ظاهرة التسول متجذرة، في بلادنا، و تشكل معضلة إنسانية واجتماعية حقيقية. ومع تدفق المهاجرين السوريين والأفارقة، تفاقمت الظاهرة وأصبحت مقلقة بكل معنى الكلمة. ويفرض علينا الواقع الحالي تقسيم المتسولين إلى ثلاثة أصناف أو ثلاث هويات: المتسولون المغاربة، المتسولون السوريون والمتسولون الأفارقة. ولكل صنف من هذه الأصناف ما يميزه عن الآخرين؛ وبالتالي، يصلح أن يكون موضع دراسة، أو على الأقل موضع تأمل أو إبداء رأي أو ملاحظة… فبالنسبة للمتسولين المغاربة، هناك دراسات وأبحاث منشورة حول أسباب الظاهرة وتجلياتها وتأثيراتها… مما يغنيني عن الخوض في هذا الموضوع. أما المتسولون السوريون، فما يميزهم، هو كونهم عائلات (أب وأم وأطفال أو أطفال وأحد الأبوين)؛ وهي عائلات نازحة بسبب الحرب التي تعرفها بلادهم. وتجد هؤلاء المتسولين، إما أمام أبواب المساجد (حيث يستعطفون المصلين بالأخوة الدينية ووضع بلادهم وأوضاعهم المزرية، مشهرين جوازات سفرهم؛ وبالتالي جنسيتهم)، أو في ملتقيات الطرق، حيث يكثر المارة وترتفع الحركة المرورية. وغالبا ما يرفعون، في هذه الأماكن، إلى جانب جوازاتهم، قطعة من الورق المقوى (كرطون)، مكتوب عليها “عائلة سورية في حاجة إلى مساعدة”. ويشكل الأفارقة الصنف الثالث من المتسولين. وسوف أقصر اهتمامي على هذا الصنف، وأخصص له مقالي هذا، لما يتميز به عن الصنفين الآخرين. لا شك أن الراجلين والسائقين والركاب، سواء في السيارات الخصوصية أو في وسائل النقل العمومية، يلاحظون، في مدنهم، الكبيرة منها والمتوسطة، الوجود الكثيف للمتسولين الأفارقة أمام أضواء المرور. وما يميز هذا النوع من المتسولين، هو أن جلهم، إن لم أقل كلهم، شباب ويتمتعون ببنية جسمانية قوية، ظاهريا على الأقل. ويلاحظ الوجود الضئيل للنساء بينهم؛ وبالتالي، الغياب الشبه التام للأطفال. وإن وجدوا، فمكانهم فوق ظهور أمهاتهم؛ وذلك لصغر سنهم. ويشكل وجودهم الكثيف أمام أضواء المرور مصدر إزعاج للسائقين، خاصة وأن أغلبهم يسألون الناس إلحافا؛ ويشكلون، ربما، بالنسبة للبعض، مصدر الخوف والقلق. لذلك، تجد حتى من تحركه أريحيته ويريد أن يتصدق بالقليل المتوفر لديه من النقود (يعني من قطع معدنية)، غالبا ما يتراجع عن الفكرة خوفا من أن ينقضوا عليه، وهو لا يستطيع إرضاء الجميع. وبما أن في بعض المواقع، تنافسهم بعض المتسولات المغربيات متوسطة العمر(إما منفردات أو مصحوبات بطفل ذكر أو أنثى)، ومنهن من يتوفرن على بنية جسمية متينة، فإن كثيرا من السائقين يتحرجون، حين يضطرهم الضوء الأحمر إلى الوقوف، من تقديم قطعة نقود، إن توفرت، للمتسولة المغربية دون الأفريقي أو العكس. شخصيا، كلما استوقفني الضوء الأحمر، أتفرس في وجوه الشباب الأفارقة الممارسين للتسول، سواء منحتهم بعض القطع أم لم أفعل، وأتساءل: هل هؤلاء الشباب يتوفرون على بطاقة إقامة أم إقامتهم ببلادنا غير شرعية؟ وهل اختاروا الإقامة في المغرب أم جعلوا منه مجرد محطة عبور للوصول إلى أوروبا؟ هل قدَّموا طلبات لتسوية أوضاعهم أم لا؟ كيف وأين يعيشون؟ هل يفكرون في البحث عن فرصة عمل (رغم قلتها في الظرف الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه بلادنا) أم اختاروا امتهان التسول؟ وعير ذلك من الأسئلة. بالمقابل، أتساءل، أمام هذا الوضع، أين هي السلطات المعنية والمؤسسات الاجتماعية؟ أليس من دورها حلحلة هذا الوضع بالبحث عن الحلول الملائمة، ليس بالنسبة للمتسولين الأفارقة فقط، بل بالنسبة لكل فئات المتسولين، نظرا لكون هذه الظاهرة تسيء إلى صورة بلادنا؟ أليس في الأمر ما يدعو إلى الحيرة والتساؤل والخوف من وعلى المستقبل؟… إنه من غير المعقول ومن غير المقبول أن يتم إهمال الموضوع، بالشكل الذي نلاحظه؛ قد يكون هناك بعض المجهودات التي لا نعلمها؛ لكن، حتى وإن وجدت، فنتائجها تدل عليها؛ بمعنى أنها، إما منعدمة وإما جد هزيلة لدرجة تبقى غير ملموسة؛ لذلك، نحن لا نرى ولا نلمس إلا لامبالاة تجاه هذه الظاهرة. ولن يفوتني أن أتساءل، أيضا، عن مجهودات الدولة، في شخص الوزارة المكلفة بالهجرة والقطاعات الأخرى المعنية، من أجل إدماج قضية هؤلاء المهاجرين في السياسة العامة للدولة وفي النسيج الاجتماعي والاقتصادي لبلادنا. فهل تولي الحكومة لإشكالية الهجرة الأفريقية، بالخصوص، ما تستحقه من عناية واهتمام؟ وهل تساير، من حيث التدبير والالتقائية والمجهود التشريعي والمالي، سياسة الدولة في هذا المجال، أم أنها تعتبر الأمر ثانويا؟… جميل جدا، أن تكون للدولة سياسة للهجرة؛ وجميل أن يخصص لها منصب حكومي لمتابعة تنفيذها وتطويرها؛ وجميل، أيضا، أن تكون لبلادنا الريادة في هذا المجال. لكن الأجمل من كل هذا أن يعمل الجميع من أجل أن تعود هذه السياسة على بلادنا بالنفع، ليس فقط على المستوى السياسي؛ بل وأيضا على المستوى الاقتصادي والتنموي. لذلك، أعتقد أن كل السلطات وكل الإدارات الترابية وكل مؤسسات الدولة التي تعنى بالجانب الاجتماعي (والأمني، أيضا)، يجب أن تلعب دورها في تخفيف الآثار السلبية للهجرة الأفريقية، من خلال إجراءات ملموسة تراعي مصلحة البلاد ومصلحة المهاجرين الذين يوجدون في ضيافتنا، سواء كانوا مقيمين بشكل قانوني أو في وضعية مهاجرين غير شرعيين. شخصيا، لا أرى نفسي، بحكم تخصصي المهني، مؤهلا لتقديم مقترحات كفيلة بالمساهمة في إدماج الشباب الأفريقي في عجلة التنمية ببلادنا. لكني كمواطن وكفاعل سياسي مهووس بالمسألة الاجتماعية، يصعب علي أن ألتزم الصمت أمام الوضع الحالي للإفرازات السلبية للهجرة الأفريقية؛ ومن بينها ممارسة التسول من قبل شباب في مقتبل العمر وفي لياقة بدنية تامة. لذلك، أسمح لنفسي بتوجيه نداء، بكل تواضع وبكل تقدير واحترام، إلى كل مراكز البحوث والدراسات في مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية وفي مجال الهجرة والتنمية وغيرها من المراكز ذات الصلة لدعوتهم إلى الاهتمام (أو الرفع من هذا الاهتمام) بهذا الموضوع وجعله من الأولويات. وبنفس الروح، أوجه هذا النداء إلى جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالهجرة وإلى الجمعيات الحقوقية لجعل هذه المسألة تحظى عندها بالاهتمام الضروري للإسهام في إنقاذ هذا الشباب الأفريقي، الهارب من الفقر أو الحرب، من الوضع الذي هو فيه الآن. ويمكن لهذه الجهات أن تتعاون فيما بينها لإحداث مرصد مغربي للمهاجرين الأفارقة الموجودين فوق أرض الوطن من أجل معرفة، بالتعاون طبعا مع الجهات الرسمية، الهويات الأفريقية الموجودة ببلادنا وتحديد المؤهلات التي يتوفر عليها شبابها. فقد يكون من بينهم أطر متوسطة، وربما عاليا، لم تظفر بعمل لعدم توفرها على الإقامة أو لسبب آخر، فتعاطت للتسول كوسيلة لكسب لقمة العيش. وقد يكون لهذا المرصد الوطني شأن لدى المرصد الأفريقي للهجرة الذي اقترحه عاهل البلاد، والذي ورد، كنموذج للاقتداء، في نص الميثاق العالمي للهجرة الآمنة والمنظمة والمنتظمة، الذي تم اعتماده في قمة مراكش في دجنبر الماضي. وتكمن أهمية هذا الميثاق في كونه يشتمل على أشكال الحماية الضرورية للمهاجرين ويؤسس للمبادئ التوجيهية لكيفية معاملتهم. وفي ذلك، فليتنافس المتنافسون.