بعد مرور بضعة أشهر من شلل الاقتصاد الفلسطيني، بسبب جائحة كورونا، والتزام المواطنين بالعزل المنزلي القسري لبضعة أسابيع، يبدو أنه، على الأقل في اللحظة الحالية، لم تتمكن الحكومة الفلسطينية من منع تفشي الجائحة على نطاق واسع. الآن، كما هو الحال في العديد من بلدان العالم، يتعين على الحكومة التعامل مع مسألة كيفية تنشيط الاقتصاد وإطلاق الجمهور في الفضاء العام دون تفاقم الجائحة. ينظر الخبراء والناشطون البيئيون لهذا النقاش بأمل وقلق في آن معا. الأمل نابع من أن أزمة كورونا فتحت المجال للإصلاحات البيئية التي بدونها كان أي تقدم يتم تسجيله سيستغرق سنوات وربما عقودًا. أما القلق فسببه أن ظهور الأزمة يمكن أن يكون له "أثر البندول" الذي سيحرك بأقصى قوة محركات الاقتصاد الملوِّث الذي لا أمل منه للحياة المستدامة. إذن، كيف نجعل شعار "الأزمة-فرصة" واقعا حقيقيا؟ العلاقة بين حماية البيئة، صحة الإنسان وفيروس كورونا توضحه لنا دراسة حديثة في الولاياتالمتحدة أجراها باحثون في كلية الصحة العامة بجامعة هارفارد، حيث وجدوا صلة بين المناطق ذات التركيزات المرتفعة لتلوث الهواء والاحتمالية العالية للوفاة من فيروس كورونا. تشير دراسة أخرى نشرها باحثون من جامعة ستانفورد إلى أن موقف الناس تجاه البيئة يؤثر أيضًا على احتمالية تفشي الأوبئة في المستقبل، ونوهت الدراسة إلى أن اجتثاث الغابات يرفع معدل انتقال الفيروس من الحيوان إلى الإنسان. المثال الثالث حول العلاقة الثلاثية (البيئة، الصحة، الأوبئة) نجده في وثيقة أعدها خبير في الأممالمتحدة في مجال حقوق الإنسان والبيئة تدعو الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى التشدد في الأنظمة والقوانين البيئية كوسيلة للتعامل مع الأزمات الصحية مثل كورونا. بالإضافة إلى مسألة تلوث الهواء، ذكرت الوثيقة ذاتها بأن "الحصول على المياه النظيفة ضروري لمنع العدوى وانتشار الفيروس". إزاء هذه الخلفية، تشدد المنظمات البيئية على الصحة وتدعو أولا وقبل كل شيء إلى اغتنام الفرصة للخروج من الأزمة لصالح اتخاذ تدابير تسهم في توفير بيئة تسمح للبشرية بالتعامل بشكل أفضل مع الوباء الحالي والأوبئة المستقبلية والأزمات الأخرى، وعلى الأخص أزمة المناخ. طرح هذه القضية على جدول الأعمال لا بد أن يرتكز على أن العلاقة بين البيئة والصحة العامة والأوبئة -مثل كورونا- هي علاقة مباشرة. يمكننا اعتبار أزمة كورونا بمثابة نداء لليقظة وبالتالي إجراء مراجعة شاملة لبنية الاقتصاد وللوزارات الحكومية. أزمة معقدة مثل كورونا تضم العديد من الجهات الفاعلة، وهناك معضلات كثيرة تنتظر البلديات في جميع أنحاء العالم. فعلى سبيل المثال، متى وكيف يمكن إعادة المواصلات إلى المدينة؟ وهل يعني الخوف المبرر من ازدحام المركبات العمومية والحافلات والقطارات السماح لوسائل النقل الخاصة بإعادة احتلال الشوارع، وبالتالي التضحية بجهود كثيرة بذلت لتخصيص عدد كبير من الشوارع للمشاة؟ في أوروبا والولاياتالمتحدة أعلنت بعض السلطات المحلية بأنها ستنتهز الفرصة لإبعاد السيارات من مراكز المدن وتوسيع الأرصفة ومسارات الدراجات على حساب طرق المركبات الخاصة. في مدينة ميلانو بإيطاليا، على سبيل المثال، أُعْلن بالفعل عن خطة طموحة تسمى "الطرق المفتوحة"، والتي بموجبها ستجري البلدية تعديلات، وفق هذا النمط، في 35 كيلومترا من الشوارع. نائب عمدة ميلانو ماركو جرانيلي أوضح مؤخراً مبدأ هذه الخطة لصحيفة الغارديان: "عملنا منذ سنوات للحد من استخدام السيارات. عندما يسافر الجميع بواسطة السيارات فلا يبقى مكان للحركة. من الواضح أننا نريد تنمية الاقتصاد، لكننا نعتقد بأنه يجب أن يتم ذلك بشكل مختلف عما كان عليه من قبل". تفجير البالون من الواضح أن الضغط للعودة إلى الروتين والخوف من الازدحام في الأماكن والساحات العامة ووسائل النقل العام يجعل من الصعب على صانعي القرار منع الاستخدام الواسع للمركبات الخاصة. لكن لا ينبغي أن يسقط المرء في إغراء العودة إلى ما كان عليه الحال سابقا، بل التفكير في كيفية إقناع الناس باستخدام وسائل النقل العام. يمكننا سرد بعض الأمثلة على الإجراءات التي يمكننا اتخاذها في المدن: على سبيل المثال، يجب اغتنام الفرصة لتسريع تطوير شبكات طرق خاصة للدراجات الهوائية في الشوارع المستوية، فضلا عن تكثيف زراعة الأشجار، وتشجيع المبادرات الصغيرة والشركات المحلية. أحد التحديات المهمة التي تواجهها المنظمات البيئية الآن يتمثل في ضرورة تعميم رسالة للجمهور تبين فوائد استراتيجيات الخروج الأخضر (من جائحة كورونا). يتحدث الجميع عن حقيقة أنهم يتنفسون بشكل أفضل الآن، لكنهم قد ينسون ذلك غدًا. السؤال هو كيف نجعل من الواقع البيئي الذي تبلور خلال الجائحة- هواء أكثر نقاءً وانخفاضاً كبيراً في الانبعاثات والممارسات الاستهلاكية المدمرة للبيئة وللصحة العامة- كيف نجعل من هذا الواقع قيمة جوهرية جديرة بالاهتمام والبناء عليها. المشكلة تكمن في عدم القدرة على تخيل بدائل للواقع الحياتي الاستهلاكي الشائع حاليا. هناك زخم لنظام اقتصادي-اجتماعي يريد الحفاظ على نفسه، ومهمتنا هي تفجير هذا البالون. يقول الكثيرون بأنه في غضون بضع سنوات ستكون لدينا طرق مواصلات عامة وربما شبكة خاصة للدراجات، لكن الكورونا أظهرت بأنه يمكننا تغيير الأشياء بسرعة غير متوقعة؛ ففجأة تتغير الأشياء خلال يوم واحد وفجأة يمكننا أن نرى كيف تتم الأمور بسرعة كبيرة. فوضى المباني السكنية والتجارية في مدننا خلقت في السنوات الأخيرة أحياءً حضرية اسمنتية عشوائية "صحراوية" (من حيث تدمير الفضاء الأخضر والأنظمة الإيكولوجية والمناخية)، "تتفشى" فيها المباني والطرق ومواقف السيارات، دون مساحات خضراء أو متاجر محلية (لتسويق المنتجات المحلية والوطنية) أو فضاءات عامة نشطة. ما فعلناه خلال العقود الأخيرة هو عكس ما نحتاجه من أجل مناعتنا وصمودنا؛ ما يؤكد كم هي حاجتنا للتخطيط الحضري البيئي. من السهل تعداد التهديدات التي تتربص بالبيئة خلال محاولتنا الخروج من الأزمة الوبائية. يمكن لإجراءات ما بعد الكورونا أن تشطب إنجازات كبيرة للحركة البيئية خلال السنوات الأخيرة. أولاً وقبل كل شيء، هناك قلق من أن الحكومات والشركات قد تستغل الفرصة لتخفيف الأنظمة والقيود البيئية والتساهل بشكل كبير إزاء انتهاكها. يبدو أن قضية مثل الطاقة الخضراء أقل أهمية الآن بالمقارنة مع الارتفاع الكبير في نسبة البطالة، بالإضافة للانخفاض الكبير في أسعار النفط والفحم؛ ما يجعل الطاقة المتجددة أقل جدوى اقتصادياً. أنصار البيئة يتوقعون بأن هذا "الانتصار" سيكون على المدى القصير فقط. جائحة كورونا خطيرة حقا، إلا أن أزمة المناخ ليست أقل خطرا، إذ يتوقع العلماء بسببها عددًا كبيرًا من الضحايا. فكر جذري جديد اليسار التقدمي في الولاياتالمتحدة وصل إلى أزمة كورونا وفي جعبته ما يعرف بِ "خطة الرف" للخروج من الأزمة- وهي تحديدا (GND) "Green New Deal"، أي"الصفقة الخضراء الجديدة". وتتناول الخطة استثمارات عامة على نطاق واسع في محاولة للانتقال إلى اقتصاد دائري أخضر متحرر من الوقود الأحفوري (الغاز والنفط والفحم)."الصفقة الجديدة" الأصلية تعود إلى الثلاثينيات (خلال فترة الأزمة الاقتصادية الكبرى)، وقد تضمنت مكونا بيئيًا لا يستهان به: الحكومة الأميركية شَغَّلَت آنذاك عاطلين عن العمل في زراعة مليار شجرة؛ كما أن المسارات السياحية والحدائق الأميركية أنشئت كجزء من مكونات "الصفقة الجديدة". عندما ننظر إلى مخرج من الأزمة الوبائية الحالية، يمكننا أن نجد فرصة لإنقاذ الناس من البطالة وإحداث قفزة بالاتجاه الأخضر. جائحة كورونا تستصرخنا كي نستيقظ لمواجهة الأزمات القادمة، ولا شك بأن أكبر أزمة على الإطلاق هي أزمة المناخ. أزمة المناخ، وعلى عكس وباء كورونا، يمكننا التنبؤ بها بدقة تامة؛ إذ أننا نعرف ما سيحدث بعد نحو 20 أو 40 أو 60 سنة. هذه المسألة ليست مجرد قصة بيئية، بل إنها مسألة إستراتيجية ووجودية. نقطة البداية يجب أن تكون بأن العيش في بيئة صحية سيعزز قدرتنا على التعامل بشكل أفضل مع الأزمات. ليس أمامنا خيار سوى تثبيت هذا الفهم، والتقاط اللحظة التاريخية لبلورة فكر جذري جديد يركز على الانتاج المحلي استنادا إلى الموارد ومدخلات الإنتاج المحلية، والتحرر من الأنماط الاستهلاكية المتضخمة والمريضة، وتوفير الطبابة المجانية والنقل العام المجاني، وتأميم القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل المياه والكهرباء والوقود، وتأمين دخل أساسي عادل للشرائح الشعبية من خلال تجريف أكبر كم ممكن من فائض القيمة والأرباح الهائلة التي راكمها ويراكمها الرأسماليون وشركاتهم الاحتكارية لصالح الفقراء والمسحوقين والجياع. السؤال هو كيف نجعل من الواقع البيئي الذي تبلور خلال الجائحة- هواء أكثر نقاءً وانخفاضاً كبيراً في الانبعاثات والممارسات الاستهلاكية المدمرة للبيئة وللصحة العامة- كيف نجعل من هذا الواقع قيمة جوهرية جديرة بالاهتمام والبناء عليها. المشكلة تكمن في عدم القدرة على تخيل بدائل للواقع الحياتي الاستهلاكي الشائع حاليا. هناك زخم لنظام اقتصادي-اجتماعي يريد الحفاظ على نفسه، ومهمتنا هي تفجير هذا البالون. يسعى هذا المقال إلى بلورة فكر جذري جديد يركز على الانتاج المحلي استنادا إلى الموارد ومدخلات الإنتاج المحلية، والتحرر من الأنماط الاستهلاكية المتضخمة والمريضة، وتوفير الطبابة المجانية والنقل العام المجاني، وتأميم القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل المياه والكهرباء والوقود، وتأمين دخل أساسي عادل للشرائح الشعبية من خلال تجريف أكبر كم ممكن من فائض القيمة والأرباح الهائلة التي راكمها ويراكمها الرأسماليون وشركاتهم الاحتكارية لصالح الفقراء والمسحوقين والجياع. (آفاق البيئة والتنمية)