كيف تقرأ شاعرا بمثل هذا التصالح مع ذاته وعالمه، يناوش بخطاب صوفي تترعه مفردات الحكمة والتعقّل، يحوّل انكساره إلى فراديس من أحرف الغبطة وتحدي الحياة الشّرسة، وعزلته إلى وطن من الألوان ..؟ من خلال ما طالعت للشاعر المغربي محمد السراوي، وبحكم العلاقة الإبداعية التي تربطني به ، أخاله من الطينة الناذرة التي تسرق من العمر الملدوغ بالدوخة الوجودية وهستيريا الحياة الجانية على إنسانية الكائن وأحلامه، عمرا عكسيا منرسما لسلطة الكتابة ، اختيارا ومصيرا وطواعية ، ضاغطة باتجاه آفاق الهشاشة والسمو والجمال. لشاعرنا قصة مع شهر نوفمبر أثمرت سائر هذه الدندنة المسكونة بمجذوبية الحرف، وتسلّقه سلم النوبات الإنسانية المانحة هذا الدفق السريالي، والذي نسميه عبورا للذة صوب مركزية ذواتنا. إن نوفمبر بما هو شهر لصقل العلاقات الدفينة، أو ذاكرة لتجاذبات علائقية، تفضح الذات الشاعرة، عبر دوائرها ودهاليزها، مرايا العشق المنسوج على مقاسات تختزل تجربة ما، وتشكل نواة أساسية لأسرار عاطفية تضعنا بين رغبة إظهارها من جهة، كون عشقنا الأول يحرّضنا على الصرخة الأولى، والتي تملأ الوجود وتهز أرجاءه، لكن سرعان ما نفطن بعيد النضج التدريجي إلى أن أغصان القلب تتسع لأكثر من حمامة، والكأس العاشقة بوسعها احتواء أكثر من سمكة. وبين المواراة المستوحاة من تجارب مجانين العشق وفلاسفته ، وفي كلتا الحالتين ، إنما تكون الصولة للحرف الذي يوقف الزمن ،من أجل ترتيب أوراق الذاكرة ،والانتشاء بلحظات الحنين الجارف ، قدرا يذوّب المسافات ما بين لغة العقل وخطابات العاطفة. نطالع له قوله: [عند المساء.. رائقا.. ببذلته اللامعة السوداء طائر السنونو.. يعود.. يحمل البشرى.. يسبق الرعود.. مرة أخرى.. يعود.. هو الرذاذ..هي الأمطار يسبق أنات السحاب بعد طول انتظار بعد طول غياب.. غيمة و …غيمه وبعدها…نعمه تفاحة ورمانه..](1). ليس هذا السنونو ، باعتباره عنصرا ازدانت به الصياغة الصوفية المانحة للعشق رمزيته وموسوعيته وشموليته ، سوى تمثلا لصورة عاطفية دفينة ،ها قد طفت ، فجأة ، حاملة على جملة من معاني نوفمبر العاشق ، المتضوع بصفحات البراءة والحماسة والكريستالية والبياض النفسي الممسوس بثرثرة القلب . مثلما نقرأ له ، كذلك، قوله : [مهموما… توقف عن الرحلة شبابيك مدينتنا.. مشرعة… تهفو ..نحو القبلة كل المجالس.. والكنائس.. حزينة…تبحث عن القبلة..](2). إنها كتابة احتواء ، تعبّر عنها يافطة العشق ، ولكن في تداخل أو تشاكل للعديد من الدوال ، وتناغم أيقونة من الأحاسيس المترجمة لصوفية الخلفية وإنسانية الرؤى ومثالية التصوير. نقتبس له كذلك هذا الطقس من مرثاة ، رسمت ملامحها بماء قلب عاشق ، لا يعرف غير العشق ، وغارق في أبجديات قصص نوفمبر الحالمة : [من فرحة رسمتها أنت على جبين تلك التي كانت تشرق فيك بسمتها.. حين تنتظر عبير أوراقك كلما مر ساعي البريد وأنت هناك تقاوم بقلب من حديد في زمن عصيب في ظرف شديد على الزناد عيناك لا تحيد أقسمت ألا تعود إلا بنصر الوطن وكسر كل القيود كسر كل السنن](3). نجده ، تارة ، يكتب بحس وطني ، وتارة أخرى بحس إنساني ، دونما إغفال كمّ من الجوانب الفرعية الموازية التي لاتؤطر ، أو تتحكّم في الزمن الشعري واستغراقاته ، إلاّ بالقسط الذي يذكي جذوة النزوع العاطفي ، كضرب من تمرّد على راهن إسمنتي متوحّش ، تقابل ذلك تجاوزات إبداعية تعنى بهشاشة وإنسانية الكائن ، وعولمة قضاياه وهمومه. كما نقرأ له أيضا ، قوله : [طائر الحسون يحط على شجرة خربت جميع أوراقها طفل صغير.. يصنع سفينة من ورق البركة… هجرتها جميع أسماكها احن إلى مقامات أحبة بديار …جرحتني… أشواقها.](4). يستملح شاعرنا حضور نوفمبر في منجزه ، بما هو أكثر من عنوان لحالات متآلفة كما مختلفة ، كذلك ، وقضايا متشابكة ، من ثم فهو يصوغ لها المواقف الوجودية الملائمة المانحة سلطة كلية للغة القلب ، وإن بدت قوالب مثل هذه الشعرية موغلة في الخطاب الصوفي ، منصاعة للوصايا العرفانية ،كأنها ترجمة للباطني المدبج بإرسالية الحِكَمي ، في انثيالاته. يقول كذلك : [تراقصين أعراسك في طقوس ملائكية تحمل البشارة تحمل الخلاص في زمن جريح اشتد فيه الوجع وزاد فيه الخوف والفزع أنت أيتها الحروف المدججة بالهموم الوسنى من صراخات وجه مكلوم لك وجع الرحيل لك وجع الفراق في حلم الحلم في ألم الاشتياق.](5). بهذه الأريحية يسوق السراوي مواقفه، ويفاخر بتعاليم الذاكرة، على نحو يجرد نوفمبر من كل معنى يتعارض ودفء العلاقات النبيلة، بما الصورة العامة، والغرض النهائي من هذه الشعرية، زرع ملمح الإنسانية في كل نواة من هذا الإشكال الهرمي اطرادا، ومن نقطة حضور الأنثوي، فالحالة بمختلف تجلياتها، فالمشترك الكوني والإنساني ختاما. هامش : (1)مقتطف من نص” تباشير..السنونو”. (2)مقتطف من نص ” السندباد البحري ” . (3)مقتطف من نص ” ويبقى الوطن “. (4)مقتطف من نص” طائر الحسون “. (5)مقتطف من نص ” في محراب الكلمة”.