تقييم المراحل السياسية في مسارات المجتمعات والدول والشعوب يتطلب، بدهيا، التسلح بشجاعة الموضوعية والإنصاف، وتفادي النظر الأحادي للأشياء. وللنجاح في مثل هذا التمرين المعقد والمركب، لا يجب إغفال السياقات ومؤشرات الواقع الملموس وموازين القوى، ذلك أن القراءة من خارج كل هذا لن تقود سوى إلى لي عنق المعاني والدلالات وخنق الحقائق. اليوم يكتمل عقدان على تربع جلالة الملك محمد السادس على العرش، ويعتبر ذلك بالفعل مرحلة سياسية هامة في تاريخ بلادنا تستحق التحليل والتقييم واستشراف الخلاصات والدروس للمستقبل. نحاول، من جهتنا، في صفحات هذا العدد الخاص، كما يقوم آخرون بذلك أيضا، رصد ملامح هذه المرحلة واستعراض وجهات نظر في الحصيلة وفِي المسار، لكن المؤكد أن المغرب في هذه المرحلة ليس هو المغرب قبلها، وذلك على مستويات متعددة تتصل إما بالدولة وكل الفاعلين أو بالمجتمع، ولقد عاشت البلاد دينامية عامة أفرزت، خصوصا في السنوات الأولى من العهد الجديد، عديد إصلاحات سياسية ودستورية ومؤسساتية لا يمكن القفز عليها أو إنكار وجودها، علاوة على برامج تنموية واجتماعية ومخططات إستراتيجية، بغض النظر عن طرق تنزيل بعضها أو مستويات الإنجاز والتنفيذ على أرض الواقع. وعلى امتداد العشريتين المنصرمتين يتفق الجميع على أن المغرب نجح في صيانة استقراره المجتمعي العام قياسا لما شهده المحيط الإقليمي والجهوي، كما أنه حقق مكتسبات مهمة على المستوى الدبلوماسي، وعلى صعيد قضية الوحدة الترابية، وكل هذا جعل منه اليوم قوة إقليمية أساسية في إفريقيا وعلى الصعيد العالمي. إن الدينامية العامة التي كرسها العهد الجديد قامت في السنوات الأولى على رغبة سياسية واضحة ومعلنة في إحداث التغيير، وأساسا من خلال المفهوم الجديد للسلطة وإنجاح المصالحات وعلاقة المجتمع بالسلطة وتوسيع فضاء الديمقراطية ودستور 2011 وانتظامية الانتخابات واحترام نتائجها والإقرار بتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في الدستور وتطوير حقوق النساء والمساواة والتمكين للغة الأمازيغية…، ويعني كل هذا محورية الفعل السياسي والديمقراطي في إسناد كامل الدينامية المجتمعية، وهذا ما كان قد أفرز تفاؤلا شعبيا واسعا والتحاما يتطلع إلى الارتقاء بالوطن. من دون شك أن هذا كله لم يكن بلا خصوم أو مناوئين للنجاح أو لوبيات تصر على الانتصار لمصالحها الضيقة وحساباتها الذاتية، وطبيعة البناء الديمقراطي هي هكذا، وهي ليست خطية مستقيمة أو نهائية، ومن ثم فدرس الذكرى العشرين هو أن بلادنا في حاجة اليوم إلى استعادة ثقة السنوات الأولى والتفاؤل الشعبي الواسع، أي إلى السياسة. وهنا لا بد أن نشير إلى أن الاقتراعات التشريعية والجماعية ومنظومة الممارسة الحزبية والسياسية والانتخابية خلال فترات من العقدين المنصرمين عرفت بالفعل اختلالات هي التي أوصلت حقلنا السياسي والحزبي والإعلامي إلى ما يعانيه اليوم، وهي اختلالات مثلت أسلوبا ورؤية لدى جهات حزبية وإدارية، لكن هذا الأسلوب الذي كان له كذلك تبع ومريدون ومروجون ومنظرون، هو بما حققه اليوم من نتائج، فشل وبلغ الجدار، ويجب القطع معه. من هنا يجب أن تبدأ معالم المستقبل لما بعد العقدين الأولين، أي ضرورة إعادة الاعتبار للسياسة وللفعل الحزبي، وللقوى الجادة ذات المصداقية والتاريخ والأفق، وأيضا القدرة على التفاعل. إن بلادنا تستحق أحسن من هذا العرض السياسي والحزبي والنقابي والإعلامي المنتشر أمامنا وحوالينا، وما وصلنا إليه من تردي على هذه المستويات لم يكن قدرا، وإنما بفعل فاعلين معروفين، ونتيجة أسلوب سياسي سلطوي اقتنع الجميع اليوم بأنه فشل ولا يخدم مصلحة البلاد ومستقبلها. إذن، المغرب حافظ على استقراره العام وحقق مكتسبات مهمة داخليا وخارجيا، وأيضا يمتلك تاريخا وتراكما في الممارسة، وكل هذا يمكن البناء عليه اليوم لتمتين انطلاقة متجددة تقوم على ضرورة أن يستعيد شعبنا ثقته في وطنه وفِي المستقبل، وأن تستطيع القوى السياسية والمجتمعية الحقيقية العمل والفعل المستقلين لتقوية فعالية وحيوية حقلنا الحزبي والمؤسساتي والإعلامي، وليتم ضخ نفس إيجابي وسط المجتمع. كل المراقبين يقرون ويسجلون أن جلالة الملك لم يخف يوما إرادته ورغبته في بصم عهده بتغيير حقيقي، وتشهد العديد من خطبه في العشرين سنة الأخيرة على ذلك، وعلى الرغبة الملكية في تحديث النظام وبناء الدولة وأسلوب الحكم والتدبير، وأيضا في القطع مع ماضي الخروقات والتجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان وتحقيق مختلف المصالحات…، وهذه الإرادة الملكية الواضحة والمعلنة هي من أهم نقاط القوة التي تمتلكها بلادنا اليوم ويجب تعزيزها وإسنادها بانخراط سياسي عملي قوي للأحزاب الحقيقية ذات الجدية والمصداقية والتاريخ، وذلك بما يجعل مختلف القوى الوطنية مساهمة في تطوير المنجز الديمقراطي والتنموي لمغرب اليوم. إن تخليد الذكرى العشرين لعيد العرش يجب وضعه في معنى الامتداد والمستقبل، أي استثمار دروس العقدين المنصرمين لإنتاج مقومات وشروط مغرب الغد والتعبئة المجتمعية لمواجهة التحديات المطروحة عليه. محتات الرقاص