مصطفى الدرقاوي من المغرب، دجيبريل ديوب مانبتي من السنغال: أية علاقة؟ سينمائيان من إفريقيا ولجا عالم الإخراج مع بداية السبعينات. سبعينات القرن الماضي التي عرفت فيها السينما مرحلة غنية بالنقاشات النظرية على إثر تحولات كبرى عاشها العالم… وأيضا ما عرفته السينما من بزوغ تيارات مجددة بداية من أواخر الخمسينات: السينما الحرة البريطانية، الموجة الجديدة الفرنسية، تيارات السينما الجديدة بالبرازيل وكافة أمريكا اللاتينية. في هكذا مناخ ثقافي عام سينجز دجيبريل ديوب مانبتي فلمه الطويل الأول «توكي بوكي» (1973) ونفس الشيء مع مصطفى الدرقاوي في فيلم «أحداث بدون دلالة» (1974). لماذا الحديث عنهما اليوم؟ بالنسبة لدجيبريل ديوب مانبتي (1944-1998) صدرت عدة تقييمات على شكل مقالات ودراسات في السنتين الأخيرتين، من القارة وخارجها (خاصة انجلترا) تعتبر «توكي بوكي» أفضل فيلم في تاريخ السينما الإفريقية. وبالنسبة لمصطفى الدرقاوي (من مواليد سنة 1944) شرعت المنصة الموضوعاتية «موبي» في عرض فيلمه «أحداث بدون دلالة» وهي المنصة المتخصصة في اقتراح على مشتركيها أفلام جديدة وكلاسيكية من سينما المِؤلف ومن خارج المركز الأوروبي – الأمريكي. وذلك على إثر المجهود الذي بذل من أجل العثور على نسخة من الفيلم ونجاح عملية ترميمها بفضل عدد من المتدخلين من المغرب ومن جهة كتالونيا. وقد شكل ذلك حدثا بارزا مغربيا وعالميا… وفي تعريفها بالفيلم تتحدث المنصة عن «تحفة» وتذكر بما تعرض له من مضايقات. نحن إذن أمام سينمائيين كبيرين. على مستوى مسارهما الذاتي يختلفان كثيرا. دجيبريل ديوب مانبتي عصامي التكوين. جاء إلى السينما من المسرح والأندية السينمائية وعشق السينما من بابها الواسع عن طريق أفلام شارلي شابلن والأفلام ذات البعد الجماهيري… في حين أن مصطفى الدرقاوي جاء إلى السينما عن طريق التكوين الأكاديمي الرصين بأحد أهم معاهد التكوين ببولندا، بعد تكوين أدبي وفلسفي ومروره بباريز ومعهدها السينمائي المعروف اختصارا «بليديك». لكنهما سيلتقيان كمبدعين حاملين لهم مشترك التقيا حوله بدون تدبير مسبق. وهو العمل على تمكين إفريقيا، القارة الغنية بثقافتها العريقة، من لغة سينمائية منعتقة من القوالب الجاهزة للسينما السائدة. فرضيتي هي أن مانبتي والدرقاوي رائدان لمشروع سينما إفريقية جديدة… ومن الصدف الإبداعية التاريخية الجميلة والتي نحتفي بها اليوم هي أن عملهما السينمائي الأول كان بمثابة زلزال فني بطرحهما لمقاربة سينمائية خارج المألوف. تتأسس على مبدأي القطيعة والتجديد، قطيعة مع نمط السينما التجارية السائد في القاعات بتنويعاته المختلفة: الأمريكي والهندي و المصري، وقطيعة أيضا مع الأفلام الوطنية الأولى التي عرفها المغرب والسنغال. فمابتي رفض السير على خطى أب السينما السنغالية، عصمان سامبين، وتوجهه الواقعي الاجتماعي رغم أنها أفلام تتبنى ما أسميه «النقد المزدوج». فنجد عند سامبين نقدا لعلاقات التبعية للغرب نموذج فيلم سوداء ل…(1966) ونقد للموروث التقليدي المعيق للحرية والانفتاح، بل وسخرية من السلوك الهجين لفئات مجتمعية محلية نموذج فيلم الحوالة (1968) أو اكسالا (1974) أو تشيدو (1977)… مابيتي لن يسير على خطى الأب في هذا الاختيار. والدرقاوي اختار هو أيضا في أول أفلامه الإعلان عن توجه يقطع مع الأفلام المغربية التي ظهرت أواخر الستينات وبداية السبعينات سواء في شقها الميلودرامي الساذج نموذج فيلم الحياة كفاح (1986) أو الواقعي الاجتماعي، شمس الربيع مثلا (1969)، أو في شقها «المؤلفي» (نسبة لسينما المؤلف) في بعدها الرمزي الثقافي مع نموذج فيلم وشمة (1970)، والمثير حقا أنه في مشهد بداية فيلم الدرقاوي يتم الحديث عن «وشم». وهذان الفيلمان يشكلان أساسا لسينما القطيعة على المستوى الجمالي بتبني لغة سينمائية ترفض السير على نهج السرد الخطي الكلاسيكي. سينما تبحث لذاتها عن هوية بصرية وفنية متفردة. يغيب فيها طغيان الحبكة (سينما ضد السيناريو) ويحضر فيها المونتاج بين مجموعة من الحالات مع الاشتغال على بلاغة المشهد في توكي بوكي واللقطة القريبة المشحونة في أحداث بدون دلالة. يعمل مابيتي على استدعاء التراث الحكائي الشفهي لبناء رواية تكسر الخيط الرفيع الذي يربط البداية بالنهاية في السرد الكلاسيكي.. هنا دينامية شخصيتيه الرئيسيتين هي التي تحكم وتنظم خط الحكاية وليست بنية السيناريو… ويبدو فيلم الدرقاوي من جهته بحثا عن السيناريو المفقود. فالمادة الدرامية تتأسس على تتبع فريق سينمائي يسائل ويتساءل عن السينما المنتظرة.. وحتى عندما تظهر بوادر عناصر درامية (الجريمة المرتكبة) التي قد تدفع بالفيلم في اتجاه كلاسيكي (من القاتل ولماذا) ترفض الشخصيات السير في ذلك تفاديا للسقوط في المعتاد. وفيلم الدرقاوي يبقى في هذا الاتجاه أكثر راديكالية من فيلم مابيتي. غير أن توكي بوكي كان أسعد حظا من أحداث بدون دلالة حيث حصد جوائز عالمية في كان وموسكو وغيرهما.. في حين تم تغييب فيلم مصطفى الدرقاوي تعسفا ولم يشاهد قط. ربما تواجده الجديد في منصة عالمية للعرض السينمائي سيسمح بإعادة اكتشافه وربما رد الاعتبار لطموحاته الفنية التي كانت بسعة أحلام جيل بأكمله.