ويجب القطع نهائيا مع الاستخدام غير الفعال للموارد المائية ومع هدر الموارد. فالمغرب يخسر موارد مائية هائلة، هو في أمس الحاجة إليها في زمن "اقتصاد الندرة"، ومعظم هذا الهدر يتم بسبب تسرب مياه الشرب وضياع الماء في شبكات نقل وتوزيع الري. فقد بلغت الخسائر في شبكة الري 4 مليارات متر مكعب في سنة 2010، وفقاً لأرقام وزارة التجهيز والنقل واللوجستيك والماء. بينما بلغت خسائر مياه الشرب حوالي 400 مليون متر مكعب (35%)، مع معدل أداء أقل من 70%. ويتم تصريف حوالي 415 مليون متر مكعب من المياه العادمة في البيئة الطبيعية. كما يجب الانتباه بجدية لهدر المياه المستعملة في الأنشطة الخدماتية وفي الصناعة، حيث يدخل الماء في صناعة جميع المنتجات أو على الأقل ضمن مرحلة من مراحل إنتاجها، كالتصنيع، والمعالجة، والغسيل، وتخفيف اللون، والتبريد، ونقل الُمنتَجات، بالإضافة لاستخدامه في المرافق الصحيّة، والصرف الصحي داخل المُنشآت الصناعية، في إنتاج السلع الغذائيّة، والمواد الكيميائيّة، وصناعة الورق، والتعدين … وغيره. فهل من الضروري مثلا احتساء كأس قهوة مع قنينة ماء معدني غير مطلوبة أصلا … وقد لا يتم شربها بالكامل وتنتهي غالبا في القمامة ! وهل من الضروري غسل السيارات باستعمال الماء الصالح للشرب، والاضطرار لمعالجته بكلفة باهضة فيما بعد… وهل من المفيد للمجتمع تشجيع تبضيع المياه على حساب الترشيد في الموارد المائية. وهل لا نملك حقا بدائل في مواجهة تصرفات تبدو شاذة ومتهورة في إهدار الماء.مما يقتضي وضع برنامج متواصلة للتحسيس والتوعية في موضوع ترشيد اقتصاد الماء. وبالنظر إلى طبيعة السياسة التواصلية المرتبطة بالتحسيس: فمن الناحية الثقافية والتراثية، يجب توظيف المقولات ذات البعد الديني، من قبيل "وجعلنا من الماء كل شئ حي" للتحسيس بواجبات المواطن، بجانب إدراج البعد الثقافي والتقليدي لحق الإنسان القروي وماشيته في الماء، لتحسيس المواطن بثقافة الملكية المشتركة والمسؤولة . فالمغرب لديه إرث حضاري في هذا المجال. وعرف منذ القديم قواعد اجتماعية وتشريعات لتنظيم المياه وحسن ترشيد الموارد وتدبيرها. والدراسات الأمازيغية جديرة بالاهتمام في هذا المجال، لإحياء وإنعاش الدراسات الأكاديمية حول التراث الوطني في مجال تدبير الموارد المائية. وجدير بنا تضمين المراجع والمقررات المدرسية مثل هذه الإحالات والنماذج . ولقد اتخذ المغرب خطوات للتحسيس على تحسين إدارة المياه، وشدد على الحاجة إلى إشراك الجميع في عملية التخطيط وصنع القرار. وهذه التدابير تشمل إنشاء جمعيات مستخدمي المياه، وتنظيم حملات التوعية التي تستهدف عموم المواطنين. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية. ويجب بذل المزيد من الجهد لزيادة الوعي بين مستخدمي المياه ومسببي التلوث والمجتمع المدني بشأن الحفاظ على الموارد المائية، خصوصا في جانب ضعف الوعي في القطاع الزراعي، والأثر المحدود لسياسات التسعير، وضعف التدابير التي تؤمن التدبير الفعال للمياه الجوفية. وهناك حاجة إلى تعزيز الوعي للحد من آثار وخسائر الجفاف، وزيادة قدرات استخدام المياه في أنظمة الري وتحسين إدارة مياه الصرف الصحي. كما يتعين في هذا المجال تعزيز عمليات التحسيس والتوعية حول موضوع المياه وتغير المناخ من خلال إنشاء مركز وطني للبحوث والابتكار والخبرة، من أجل تحسين الموارد البشرية والمادية المتاحة . فجدير بالذكر أن المغرب كغيره من الدول العربية يعتمد، وسيعتمد مستقبلا، لمواجهة ندرة المياه، وبشكل متزايد، على تحلية المياه ومعالجة مياه الصرف الصحي، وهي منطقة تتصدر دول العالم في توظيف تقنيات تحلية المياه ب 50 % من الجهد الاستثماري العالمي، وتستمر في استيراد هذه التقنيات، دون الاستثمار في جهود البحث والتطوير وإحداث معاهد للتكنولوجيا التطبيقية في المجال، وخلق مؤسسات مالية مشتركة للتمويل ودعم مختلف التقنيات المعتمدة في المجال. وفي مجال التخفيف من التغير المناخي والتكيف معه، فرغم تخصيص المغرب لحوالي 64% من نفقات تمويل المناخ الوطني للتكيّف مع التغير المناخي، ورغم التزامه بتطوير الخطة الوطنية للتكيّف مع تغير المناخ، والتي تهدف إلى تحسين تنسيق إعمال الخطة وزيادة فوائدها، يتعين اتخاذ تدابير عملية، بهدف تحسين التخطيط وتعزيز الإدارة المتكاملة للموارد المائية عن طريق تعزيز التكامل والالتقائية بين الاستراتيجيات والخطط الوطنية المختلفة المتعلقة بالمياه وإضفاء الطابع المؤسسي على مجالس الأحواض المائية جهويا، والانتقال إلى مستوى تشغيل مستجمعات المياه الواسعة النطاق، مع الحرص على تعزيز الحفاظ على الموارد المائية، وذلك بشكلٍ رئيسي من خلال التنفيذ السريع وواسع النطاق لما يسمى ب"عقود طبقة المياه الجوفية" ومكافحة الاستغلال غير القانوني للموارد المائية وتشجيع استخدام الموارد المائية غير التقليدية . كما أن الحماية من تلوث موارد المياه من خلال التنفيذ الشامل للبرنامج الوطني للصرف الصحي، ووضع وتنفيذ خطة وطنية للصرف الصحي في العالم القروي مع الإسراع في تنفيذ معايير النفايات الصناعية، وتطبيق مبدأ الملوث المؤديpollueur–payeur، وتحسين التنسيق بين شرطة المياه وغيرها من هيئات الحماية في كل حوض مائي على حدة. أيتها السيدات، أيها السادة، على المستوى القانوني، فرغم تمكين القانون رقم10.95 المتعلق بالماء من وضع القواعد المنظمة للتخطيط والتدبير المندمج للماء ومحاربة تلوث المياه والشروط العامة لاستعمال الملك العام المائي والميكانيزمات المالية من خلال مبدأ من يجلب الماء يؤدي ومن يلوثه يؤدي… وغيره ، إلا أنه، لم يعد يتماشى مع التحولات التي عرفها قطاع الماء.ومن أهم جوانب النقص، الفراغ القانوني بخصوص تحلية مياه البحر وضعف المقتضيات المنظمة لاستعمال المياه المستعملة وتثمين مياه الأمطار، إضافة إلى ضعف المقتضيات المتعلقة بالوقاية من الفيضانات؛ وتعقد المساطر المؤدية إلى عدم إنهاءها في الآجال المحددة. فالتأسيس لحكامة رشيدة في تدبير الموارد المائية، يعتمد على ترسانة قانونية محينة ومجددة، كما يعتمد أساسا على المشاركة الشعبية الحقيقية ومسائلة المسؤولين والقطع مع سياسة اللاعقاب، في بلد يتميز فيه التوزيع المجالي والاجتماعي للموارد المائية باللآتوازن واللآتكافؤ. مما قد يساهم في معالجة الوضع، نحو الأفضل، تحسبا لأي أزمة محتملة في تدبير الموارد على المديين المتوسط والبعيد. فهل اعتماد اتفاقية إطار للتزود بالماء الشروب ومياه السقي في أفق 2027 والتي من شأنها أن تعزز السياسة المائية قد تعيد خلط الأوراق وتحديد الأولويات، في بلد بخيل مع مواطنيه البسطاء، من سكان البوادي والمناطق الجبلية والنائية، كريم في إغداق المياه على السياحة والزراعات التصديرية، دون رقيب أو حسيب؟ أيتها السيدات، أيها السادة، إن أزمة كوفيد 19 أعادت خلط الأوراق ووضعت الأمور في سياقها الحقيقي في جوانب عديدة، من أهمها: أن المستقبل، بعد الأزمة، سيسير في اتجاه تعاقد جديد، يتمحور حول استرجاع الدولة لمكانتها في ضبط التوازنات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وواجب تدخلها لتطويق المخاطر والطوارئ. وأن كل المؤشرات تشير إلى أن قطب الراحة لعالم جديد سيتمحور حول مصالحة الإنسان مع الطبيعة، بما يحمله هذا الرهان من التزامات وإكراهات وتعهدات. وفي قلب هذا الرهان الاستراتيجي المستقبلي تحتل إشكالية تدبير الموارد المائية وضمان استدامتها مركزا محوريا وأساسيا.