هل سنعيش سنة مسرحية بيضاء؟ في 14 ماي من كل سنة، يحتفل المسرحيون المغاربة بيومهم الوطني. وقد قرر المغرب أن يخصص هذا اليوم/العيد للقطاع المسرحي ومهنييه ومحبيه تخليدا لذكرى الرسالة الملكية التي وجهها الملك الراحل الحسن الثاني للمناظرة الوطنية الأولى حول المسرح الاحترافي التي انعقدت بالدار البيضاء بتاريخ 14 ماي 1992، والتي أتت على إثر اللقاء «التاريخي» الذي جمع ثلة من المسرحيين المغاربة بعاهل البلاد ءانذاك بعد بث التلفزة المغربية (القناة الأولى) لبرنامج حواري «صادم» حول المسرح المغربي بمناسبة اليوم العالمي للمسرح. ومنذ ذلك التاريخ، والمسرحيون المغاربة يتساءلون عن مصير مضامين تلك الرسالة الملكية التاريخية التي فتحت – ءانذاك - آفاقا واسعة للعمل والأمل، ورسمت مخططا لاستراتيجية واضحة المعالم في مجال النهوض بالقطاع المسرحي وتنميته والعناية بمبدعيه... وتجلت أبرز معالم تلك الاستراتيجية في الجانب المتعلق بالإنفاق العمومي، حيث صدرت «أوامر عليا» لاقتطاع نسبة واحد في المائة من الميزانية العامة للجماعات المحلية سنويا، تخصص في مجملها لتمويل الإنتاج الوطني المسرحي، وبناء مسارح وفضاءات العرض، وتكوين فرق مسرحية جهوية بكل جهات المملكة، والعناية بالوضع الاجتماعي والمادي لمهنيي المسرح... لكن روح ومضامين هذه الخطة لم تعرف طريقها للتحقق. في سنة 1998 جاءت حكومة التناوب، ووجد وزير الثقافة محمد الأشعري فوق طاولة مكتبه ملفا مطلبيا وافيا للنقابة المغربية لمحترفي المسرح، وسارع الوزير إلى تكوين لجنة مختلطة كآلية للحوار بين الحكومة والمسرحيين. وأسفر هذا العمل التشاركي والتفاعلي على نتائج هامة كانت في حينها بمثابة قفزة نوعية في تعاطي الدولة مع القطاع المسرحي. ومن أهم نتائج هذا الحوار الجدي: إقرار برنامج خاص بدعم المسرح إنتاجا وترويجا، إحداث فرق مسرحية جهوية، تنظيم مهرجان سنوي للمسرح، سن قانون خاص بالفنان...إلخ. وبتحقيق هذه المنجزات، صار اليوم الوطني للمسرح محطة سنوية للاحتفاء بالمكاسب، وتقييم الأوضاع المهنية للقطاع، واستشراف الآفاق.. حتى حصل لدى الجميع، وزارة ونقابة، اقتناع راسخ بضرورة تطوير هذه المكتسبات والرقي بها إلى الأحسن، خصوصا وأن الفنانين بدأوا يبادرون لمعالجة بعض قضاياهم المهنية والاجتماعية بروح ابتكارية وتشاركية بعيدا عن الاتكالية والانتظارية، كما حصل مثلا في إقدامهم على إحداث تعاضدية وطنية للفنانين، التي استطاعت في ظرف وجيز أن تتهيكل وتنتظم بشكل مستقل وخلاق وديمقراطي وحداثي يليق بالقيمة الاعتبارية للفنانين والمبدعين، وبذلك استطاعت أن تسد الفراغ المهول الذي عرفه مجال التغطية الصحية للجسم الثقافي والفني ببلادنا منذ الاستقلال. كما استطاعت هذه التعاضدية أن تستأثر باهتمام المهنيين من مختلف أجناس وأصناف التعبيرات الفنية والأدبية، وتمكنت من إقناع الدولة بمرافقتها ومواكبتها لكي تنهض بمهمتها على أحسن وجه. ويأتي اليوم الوطني للمسرح هذه السنة في ظروف تتسم بأجواء من التوتر تسود بين المسرحيين والسلطة الحكومية في الثقافة، خصوصا بعد إقدام الوزير بنسالم حميش، وبشكل أحادي، على تقديم مشروع لتعديل «القرار المشترك بين وزير الثقافة ووزير الاقتصاد والمالية المتعلق بتحديد كيفية منح إعانات مالية لدعم إنتاج وترويج الأعمال المسرحية»، وتم ذلك بدون التشاور مع ممثلي مهنيي القطاع.. الشيء الذي زاد من تعميق الهوة والقطيعة بين المسرحيين ووزارتهم. وباطلاعنا على المشروع الجديد/ المعدل، سنقف على جملة من التدابير والفصول التي تشكل في عمقها تراجعا خطيرا عن المكتسبات التي حققها المسرحيون المغاربة بفضل نضالات نقابتهم منذ تأسيسها إلى الآن، وهي تراجعات تنم عن قلة المعرفة وانعدام الدراية بخصوصيات القطاع المسرحي ببلادنا ومشاكله وميكانيزماته، ويتعمق هذا «الجهل» بالقطاع مع إقصاء ممثليه من التشاور والتفاوض والحوار، باعتبارهم أدرى من غيرهم بشعابهم. وهذه المقاربة التشاركية المغيبة اليوم هي التي كانت في الأمس القريب سببا في إنضاج التفكير والتدبير والتخطيط لقطاع المسرح الاحترافي، وإنجاح تجربة الدعم بما لها وما عليها. ومن المعلوم أن تجربة دعم الدولة للمسرح أتت في سياق المسعى الجاد نحو دمقرطة الاستفادة من المال العام لسائر الحساسيات المسرحية، وتوسيع مجالات الإبداع وحرية التعبير، وضمان انتظام الموسم المسرحي، وتمكين الفرق المسرحية من ظروف اشتغال مهنية لائقة، ودمقرطة ولوجية الجمهور للفرجة المسرحية، والمساهمة في خلق فرص الشغل لمهنيي المسرح، والمساهمة في توفير الوسائل الكفيلة بضمان الحد الأدنى من الجودة... وغيرها من الأهداف التي شكلت روح فلسفة الدعم، سواء في الشق المتعلق بالإنتاج أو الجانب المرتبط بالترويج. وبعد أزيد من عقد من الزمن على تطبيق سياسة الدعم، يتوجه عموم المسرحيين اليوم إلى قراءة التجربة بعيون نقدية وواقعية تستحضر الانتصارات التي حققها المسرح المغربي بفضل الدعم، كما تسجل الإخفاقات التي ترتبت عن سوء تدبير فلسفة الدعم. ويكاد يتفق الجميع على أن الدعم، بالشكل الذي سار عليه منذ البداية إلى اليوم، قد استوفى شروطه واستنفذ كل دواعيه؛ مما يطرح معه ضرورة التفكير في صيغ جديدة لتطوير فلسفة دعم الدولة للمسرح. ولعل هذا التفكير الاستشرافي يمس بالدرجة الأولى مدى قدرة الدولة على تغيير نظرتها للموضوع بما يستجيب للمرحلة وبما يستجيب حقيقة للأهداف المنشودة في مجال التنمية الثقافية عموما.. وبذلك يصبح دعم الدولة للفن الرابع مقرونا بمدى توفر إرادة سياسية حقيقية تترجم عمليا في قيمة الإنفاق العمومي المخصص للمسرح، ومدى قدرة الدولة على العمل من أجل توفير البنيات التحتية الأساسية، وسن تشريعات تعزز قانون الفنان لاسيما الجانب المتعلق بعقود الشغل والحقوق الاجتماعية والمادية، وسن قوانين تنظيمية تشجع المقاولة الفنية... ففي الوقت الذي ينخرط فيه المسرحيون في هكذا نقاش حول إلزامية وحتمية الانتقال بالدعم من مرحلة التأسيس والتجريب إلى مرحلة الفعالية والنجاعة، وفي الوقت الذي تخوض فيه النقابة المغربية لمحترفي المسرح اختبارا جديدا يكرس طبيعتها النضالية كقوة اقتراحية بإقدامها على إعداد مشروع «خطة وطنية لتأهيل قطاع المسرح الاحترافي»، في هذا الوقت بالذات، يبادر وزير الثقافة إلى إخراج مشروع فقير ومتواضع حول سياسة الدولة في دعم المسرح، مشروع بعيد كل البعد عن مستوى طموحات نساء ورجال المسرح ببلادنا. وفي حالة تمرير هذا القرار لتوقيعه بشكل مشترك بين وزارة الثقافة ووزارة المالية، سيكون من الصعب على المسرحيين الاشتغال وفق نص قانوني مجحف ينطوي على كثير من التراجعات ويخاطبهم في أكثر من صفحة بلغة الجزاءات والعقاب كأنهم مشاريع مجرمي الحق العام وليسوا فنانين يستحقون تقدير الدولة. وإذا كان وزير المالية يبدو بعيدا عن الموضوع، فإن توقيعه لمشروع القرار باشتراك مع وزير الثقافة، لمن شأنه أن يورطه في تحمل ما قد يترتب عن ذلك من مضاعفات سلبية، لعل أهمها الخروج بسنة مسرحية بيضاء في انتظار حكومة جديدة.