إن المتفحص لفصول الدستور المغربي في الباب المتعلق بالسلطة القضائية، يجد على أنه أسس لسلطة قضائية مستقلة عن باقي السلط من تشريعية وتنفيذية إستقلاﻻ مؤسساتيا وماليا وإداريا وإستقلاﻻ فرديا للقاضي إبتداء من الفصل 107 إلى غاية الفصل 116 منه. لكن بالرجوع لمشروعي القانونين التنظيميين نجدهما قد أجهزا على هذا اﻹستقلال، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه الجميع أن تأتي مواد المشروعين عاكسة لهذا التوجه، الذي لطالما ركز عليه صاحب الجلالة حفظه الله في خطبه المتعددة، والتي تمت ترجمتها وإرادة الشعب المغربي في دستوره الجديد، نجد على أن مواد المشروعين سارت ضد التوجه العام وتكون بذلك قد عطلت فصول الدستور في هذا الباب. وهذا ما سنحاول إبرازه من خلال المحورين التاليين. اﻷول، سنتناول فيه بعض المؤثرات القانونية التي تمس استقلال السلطة القضائية من حيث كونها سلطة. والثاني، سنتناول فيه المؤثرات القانونية التي تمس استقلال القاضي أثناء ممارسته لمهامه القضائية. المحور اﻷول: المؤثرات القانونية التي تمس استقلال السلطة القضائية من حيث كونها سلطة بالرجوع إلى الفصل 107 من الدستور نجده ينص على أن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية و عن السلطة التنفيذية الملك هو الضامن ﻹستقلال السلطة القضائية.” كما نص الفصل 113 منه على أنه “يسهر المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة وﻻسيما فيما يخص إستقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. يضع المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية بمبادرة منه تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها. يصدر المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان أراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط”. وينص الفصل 116 في فقرته الثانية على أنه”يتوفر المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية على اﻹستقلال الاداري والمالي”. فبالرجوع إلى بعض مواد مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس اﻷعلى للسلطة القضائية، نجده ينص في المادة 54 منه في فقرتها اﻷخيرة في إطار الهيئة المشتركة على أنه”علاوة على ذلك يمكن للوزير المكلف بالعدل حضور إجتماعات المجلس من أجل تقديم بيانات ومعلومات تتعلق باﻹدارة القضائية أو أي موضوع يتعلق بسير مرفق العدالة بطلب من المجلس أو الوزير”. كما تنص المادة 55 من نفس المشروع على أنه”تؤهل الوزارة المكلفة بالعدل و الوزارة المكلفة بالمالية ﻹتخاد جميع التدابير اﻹدارية والمالية اللازمة لتنفيذ مقررات المجلس المتعلقة بالوضعيات النظامية للقضاة بتعاون مع المصالح المختصة للمجلس”. وتنص المادة 64 على أنه” يتولى محاسب عمومي يلحق بالمجلس بقرار من السلطة الحكومية المكلفة بالمالية القيام باﻹختصاصات التي تخولها القوانين و اﻷنظمة للمحاسبين العموميين”. وكذلك المادة 72 في فقرتها اﻷخيرة تنص على أنه”يراعي المجلس كذلك التقارير التي يعدها الوزير المكلف بالعدل حول مستوى أداء المسؤولين القضائيين بشأن اﻹشراف على التدبير والتسيير اﻹداري للمحاكم”. كما تنص المادة 108 في فقرتها الرابعة في إطار التقارير التي ترفع إلى البرلمان على أن الوزير يعد تقريرا هو اﻵخر فنصت على أنه:”-الوزير المكلف بالعدل حول سير وأداء اﻹدارة القضائية و حصيلة منجزاتها و برامج عملها وكذا وضعيات المهن القضائية”. فمن خلال مواد هذا المشروع يتضح على أنه لم تعريف ما المقصود بالسلطة القضائية و إكتفى فقط بأنها تمارس من طرف القضاة الممارسين فعليا لمهامهم القضائية بالمحاكم التي يشملها التنظيم القضائي للمملكة، حسب ما جاء في الفقرة الثانية من المادة الثانية منه. وبذلك يثار التساؤل حول ما المقصود بالسلطة القضائية؟ هل المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية أم شيء آخر؟ ومن هنا يمكننا الجزم بأن المقصود بذلك ليس هو المجلس. وفي نظرنا أن المقصود بها المحاكم و القضاة، أي الشأن القضائي وحقوق وواجبات القضاة، وأن المجلس هو أعلى هيئة مشرفة على السلطة القضائية استنادا إلى الفصل 113 من الدستور. هذا المجلس الذي ﻻ يقتصر دوره على توفير الضمانات الممنوحة للقضاة فحسب، بل يتعداه إلى وضع تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها حسب نص الدستور. ومن هنا يطرح التساؤل كيف يمكن للمجلس أن يضطلع بهذا الدور إن لم يكن هو المشرف الفعلى على اﻹدارة القضائية من خلال المسؤولين القضائين، وتتبع سير العمل بالمحاكم ﻻ من حيث العمل القضائي الصرف وﻻ من حيث ظروف اﻹشتغال؟!!! وكيف لنا أن نبرر إبقاء اﻹدارة القضائية بيد السلطة الحكومية المكلفة بالعدل و تقييمه ﻷداء المسؤولين القضائيين مع صراحة الفصل 107من الدستور بإستقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية؟!!! وما قيل عن اﻹدارة القضائية، يقال عن حضور السيد وزير العدل إجتماعات المجلس اﻷعلى في إطار الهيئة المشتركة، إما بطلب منه أو بطلب من المجلس، وأيضا إعتباره هو المؤهل و الوزارة المكلفة بالمالية ﻹتخاذ جميع التدابير اﻹدارية والمالية اللازمة لتنفيد مقررات المجلس المتعلقة بالوضعيات النظامية للقضاة. فأين نحن من اﻹستقلال المالي للمجلس؟!!! كما أنه كيف يمكن التنصيص على أن الوكيل العام بالمجلس يعد تقريرا حول تنفيذ السياسة الجنائية، وسير النيابة العامة أمام البرلمان؟!!! فكيف يمكن لسلطة أن تقدم تقريرا لسلطة مثلها، أﻻ يشكل ذلك ضربا لمبدأ فصل السلط وتوازنها وخرقا للفصل 160 من الدستور الذي حدد الهيئات المطالبة بتقديم تقارير عن أعمالها أمام البرلمان، وﻻ يوجد من ضمنها المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية بإعتباره الممثل لهذه السلطة كسلطة مستقلة.و ينضاف إلى ما قيل تهريب المفتشية العامة من مشروع القانون هذا علما بأنها تعد إحدى مكونات المجلس اﻷعلى للسلطة القضائية و كان من المفروض التطرق لتأليفها وإختصاصاتها في هذا المشروع، وليس تخصيصها بقانون تنظيمي خاص بها. وهكذا يظهر جليا كيف أنه تم القفز على المكتسبات التي أتى بها دستور 2011 في هذا الجانب. المحور الثاني: المؤثرات القانونية التي تمس استقلال القاضي أثناء ممارسته لمهامه القضائية برجوعنا دائما إلى الدستور نجده ينص في الفصل 108 منه على أنه”ﻻ يعزل قضاة اﻷحكام و ﻻ ينقلون إﻻ بمقتضى القانون.” كما ينص في فصله 109 على أنه”يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، و ﻻ يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أية أوامر أو تعليمات و ﻻ يخضع ﻷي ضغط.” و ينص الفصل 110 هو اﻵخر على أنه”ﻻ يلزم قضاة اﻷحكام إﻻ بتطبيق القانون وﻻ تصدر أحكام القضاء إﻻ على أساس التطبيق العادل للقانون. يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون، كما يتعين عليهم الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها.” لكن بالرجوع إلى مشروع القانون اﻷساسي للقضاة نجده ينص في المادتين 54 و 55 المتعلقتين بتقييم أداء القضاة قد أوكله للمسؤولين القضائين باﻹعتماد على معايير شخصية، وليس موضوعية. كما أن المادة 73 منه خولت للرؤساء اﻷولين والوكلاء العامين سواء بمحاكم اﻹستئناف أو بمحكمة النقض أن ينتدبوا من بين القضاة الممارسين لمهامهم بدوائر نفوذهم القضائية قاضيا لسد الخصاص الطارئ بإحدى المحاكم التابعة لهذه الدوائر. و نجد كذلك المادة 97 منه التي أوردت مجموعة من الحاﻻت وإعتبرتها أخطاء جسيمة في خروج فاضح وواضح للنص الدستوري، الذي ربط اﻷخطاء الجسيمة بكل اخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد أثناء ممارسته القضائية، ولم يربطه بالخطأ في القانون سواء من حيث اﻹجراءات المسطرية أو قواعد الموضوع، والتي تشكل أسبابا للطعن والتي تدخل ضمن إختصاص المحاكم اﻷعلى درجة، و ليس من إختصاص الهيئة التأديبية. كما أنها تشكل بهذه الصياغة حذفا ضمنيا للمحاكم اﻷعلى درجة وتوحي بكون القضاء على درجة واحدة، كما أنها تقتل روح اﻹجتهاد وتدفع إلى التطبيق الحرفي للنصوص، وليس البحث من خلال النص على التأويل الذي يحقق التطبيق العادل للنص القانوني، خاصة وأن النوازل غير متناهية والنصوص محدودة، وعن طريق اﻹجتهاد يتم سداد النقص الحاصل على مستوى النصوص . كما أن التوقيف الفوري للقاضي يشكل ضربا لقرينة البراءة هي اﻷصل، فتوقيفه إبتداء يشكل إدانة مسبقة له، ثم لماذا أقر الدستور في فصله 122 تحمل الدولة مسؤولية الخطأ القضائي بالنسبة لكل من تضرر منه إذا كنا سنحاسب القاضي عن خطئه في تطبيق القانون وغيرها من الاشكاليات لتي أثارتها المادة 97. كما أن المادة 115 تبقي قضاة الدرجة الثالثة، بعد دخول مشروع هذا القانون حيز التنفيذ، خاضعين لنسق الترقي المنصوص عليه في ظهير 1974. كما تنص المادة 43 على وجوب التزام قضاة النيابة العامة باﻷوامر والملاحظات القانونية الصادرة عن رؤسائهم التسلسلين، أي التعليمات الشفوية ضربا كذلك للنص الدستوري الذي قصر ذلك فقط على التعليمات الكتابية القانونية. كما أن مشروع القانون التنظيمي للمجلس اﻷعلى للسلطة القضائية هو اﻵخر تضمن العديد من المواد الماسة بالاستقلال الفردي للقاضي من قبيل الترقية المقرونة بالنقل التلقائي دون طلب من القاضي، وغيرها من المواد المتفرقة هنا وهناك. هكذا يتضح على أن مشروعي قانوني السلطة القضائية يزخران بالعديد من المواد التي تجهز على استقلال الفردي للقاضي، وتجعله يرزح تحت تأثير العديد من الميكانزمات و اﻵليات التي تواكب حياته القضائية. وينضاف إلى ذلك التغييب الكامل للجمعية العمومية بالمحاكم، وقصرها على المسؤول القضائي وبعض رؤساء الغرف، والاستعاضة عنها بالمكتب المسير بدل إشراك جميع القضاة في تدبير وتسيير هذا المرفق الحيوي، الذي يشكل قاطرة قوية للتنمية و جلب اﻹستثمار وإشاعة الطمأنينة لدى كافة الفاعلين من خلال تقديم خدمة قضائية في المستوى المطلوب و بما يحقق الأمن القضائي للجميع. فمن خلال كل ما سبق يتضح جليا على أن الاصلاح الموعود قد أخلف الموعد مع التاريخ، فبدﻻ من أن ينكب على إيجاد حلول قانونية وعملية لمشاكل العدالة ببلدنا، والتي في مجملها تتمحور حول إجراءات التبليغ والتنفيذ والتكوين لكافة مكونات العدالة، نراه قد اختزل المشكل في القاضي وحده، ونحى منحى التضييق عليه وتكبيله بمفاهيم ومفردات ضدا على ما منحه الدستور من حقوق حتى ينهض بدوره الدستوري داخل المجتمع. وهكذا أريد للإصلاح أن يكون. ذ. مصطفى العضراوي عضو المكتب التنفيذي لنادي قضاة المغر ب مستشار بمحكمة الاستئناف بالرباط
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------ الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن مواقف صاحبها ولا تلزم موقع برلمان.كوم