"المقاطعة" التي كادت أن تترسخ في الأذهان كمرادف أساسي للسلطة الإدارية المحلية يتكرر ذكرها كثيرا في الآونة الأخيرة، لكن بمدلول مغاير. كثيرا ماكان بعض رجال السلطة يصطفون، بشكل ما، إلى جانب النضالات المطلبية العامة التي يستفيدون من ثمارها بدورهم، إلى جانب قيامهم بمراقبتها والتضييق عليها أحيانا.. ويتعاملون معها حسب التعليمات الموجهة إليهم، أو يعتقدون أنها كذلك ضمنيا من خلال الأدوار المنوطة بهم في أجهزة يلفها الغموض. اشتدت السخرية، وطفت النكت المرتبطة بها.. حول المقصود بالمقاطعة: أهي البناية أم الفضاء الأزرق أو الأخضر أو الفكرة أو الهدف؟! قادة المقاطعة الحديثة مواطنون تقلدوا مهام سلطة رمزية أكبر للتعبير عن مكنون المكتوين بنار الغلاء، أما رجال السلطة وأعوانها فسيتعذر عليهم عمليا المشاركة المباشرة في تدبير هذه المقاطعة الناهضة، والتأثير في سياقها -حاليا على الأقل-، مما جعل مسؤولين كبار ينهضون ببعض مهامهم غير المتاحة دوما بشكل جيد، مركزيا ومعهم بعض الشخصيات والأفراد من مواقع مختلفة. *** منذ انطلاق حملة مقاطعة الماركات الثلاث التي تم توجيه الأضواء إليها لحملها على تخفيض أسعار منتوجاتها، على أن تتلمس من خلال ذلك أيضا ماركات أخرى هواجسها بالمناسبة، فكان أن وقف متتبعين من المقاطعين على تحالف عدد منها لحماية الشركات المستهدفة، ونفسها بشكل غير مباشر أو مباشر بمساعدة الماركات المعنية على الوقوف في وجه هذه العاصفة من التجاهل المنظم حتى لا تصلهم بعدها، غالبا. أغلب المقاطعين وغير المقاطعين يعلمون جيدا أن الشركات المعنية ليست الوحيدة التي تستنزف قدرتهم الشرائية، بل أن غيرها قد تكون أكثر استنزافا لقوتهم الشرائية، وأن البعض منها قد تكون سعت في الفترة الراهنة لرفع أسعارها أكثر، بما يفهم منه محاولاتها تشتيت انتباه وتركيز المقاطعين.. إلا أن أسبابا متعددة جعلت من الماركات الثلاث على رأس الشركات المستهدفة بالمقاطعة.. والتي دفعت حتى غير المستهلكين لبعض أو كل تلك المنتوجات ينخرطون في حملة المقاطعة ولو بالترويج لها. *** محاولات مقاطعة متكررة شهدتها "حقبة التجاذب السياسي" الذي أعقب "الانتخابات التشريعية الأخيرة" (بغض النظر عن الموقف من هذه العملية والقراءات الممكنة لتلك الحقبة القريبة !) في ظل ماسمي ب "البلوكاج الحكومي" وطالت شركة واحدة من الشركات الثلاث، لكنها لم تؤد إلى نفس الرجة والهدف منها، لسبب بسيط أن شكوكا ضخمة أحاطت بالساهرين عليها الذين كانت أهدافهم بادية للعيان، والتي تم اعتبارها ضيقة، فحالت دون تبنيها من طرف أوسع الجماهير المتضررة. في الحملة الحالية، لا يمكن التغاضي عن مساهمة نفس "الهاجس" في إنعاش هذه المقاطعة والذي قد تكون تجاوزته إثر إقحام علامتين تجاريتين جديدتين وتبنيها من طرف شرائح مجتمعية أخرى انخرطت فيها.. متى رأت فيها ردا للاعتبار للقيمة الرمزية والمادية لكيانها الذي تعذر على معظم وسائط النضال المباشر إنصافه بالشكل المطلوب؛ وبشكل أكثر في السنوات الأخيرة، جراء المحاولات المتواصلة لإفراغ هذه الوسائط (والوسائل) من محتواها والسعي لجعلها تكاد لاتؤدي إلى نتائج ملموسة.. ولعل أبرز تجليات ذلك إفراغ الحوار الاجتماعي الذي كان يؤدي إلى تأجيل أو تنفيس الأزمات الكبرى من مضمونه، فضلا عن الانتكاسات المتكررة للمواجهات المنظمة. *** منذ تصريح صاحب "المداويخ" الجديد الذي استلهم خطاب زعيم الكتائب الشهيرة عند تبرئه منها عندما ارتأى أن تخبو قليلا حتى يستغل مساهماتها المحمومة في نتائج ممكنة، مادام يعلم جيدا تفهمهم التام لتنكره الشكلي لهم إلى حين.. وفق ماتقتضيه المرحلة. فتصريح صاحب "المداويخ" الجديد الذي حاول الاستخفاف بالمقاطعة لإفشالها حتى لا تحقق أهدافها المتمثلة في إسباغ نوع من الثقة على هذا الفعل النضالي الجنيني المسترسل تواصليا، وخدمة للجهة المراد الدفاع عنها أولا؛ لكن تمت مواجهته بهجوم شديد غير منتظر، فساهم من حيث لايدري في تقوية عود المقاطعة جراء التفاعل معها في مستوى أكبر ولو بهدف إضعافها، فتلته تصريحات تبخيسية أخرى على نفس المنوال تقريبا -رسمية وغير رسمية- بلغت ذروتها باستفزازات الطرف الحكومي المستفيد منها (حينها) والتي توخت على ما يبدو إلهاب جذوة المقاطعة بالسعي المعلن لوقفها للوصول لنتائج عكسية مرجوة قد تساعد في تصفية حسابات فشلت حملات مقاطعة سابقة في تحقيقها. فتواترت التصريحات الاستفزازية من قبيل المجهولين وتصريحات قبلها وبعدها وكان لمحاولة الترهيب عبر التهديد بالمتابعة في حق المقاطعين تحت يافطة نشر الأخبار الزائفة وقعا جيدا عليها؛ وذلك قبل أن يتم التراجع عن تلك التصريحات ضمنيا، بعد تجاوز الحملة للسقف المنتظر تقريبا، إلا أن توالي "التصريحات المستفزة" ساهم في الدفع بفئات أخرى لم تكن منخرطة رسميا أو جديا في حملة المقاطعة إلى الانضمام إليها، حينما أضحت عنوانا للكرامة وبوابة للتحدي والتعبير عن وجود تذمر واسع من معاناتهم مع ضرب القدرة الشرائية. *** سابقا، تم التعبير عن رفض موجات الغلاء بانتفاضات عارمة خلفت الشهداء والمعتقلين والمنفيين، وبعدها بتنظيم احتجاجات بعدد من المناطق والجهات، تشكلت فيها تنسيقيات محلية ناضلت بأفق وطني بحماس وقوة ميدانية ضد ارتفاع الأسعار قبل أن تخبو إثر استنفاذها لمهامها في التعبير عن رفض غلاء المعيشة، وكذلك بفعل عوائقها الذاتية وطول نفس المتحكمين في دواليب السياسة والاقتصاد في آخر المطاف. القرارات اللاشعبية الصادمة الأخيرة التي عصفت في معظمها بالقدرة الشرائية لأوسع الفئات الاجتماعية وفي مقدمتها النتائج الوخيمة المترتبة عن تفتيت صندوق المقاصة…، خلفت استياء عاما لم يتم ترجمته جماعيا كما يحدث هنا وهناك في بلدان أو أوضاع محددة مشابهة، أو كما كان يحدث سابقا بالمغرب وما يخلفه من انفجار اجتماعي ورد فعل عنيف، بفعل عدة متغيرات، لكن ذلك لم يمنع من تراكم الإحباط والغضب ومحاولات التصدي الفردي والجماعي للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة على امتداد السنوات المتتالية الماضية، إلى حين التسرب السلس لحملة المقاطعة الحالية وتناميها وتطورها. *** المقاطعة الجديدة استمدت قوتها الحقيقية من غياب قيادة محددة لها مبدئيا، والتي لم تنل منها المحاولة الهامشية لتسويق قيادة فجائية -ربما الهدف من إبرازها تأهيلها للتفاوض معها لاحقا- لإسقاط المقاطعة بأقل الخسائر، وهي القيادة الوهمية التي تم تدمير النزوع إليها في حينه بحملة الرفض التي ووجهت بها. وكذلك لفشل جر "حركة المقاطعة" للنزول للشارع العام الذي قد يستنزف طاقاتها. غياب قيادة واضحة، شكل ردا موضوعيا على عدم المحافظة على مكانة الهيئات المنظمة للتعبير عن مطامح وانتظارات المواطنين من أجراء وعموم الجماهير الشعبية المتضررة والسعي الدؤوب لتبخيس أدوارها المجتمعية – بغض النظر عن الآراء الواردة في شأنها- الذي ظلت تتعرض له باستمرار، فضلا عن عدم تزكيتها بالإنصات إليها والحفاظ على شرعيتها في تحقيق الحد الأدنى من المكتسبات وصون الحقوق التي هي من مهامها الأساسية، خصوصا بعد المرور المرن للرياح العاتية لاحتجاجات 20 فبراير والتفجر الدموي المأساوي لأوضاع معظم بلدان ماسمي "الربيع العربي". *** لا أحد يمكنه التغاضي عن كون عمال شركة الحليب مهددون في قوتهم ومناصب شغلهم -والفلاحون وعمال باقي الشركات التي تشملها أو ستشملها المقاطعة مهددون كذلك-، غير أن احتجاج المئات منهم ضد المقاطعة يعد عملية تضليل كبيرة، سقط فيها البعض، في حين أن الاحتجاج يجب أن يوجه ضد المتسببين في المقاطعة وضد الحكومة -على الأقل على مستوى الواجهة- والتي تبين أكثر أنها تسهر أكثر على حماية مصالح الرأسمال الجشع أولا وتستجدي العطف لذلك بالتخويف من المأسي المحتملة التي تهدد مصير هؤلاء العمال. الأمر الذي يؤكده عدم تدخلها لمراجعة الأسعار وعدم سعيها الجدي لحماية هؤلاء العمال وحماية الآلاف غيرهم من المطرودين والمشردين والمهددين بالتسريح الجماعي والفردي وصون حقوقهم الأساسية، علما أن مخطط شركة الحليب لتقليص عمالها لا يمكن الاقتناع بأنه وليد اليوم، وأنها تعمدت التغطية على تنفيذه بتضررها من المقاطعة. *** عوض إبداء التعاطف الحكومي والاحتجاج التضامني النشاز (*) مع العمال وجعلهم يبدون في مواجهة ضد جزء كبير من الشعب، وإن كان ذلك لا يشكل عائقا أمام مثل هؤلاء المسؤولين الذين لديهم سوابق في الاحتجاج مع العمال ضد أنفسهم، في تظاهرات فاتح ماي مثلا، ضد القرارات اللاشعبية التي قاموا هم أنفسهم بتمريرها، ناهيك عن رفضهم الاستجابة لمطالب العمال. فبدل ترك أجراء الشركات الثلاث (والفلاحين) تتقاذفهم الهواجس والغموض ومساندة احتجاج بعضهم في هذا الوضع الملتبس كمحاولة للانتقام المعنوي من المقاطعين بوضعهم أمام "تأنيب الضمير" حول مصيرهم الذي لاتقيم له هذه الحكومة التي ينتشي بعض أعضائها بالدفاع عن الشيء ونقيضه، وزنا. وبدل مراجعة الأسعار بتخفيضها، اعتمادا على واحد أو أكثر من الخيارات المتعددة المتاحة لذلك، يتم التعامل مع الوضع الجديد بنفس خلفية التعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية الأخيرة بشكل عام وعلى رأسها الاحتجاجات السلمية للحسيمة، زاكورة، جرادة وغيرها.. والاحتجاجات العمالية؛ والتي قوبلت بمنطق استبدادي مثير جوهره التشبث بعدم الاستجابة للمطالب المسطرة للمحتجين على أمل أن تهتز ثقتهم في قوتهم وفي إمكانية تأثيرها لتفادي انتقال العدوى لمتضررين آخرين، فلا يجنحوا بدورهم لزوارق الاحتجاج لتحقيق مطالبهم، ولو تطلب الأمر الرمي بحشود منهم في السجون لتصبح مطامحهم وانتظارات المتضامنين معهم مختزلة في إطلاق سراحهم أو ضمان حقهم في المحاكمة العادلة وحمايتهم وصون كرامتهم وليس الاستجابة للمطالب المشروعة التي احتجوا من أجل تحقيقها. يبدو أن الهدف الجوهري من التضامن الرسمي المعلن مع العمال والفلاحين المتضررين ومن ضمنهم المحتجين لا يكاد يتجاوز الرغبة الملحة في تفتيث المقاطعة وقصفها برمتها بعدما نحت تقريبا خارج السيطرة.. وليس من أجل سواد عيون هؤلاء العمال والفلاحين وعيون أطفالهم وعائلاتهم. *** المنتجات الثلاث موضوع المقاطعة الحالية، المتمثلة في بعض العلامات التجارية للحليب والماء والمحروقات (وغيرها أكثر من المواد والمنتجات والخدمات الأساسية بالبلاد) تقدم للمستهلكين بأثمنة تكاد تكون خيالية لاتراعي حتى الدخل المتدني لأوسع الفئات الشعبية، وتعد الأغلى بالمقارنة مع أثمنة تسويقها خارجيا من طرف بعض من الشركات المعنية على الأقل أو نفس المنتجات لشركات أخرى بالخارج (بأوربا تحديدا)؛ الأمر الذي دفع بأعداد من المهاجرين المغاربة إلى الاصطفاف بدورهم مع حملة المقاطعة والدعاية لها رغم عدم تواجدهم "هنا".. و"الآن"؛ مما يشكل دليلا إضافيا ساطعا على الاستنزاف الذي تواجهه به القدرة الشرائية لعموم الجماهير الشعبية وضربها في سبيل الاغتناء الفاحش والسريع والجشع لقلة من "المحظوظين" بتواطؤ مع المشرعين والقائمين الحقيقيين والشكليين على شؤون البلاد. *** "المقاطعة الحضرية"، عفوا المقاطعة الحضارية السلمية قد تتوسع مع نداءات متواثرة، بعضها يظهر ويختفي في محاولات عدة، لأن تشمل مواد ومجالات أخرى كمهرجان الرباط الشهير الذي كان المتنفذين المفترضين في التسيير الحكومي الحالي والسابق أيضا أشد الداعين لمقاطعته، ولو بعقلية مغايرة تستمد جذورها من "الأخلاق" المفترى عليها، لأسباب سياسية، وليس لدواعي اقتصادية كما تحددها المقاطعة الجديدة. حملة المقاطعة الحالية طفت كظاهرة اجتماعية مكتملة التجلي تحتاج إلى المزيد من الوقت والتروي لتقييم وقعها السياسي العميق، لكن لا أحد باستطاعته تجاهل مساهمتها الوازنة في فتح كوة من ضوء الوهاج في ظلام الصراع بين ثوق الجماهير الشعبية إلى العيش الكريم واستنزاف قدراتها وثرواتها؛ أضحت كذلك شعلة "أخلاقية" أيضا وفعلا.. وأصبحت تمثلاتها ذهنية ونفسية يصعب تجاوزها كقاعدة من طرف عموم المستهلكين، رغم الاستثناءات الطفيفة -علنيا على الأقل- ويصعب تجاوز وقعها وتأثيرها الواسع، الأمر الذي ترتب عنه الاستجابة التلقائية لها ولو بفعل نوع من الإحراج الاجتماعي.. وتفادي النظرة السلبية للعموم اتجاه غير المنخرطين المحتملين في المقاطعة. قيل ويقال قديما وحديثا "فكها يا من وحلتيها" ! 6 يونيو 2018