كيفما كانت الملة و النحلة بتعبير الشهرستاني، ، و كيفما كانت نحلة المعاش بتعبير ابن خلدون ، و بلغة لالاند سواء كان الفكر أو العقل سائدا أو فعالا، فإن الكل يكاد يتفق على كون العالم في طريقه إلى تغير جذري بعد أزمة كورونا. حيث إن الوباء بقوته و مدى انتشاره جعل الكل يعيش تأثيره سواء عن قرب أو عبر الإعلام، و الانخراط بعمق في التفكير فيه، و استطاع الوباء أيضا أن يدفع بالتفكير البشري في اتجاه المستقبل و التغيير الحتمي الذي سيلي الأزمة. بالتالي يصبح السؤال ” هل سيتغير العالم بعد كورونا ؟” غير ذي معنى، حيث سيحل محله السؤال المنطقي ” كيف سيكون هذا التغيير ؟ “. للإجابة على سؤال الكيف هذا و محاولة تحديد أفق التغيير أيضا لابد من العودة بعجلة التاريخ إلى الخلف قليلا و الوقوف عند عدة مؤشرات أهمها: الوضعية القريبة للعالم قبل جائحة كورونا، مدى قدرة الأزمات بكل أشكالها ( حروب، كوارث، أوبئة…) على الدفع بعجلة التطور نحو الأمام أو تعطيل حركتها أو ربما دفعها في الاتجاه المعاكس. بالعودة إلى عالم ما قبل كورونا نجد أن سمته الرئيسة هي القطبية الثنائية من حيث القوة/الضعف و السيطرة/التبعية في كل المجالات، هناك قطب الغرب و الصين و اليابان و بتعبير أدق القطب المتقدم و المسيطر مقابل قطب الشرق أو الدول المتخلفة و التابعة. الغرب الذي حسم مع ماضيه دون أن يتنكر له و حقق نهضته في كل المجالات و أفرزت نهضته أنظمة سياسية ديمقراطية قوية همها خدمة الإنسان عبر هيكلة مختلف القطاعات و المؤسسات التي تحيط بهذا الانسان و تخدم مصلحته. نظام حكم تناوبي، اقتصاد مهيكل مبني على الانتاجية، مؤسسات مؤطرة للحياة الاجتماعية، مستشفيات متطورة، مختبرات ممولة و بحث علمي رائد و مستمر… بالمقابل دول لم تحسم بعد مع ماضيها و لازالت تبحث عن مستقبلها في هذا الماضي و تحتمى و تتقوقع فيه بقوة، لم تحقق حلمها النهضوي الذي كان مجرد تصور ذهني لنموذج السلف الصالح الذي لم يتحقق إلا في مخيلة مفكريها، استشراف المستقبل في الماضي المتخيل الذي يجهض كل محاولات الاقلاع لهذه الدول و جعلها تبقى تحت أنظمة سياسية فاسدة و استبدادية همها الوحيد خدمة نفسها و ضمان استمرارية العروش. النتيجة واضحة إذن: أنظمة حكم تسلطية كومبرادورية ( تابعة) بكل قطاعاتها للرأسمالية الغربية المهيمنة، اقتصادات غير مهيكلة مبنية على التبعية و الريع و كل أنواع الفساد، مؤسسات اجتماعية صورية لأدلجة و تدجين الأفراد، مستشفيات و مختبرات علمية نادرة و تابعة أيضا، البحث العلمي في أقصى هامش الاهتمامات يتغذى من الصدفة و التبعية،… من هنا سيتضح أن كيفية أفق التغيير لن يكونا بنفس الطريقة في كلا القطبين المختلفين إلى درجة التناقض. أما بالعودة إلى تاريخ الأزمات التي شهدها العالم سلفا و مدى تأثيرها على عجلة التقدم البشري فيتضح، خصوصا لدى أصحاب النظرية غير الخطية للتاريخ، أن كل أزمة يكون لها ما بعدها. و هناك من يذهب أبعد من ذلك ليعتبر الأزمات ضمن تلك ” القطائع ” التي لابد منها لتحريك عجلة التاريخ، و لولاها ما كانت ستتحرك أبدا، باعتبارها تجل لنهاية صلاحية مرحلة سالفة و استنفاذ المفاهيم و النظريات و القيم التي سادتها لتبدأ مرحلة جديدة بمفاهيم و نظريات جديدة تتجاوز السالفة و تقفز بالتاريخ نحو الأمام خصوصا على المستوى الفكري الذي يقود نحو تطور بقية المستويات. فلولا الطاعون و الجذري و الحصبة و الحميراء ما كان الطب ليبرح مكانه و ما كانت عبقرية جالينوس و ابن سينا و باستور و جينير و غيرهم لتظهر و تدفع بالقطاع نحو التقدم. و لولا المجاعة ما كانت طرق و تقنيات و آلات الزراعة و الري و استغلال الأرض لتتطور، ببساطة لأن الحاجة التي تلد الاختراع و تطوير الأسلوب لا تتفاقم إلا في الشدة و وقت الأزمة. لكن بعض هذه الأزمات قد تؤدي إلى العكس في ظروف و لدى أطراف معينة و خصوصا الحروب بكل أنواعها ( فتوحات، غزوات، احتلال مباشر، حروب أهلية…) و النماذج في هذا الباب كثيرة أبرزها الفتح (الغزو) الاسلامي الذي عزز دولة المسلمين لكنه طمس حضارة شمال أفريقيا ثم الغزو الإمبريالي الذي عطل عجلة التقدم في القارة كلها و في مناطق كثيرة من العالم، إضافة إلى الحروب الأهلية و الطائفية التي أعادت تاريخ كثير من الدول إلى الوراء. أما حين تجتمع أكثر من أزمة في الجماعة الواحدة و تنضاف إلى وضعية التخلف فالنتيجة تكون كارثية: القهقرى أميالا و استفحال وضعية التخلف. يتضح مما سبق أن التغيير الذي تحدثه كل أزمة يختلف باختلاف وضعية الجماعة/ الدولة و موقعها و كذا طبيعة الأزمة و سياقها، و يمكن أن نضيف مؤشرا آخر يرتبط بإرادة الجماعة في تغيير وضعيتها و إعادة ترتيب أوراقها بعد اجتياز الأزمة. بالتالي يمكن الحديث عن نوعين/مستويين من التغيير سيشهدهما العالم بعد جائحة كورونا، يتحدد كل نوع و يتأطر بالمؤشرات السالفة الذكر: على مستوى الدول المتقدمة / ال “هم”: أول تغيير سيهم بالطبع إعادة توزيع الأولويات فيما يخص قطاع الخدمات الاجتماعية (الصحة بالخصوص) و قطاع البحث العلمي، فرغم الاهتمام الذي حظي به القطاعان من قبل فإن الجائحة أظهرت نوعا من القصور و عدم الكفاية و غيرت أيضا تمثل الحكومات و المجتمع بخصوصها. ستكون هناك إعادة هيكلة في اتجاه تعزيز هذان القطاعان و دورهما في حماية الأرواح كتحد يواجه البشرية أولا، ثم تحسين و تجويد خدمة الأفراد ثانيا. كم أن التغيير سيمس بالتأكيد الجانب الفكري لهذه المجتمعات المتطورة و ستدفع به نحو مزيد من قيم التضامن و الأنسنة في محاولة لتجاوز الأنانية و الفردانية أو ما سماه الفرنسي ألان تورين ” اللامعنى” الذي عاشته البشرية مرغمة إبان الجائحة. أما على مستوى القطاعات الاقتصادية الأخرى فالرأسمالية الكبرى تعرف كيف و من أين تنعش نفسها، فالركود أو ربما التراجع الذي شهدته الاقتصادات الكبرى خلال هذه الجائحة سيكون بمثابة الخطوة إلى الخلف التي ستضمن خطوتين أو ثلاثا إلى الأمام. مصادر الانعاش و كذلك أسواق هذه الاقتصادات معروفة: الرأسمالية التابعة التي ستؤدي الثمن ضعفين. على مستوى الدول المتخلفة/ ال “نحن”: لن تستطيع ” حليمة ” أن تترك “عادتها” أو تبتعد عنها كثيرا و لن يطول بنا الوقت للعودة إلى ما كنا عليه سالفا أو ربما نتجاوزه نحو الخلف إلى أبعد من ” العادة”، ما دمنا لم نتخلص من مرض التبعية و العادة السيئة (العمالة) للرأسمالية الكبيرة ستكون الجائحة مجرد عامل طبيعي مر من ” هنا ” و ساهم في تخليص هذه البلدان من بعض الأرواح الزائدة. بالتأكيد ستستيقظ مجتمعات هذه الدول على وقع صدمة مؤلمة حين ستخيب كل آمالها في جدية حكوماتها و الآمال المعقودة على التغيير نحو الأفضل بعد جائحة غيرت نمط عيشها و إعلام مواكب ظل يضخ فيها جرعات زائدة من أمل التغيير نحو الأفضل. أنظمة الحكم و أصحاب القرار وجهتهم واضحة و همهم واضح قبل و بعد الجائحة: مصالح ضيقة تابعة بالضرورة لمصالح الرأسمالية الكبرى، و سيخيبون أمل شعوبهم مرتين، مرة في إجهاض حلم التغيير من جديد و مرة حين سيضعون بلدانهم كمصدر و كسوق لإنعاش و تجاوز ما خلفته الأزمة في بلدان أولياء نعمتهم. كل القطاعات ستبقى على حالها و لن يتغير منها سوى ما كان و مازال يخدم مصالح الشرذمة الضيقة و يضمن استمرار استبدادها و تغذية مشروعيتها و التصاقها بكراسي القرار، سيعود المعلم و الطبيب و الممرض إلى ما كانوا عليه من قبل و ستبقى الخدمات على ما هي عليه و ربما قد تنحدر إلى الأسوأ، سترفع القبعات لرجل الأمن و ستعمل هذه الأنظمة التابعة على تعزيز قطاع الأمن كما كان ديدنها من ذي قبل. لن تكون الأزمة سببا في التقدم نحو الأفضل بقدر ما ستكون مجرد فرصة لهذه الأنظمة من أجل إعادة ترتيب الأوراق في اتجاه مزيد من التحكم و السيطرة، بعدما كانت سببا في تأجيل ذروة الاحتقان و التمرد التي شهدتها مجتمعاتها في الآونة الأخيرة. خلاصة القول أن أزمة كورونا ستدفع بالتأكيد القوي/المسيطر إلى مزيد من القوة و السيطرة بعدما أعطت البشرية درسا في سنن الكون كان على هامش التفكير (مصير البشرية أولى الأولويات)، و ستدفع بالضعيف/التابع إلى مزيد من الضعف و التبعية لأن هم المصالح و الكراسي كان و لا يزال حجابا عائقا يحول دون استيعاب الدرس. قد يكون هذا الاستنتاج قاسيا و متسرعا، و قد ينعته البعض بالمتشائم و العدمي، لكن ماضي الكوارث التي هزت هذه البلدان و كانت فرصة للتغيير كثيرة، و لم يتغير بعدها شيء إلا نحو الأسوأ، لازالت أنظمتنا تعاني بالإضافة إلى مرض التبعية و داء العمالة داء آخر أكثر خطورة: فوبيا التغيير.