يحاول هذا المحور فهم السيرورة التاريخية التي ساهمت في جعل القرآن والحديث مفكرا فيهما كنصين قابلين للدراسة النقدية الأدبية؛ بمعنى أن يتحرر النصان من كل العقال؛ فيكون النص أمام ناقده كالميت أمام غساله. وسنتجاوز حاليا إشكالا طويلا عريضا يتعلق ب: هل القرآن والحديث نصان أدبيان يتيحان للعقل العلماني ممارسة حريته المطلقة؟ هل يقبل النصان مناهج الدراسة الأدبية للنصوص الأخرى؟ لن نخوض في هذا الأمر، بل سنسلم جدلا به، على أننا سنحاول نقد الفكرة ذاتها بطريقة غير مباشرة من الداخل. بمعنى آخر؛ إن الجواب عن هذا الإشكال سنتوصل إليه بعد أن نتحدث عن موضوع آخر: كيف وصل النقد الأدبي إلى ما وصل إليه؟ حقيقة لقد كانت العلاقة بين النص والقارئ علاقة قوية منذ القدم، حتى إن أرسطو أسس لمفهوم " التطهير- Catharsis " ليجعل للمسرح والفن وظيفة؛ هذه الوظيفة تمثلت في تطهير النفس البشرية من نوازعها الخبيثة، وذلك من خلال تحريك عواطف المشاهد، خصوصا عاطفتي الخوف والشفقة، لقد كان التواصل عند أرسطو أحاديا، حيث ينطلق من المسرحية وينتهي عند المشاهد. و بلغة القراءة، فالقراءة تفعل فعلها في اتجاه واحد، أي من النص إلى القارئ. سيستمر هذا المفهوم دهرا طويلا، إلى أن أتى بريخت Bertold brecht حيث اقترح مفهوم "التغريب" بدل "التطهير"، ليعطي للمشاهد فرصة الانتقال من المشاهدة السلبية إلى المشاهدة النقدية، ومن التأييد المطلق إلى الرؤية الفاحصة. سيساهم أيضا "رومان ياكوبسون" فيدلي بدلوه في مسألة العلاقة الرابطة ين النص والقارئ مقترحا خطاطته الشهيرة في الوظائف التواصلية، والتي حملت أيضا بين جوانحها روحا أرسطية بقالب حديث، خصوصا وأنه ركز على الوظيفة الشعرية للغة. وستأتي بعد ذلك المقاربات المنفتحة لتحاول تحرير القارئ قليلا من النص، فتفتح له بابا على المعطى الخارجي.فمن جهة ظهرت الفرويدية وتجليها النقدي المتمثل في المنهج النفسي الذي يفسر النص بالرجوع إلى نفسية منتجه، ومن جهة أخرى أسست الماركسية لظهور المنهج الاجتماعي، والذي يحاول فهم الإبداع الأدبي بمفاهيم الصراع الطبقي و نمط الإنتاج و المادية التاريخية. يتضح مليا الانتقال الذي عرفه النقد إذن؛ إن القارئ بدأ يستعين بأشياء خارجية لفهم النص، لكن المنهجين السابقين كانا يسوقان القارئ إلى حتفه، فليس له إلا أن يصل إلى ما يريده المنهج. و يبقى الخيط الرابط بين كل هذه المقاربات السابقة إيمانها بأن المعنى موجود في النص وما على القارئ إلى أن يبحث عنه، أين؟ هنا كان الاختلاف، ومن هنا انطلق النقد الحديث. على العموم، نحن أمام ذواتين، ذات مستقبلة سلبية وذات ناقدة فاحصة، وسيدور الأدب والنقد بين هذين الأمرين إلى أن سمع العالم بنظرية نقدية جديدة كانت لها إرهاصات في تاريخ الأدب والنقد الإنسانيين.، ولم تكن هذه النظرية إلا "جمالية التلقي Esthétique de la réception". اَلاِسْتِبْدَادُ 0لنَّقْدِيُّ لِلْعَقْلِ 0لْعَلْمَانِيِّ (2) لقد أدى انهيار فكرة " الله الخالق" في الفلسفة عموما، والفلسفة الألمانية بالخصوص مع نيتشه و دوركايم، إلى ظهور نظريات نقدية تحاول أيضا طرح مسألة "موت المؤلف". و لقد فصلنا في فصل سابق كيف أن العقل الأوربي مستعد لفكرة موت الله عكس العقل الشرقي الإسلامي بالخصوص. لقد بينا أن أوربا المسيحية التي تؤمن بمذاهبها المختلفة بفكرة صلب المسيح؛ أي الله، مستعدة لقبول أفكار نيتشه. إذ لا يُعقل أن ترفض أوروبا المسيحية فلسفته في الوقت الذي تتواجد في عقيدتها نصوص تجعل الإيمان بموت الله على الصليب من صميم الإيمان المسيحي؟ لذلك فإن النقد الأدبي سعى دائما لتقليد الفلسفة، كيف لا وهي الحكمة؟ لقد سميت الفلسفة بمحبة الحكمة منذ العصر الإغريقي، رغم أن حكمته تلك لم تَخْل من شطحات وثنية شرعنت الطقوس اليونانية، يقول طاليس : " إن العالم ممتلئ بالآلهة" (نجيب بلدي، ص18)، رغم هذا لم يمنع اليونانيون أنفسهم والغرب عموما من تسمية هذا النوع من التفكير البشري: محبة الحكمة. و إذا كان كل منهزم يتبع المنتصر عادة في جميع أفعاله وعاداته كما أشار ابن خلدون، فإن النقد الأدبي لن يستطيع تجنب بدهية تفوق العقل الفلسفي على ما سواه، لذلك سنجد النقد يتجه إلى تبني جميع الأفكار التي تصدر عنه. فكان أن وجدنا فكرة موت الله في الفلسفة تتكرر مرة أخرى وتجد لها صدى في النقد عبر فكرة: موت المؤلف. تزعم هذا الأمر في النقد " رولان بارت "كبير الشكلانيين الروس، حيث اعتبرت الشكلانية القارئ ذاتا قادرة على إدراك بنية النص الشكلية. وستستمر الرؤى النقدية في التوالد، كل يضيف جديدا؛ فجاء "جاك دريدا التفكيكي"، وساهم "أمبرتو إكو" في إطار سيميولوجية القراءة مع عديدين آخرين في بلورة أفكار محصلتها: إن النص الذي لا تتوقف قراءته لا تتوقف دلالاته، بل إن النص لا يوجد خارج فعل القراءة، فهو إذن موجود بالقوة في الورق، موجود بالقوة بفعل القراءة. وبالتالي فإن تعدد القراءات تؤدي إلى تعدد الدلالة، إنها سيرورة دلالية غير منتهية. لقد برزت إذن على سطر البحر النقدي مسالة الصراع بين سلطة الكاتب وسلطة القارئ، هل النص ينتهي عندما يُكتب أم يبدأ عند لحظة القراءة؟ هل المعنى موجود داخل النص أم في القارئ؟ ثم هل للنص كاتب أصلا؟ يقدم رولان بارت جوابه على شكل مقدمات ونتائج : لقد مات المؤلف، فلا مؤلف للنص إذن، إن القارئ هو المؤلف. رولان بارت يرى أن نسبة النص إلى مؤلف يعني أن له معنى نهائيا له هو الذي يعطيه هذا المؤلف، لذلك يجب إعلان وفاته منذ البداية لإتاحة الفرصة لتعدد الدلالات. وكقراءة نقدية لموقف رولان بارت نقول: إنه متهافت، فهو عندما أكد أن نسبة النص لمؤلف سيمنحه سلطة تحديد المعنى وسيقيد من الدلالات، لم ينتبه إلى أنه لم يقتل المؤلف بنظريته تلك، بل جعل للنص مؤلفين لا أكثر، فكل قارئ بمنظور بارت هو مؤلف، وبالتالي ستتصارع الذوات القارئة لتأكيد أحقية الدلالة التي توصلت إليها...إنها فوضى دلالية. اَلاِسْتِبْدَادُ 0لنَّقْدِيُّ لِلْعَقْلِ 0لْعَلْمَانِيِّ (3) ستشكل مدرسة كونستانت مع هانز روبير ياوس Hans Robert Jauss و وولفغانغ إيزر Wolfgang Izer مخاض ميلاد القارئ والاكتمال الحقيقي لنظرية التلقي. وتبني هذه المدرسة نقدها على مسلمات، منها: · لا سرمدية للنص ولا ثبات، إنه سلسلة افتراضات متتالية. · المعنى في النص لا يوجد لنكشف عنه بل يُبنى. لكن السؤال المشروع حاليا هو: هل فعلا أطلقت نظرية التلقي العنان للقارئ كي يصل إلى أي معنى يريده؟ إن هذا السؤال ضروري لأنه يؤسس للإجابة عن السؤال الذي طرحناه سابقا: هل القرآن والحديث نصان أدبيان يتيحان للعقل العلماني ممارسة حريته المطلقة؟ هل كل قراءة مقبولة إذن؟ أم أن هناك شروطا يجب التقيد بها؟ وإذا كانت هناك شروط من سيضعها؟ تجيبنا مدرسة كونستانت على لسان أحد روادها هانس روبير ياوس مقترحا ضرورة إدماج التلقي داخل التاريخ الأدبي، وذلك بمحاولة البحث عن "القراءة المهيمنة المنتشرة" في الزمن الذي كتب فيه الكاتب النص. فياوس إذن - رغم ما قد يتصوره البعض عن نظرية التلقي من تحرر- يضع الفهم الأول للعمل الإبداعي أساس القراءة. سنحتاج كثيرا كلام ياوس هذا عندما سنناقش العلمانيين بضرورة الرجوع إلى السنة النبوية وفهمها عن طريق الصحابة، سنحتاجه كثيرا لأنهم قد يصدقون ياوس أكثر من النصوص " التراثية البالية " كما يقولون. سنحتاجه كثيرا لأن العقل العلماني قد بنى نظريته على ما انتهت إليه المناهج النقدية، فالدين في النهاية ليس إلا نصوصا، إن العلمانية بهذا الأساس منهج نقدي يعلي من شأن العقل، إنه تجل واضح لجمالية التلقي ولكن في أبشع صورها. ماذا تقترح الدراسة السيميولوجية وخصوصا مع امبرتو إيكو؟ هل نترك القارئ يمارس استبداده على النص؟ هل نستبدل استبداد الكاتب ( كما يدعي العقل العلماني) باستبداد القارئ؟ إن الأمر ليس كما نتصوره، فإيكو يسارع الزمن و يستبق القراءات المجنونة بأن وضع لها شرطا وهو ضرورة استحضار " مستودعات المؤلف" لا "مستودعات القارئ"؛ إنه التزام أخلاقي إزاء النص إذن، و إلا فإن القارئ فيصبح مثل عامل الاستخبارات غير المزود بشفرة التواصل الاستخباراتي، هل سيستطيع فهم الرسالة المشفرة؟ بالطبع لا. إذن أنت أيها العقل العلماني لا تستطيع فعل أي شيء تريده بالنص الشرعي، ولا تستطيع لي أعناق النصوص كما فعل عصيد مع حديث تأبير النخل. و ليست لقراءتك أي مشروعية، وهل تأتي المشروعية فقط من كونها تعتمد على العقل؟ ليست كل قراءة مقبولة يا عقل، فالتلقي في جزء كبير منه موجود في النص، هذا ما تؤمن به جمالية التلقي. هل نسلم لأخطاء قراءة العقل العلماني؟ إن إيكو يرى القراءة غير المنضبطة ستنتج أخطاء، والأخطاء ستتواصل مع تعدد القراءات ، وتعدد القراءات سيجعل من تلك الأخطاء أخطاء معتبرة ( وهو الذي وقع فيه العقل العلماني). اَلاِسْتِبْدَادُ 0لنَّقْدِيُّ لِلْعَقْلِ 0لْعَلْمَانِيِّ (اَلْجُزْءُ 0لْأَخِيرُ) إن الناظر لما يُكتب من قبل أقلام العقل العلماني العربي يكتشف مرارة ما تنبأ به إيكو، لقد وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيه كل القراءات مشروعة، فما دامت لا ترجع إلى القراءة المهيمنة– حسب ياوس-( فهم الصحابة رضوان الله عليهم حسب رأينا) فهي مرحب بها عند مريدي الفكر العلماني، ولقد مر بنا كيف أنهم تبرؤوا ذات صباح من محمد عابد الجابري وقلبوا له ظهر المجن. هل هناك من يشارك ياوس وإيكو في تقليصهما حدود القراءة الممكنة؟ نعم، نجد أيضا بول ريكور الذي اشترط للقراءة الممكنة شرطا سماه: الانسجام الخارجي؟ إنه يقصد بذلك أن يخلص القارئ إلى نتائج غير معاكسة للمعطيات التاريخية و السيرية، أو أي معطيات أخرى موجودة في النص، لأن ذلك سيجعل القراءة خارجة عن السياق الحقيقي للنص. إن عدم تطبيق هذا الأمر سيجعل كما تقول كاترينا أورشيوني القراءة هذيانا تأويليا وكلاما خارجا من نزوات الرغبة. في مقالة مترجمة لفانسون جون، والمنشورة في مجلة فكر ونقد، تحت عنوان : " القراءة تواصل مؤجل"، وفي اتفاق عجيب مع سماه ياوس ب:" القراءة المهيمنة" نجد فانسون يضع شرطا للقراءة الحرة والمنفصلة من كل عقال؛ لقد اشترط وجود انفصال بين العمل والسياق الذي أنتجه، آنئذ يمكن للعقل والقارئ أن يكون حرا. يقول: " ففي الحدود التي يكون فيها العمل مفصولا عن سياقه، نادرا ما يقرأ العمل كما يريده مؤلفه أن يراه. أليس من غير المنطقي أن نتخلى عن استخراج القصد الأول، وأن لا نرى في النص ما لانريد رؤيته؟" ص99( فكر ونقد،عدد:88). يؤكد فانسون إذن أن النص عندما يُكتب يضع له الكاتب معنى، والذي يحيل إلى هذا المعنى قوله: " نادرا ما يقرأ العمل كما يريده مؤلفه أن يراه"، وهو يرى أن النص عندما لا يُعرف له سياق آنئذ يمكن للقراءة أن تكون حرة. والسياق في حالة النص القرآني ليس إلا أسباب النزول، وفي الحديث النبوي ليس إلا تعليقات وفهم الصحابة الموجودة في كتب " التراث" كما يسميها العلمانيون. لذلك فالنص عندما يُعرف له سياق لابد أن تنضبط القراءة له، فكما يقول فانسون: " يسمح النص بقراءات متعددة، لكنه لا يسمح بأي قراءة كما اتفق" ص99. لقد اتضح لنا فيما لا يترك مجالا للشك أن القراءة المنفتحة ممكنة بشروط، وهذا ليس قول الشافعي وابن حنبل، بل هو قول مدرسة كونستانت؛ قول ياوس، ريكور، أورشيوني...فإذا كنتم من الذين يمجدون العقل الأوربي وما أنتجه، وتحطون من قيمة العقل الإسلامي وما أبدعه، فخذوا بكلام مدرسة كونستانت إذا كان فعلا هدفكم البحث العلمي الدقيق. لذلك فإن السؤال الذي طرحناه سابقا يمكن الإجابة عنه بالشكل الآتي:إن القرآن كلام الله المنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل بلسان عربي مبين، إنه ليس كلام بشر و ما ينبغي له ذلك وما يستطيع. فالدعوة إلى تطبيق المناهج الأدبية على القرآن الكريم يمكن أن يستعان بها لفهم بعض الأمور المتعلقة بالبيان واللغة، أما أن يتجاوز العقل العلماني ذلك فيبدأ بالخوض في المسائل غير القابلة للخوض بدعوى الأنثروبولوجيا الإسلامية أو علم الأديان المقارن أو غيرهما فإنه سيؤدي إلى هدم أنقاض هذا الدين. يقول الدكتور الحسن بوتبيا في كتابه " القراءة الأدبية في ضوء المنهج التاريخي" متحدثا عن محمد عبده مستشهدا بكلام ألبرت حوراني :" و لم تفلح دعوة محمد عبده في تحويلهم عن ذلك – أي رفض العلماء التوفيق بين الدين ونظريات العلم الحديثة - إلا أنها كانت عظيمة الأثر في تلاميذه الذين تصدروا الحركة الفكرية والأدبية من بعده، فقد أراد بانفتاحه المحدود على علوم العصر إقامة جدار عازل ضد العلمانية، فإذا به في الحقيقة يبني جسرا تعبر منه عليه العلمانية لتحتل المواقع واحدا بعد آخر، وليس من المصادفة أن يستخدم معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة" ص24 (نقله من كتاب ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة).