العلمانية نظام يقوم على فصل كل المؤسسات عن الوصاية الدينية و يقصيها من الحياة العامة و لا يخضع الأنظمة لميزان الدين بل يتحاشاه ما أمكن, و الدين هنا نعنيه بمفهومه الواسع الذي يشمل جميع المعتقدات و لا يقتصر على الإسلام فقط, لكن بما أن الإسلام في اعتقادنا الجازم و إيماننا الصادق هو الدين الحق, فسأقرن الدين به و أجعله في هذا المقال الدين الواحد الأوحد, كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام. قبل مجيء الإسلام كانت البشرية تعيش في أوساط تشوبها معتقدات كثيرة و ديانات مختلفة بالرغم من أن مفهوم الشرك و البطلان هو السمة الرئيسة التي توحدهم و تجمعهم, حتى المسيحية و اليهودية اللتان من المفروض أن تكونا أقرب إلى دين التوحيد لم تسلما من التحريف و التزوير و بالتالي كل المعتقدات مبنية على البطلان و الزيف, فتجد معتقدات تجتمع على إله واحد لكن بتصورات مختلفة تصل أحيانا إلى حد التنكر إلى أقرب الأقربين كما هو شأن سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه حيث تنكر له أبوه على حساب معتقد خاطئ لا يمت إلى الحقيقة بصلة, و لا تجمعهما إلا كلمة الإله لكن بمفهوم مختلف يجعله والد النبي ابراهيم عليه السلام مرتبطا بالتماثيل التي يصنعها هو و سائر المشركين من الحجارة أو مواد أخرى في حين يقرن سيدنا إبراهيم عليه السلام مفهوم الإله بالإله الحق الذي يستحق العبادة بحق, و بذلك يجعل العبادة تسمو فوق كل اعتبار بسمو الإله الذي جعل تسيير الكون في قبضته سبحانه و تعالى, و هكذا ظل مفهوم تعدد المعتقدات يطغى على سائر المجتمعات البشرية إلى أن جاء الإسلام. و هذا التنوع في المعتقدات كان يطغى بشكل كبير على الحياة الفرية بمعزل عن سياسة البلدان التي غالبا ما تنبني على أسس المكر و الخديعة, كما أن هذا التعدد العقدي لم يظهر بشكل متبنى من طرف تنظيمات و جماعات لكنه انتشر بشكل عشوائي فطغى على كل البلدان و الأمصار, و علة عدم تبنيه و جعله نظاما لجماعة ما يرجع بالخصوص إلى قلة المواصلات و انعدامها أحيانا, ما يجعل فكرة التبني بعيدة كل البعد عن أن يستوعبها العقل السليم خاصة و أن التعصب لكل تيار اعتقادي كان يسود جل المجتمعات آنذاك ما يجعل ظهور أي تيار جديد في غاية الصعوبة كما أن من شأنه تصفية كل من جاء بجديد يخالف معتقد الأجداد, و هذا بالفعل ما تعرض له الرسول صلى الله عليه و سلم, عندما اتفق المشركون على قتله و نجاه الله تعالى من كيدهم. إذن فالمفهوم الشامل للعلمانية كان سائدا رغم عدم تبنيه بشكل رسمي من طرف الدول و الحضارات, و لم تظهر مفاهيم العلمانية الضيقة الحديثة التي نشهد تبعاتها في الوقت الراهن إلا في عهد فولتير و توماس جيفرسون و غيرهم ممن فتح باب التحديث و التبني لفكر علماني كان يسود عشوائيا. هذا الفكر كان سائدا كما سبق و أن أشرت إليه آنفا, ما يعني أنه نظام قديم و ليس جديدا و لا علاقة له بالحداثة و العلم الذين طالما ينسبه بعض المتثاقفين إليهما, و جدير بالذكر أن الإسلام جاء لتصفية هذا النظام بشكل تدريجي لأنه يفتقر إلى الخبرة الإلهية من جهة و التي تبني قوانين تنظيم المجتمعات بمراعاة أمور غيبية يغفل عنها الإنسان, و من جهة أخرى لكون المشرع الأرضي يبني قوانينه على أسس تخدم طبقة معينة و تقصي أخرى من المجتمع, بمعنى آخر أن المشرع الأرضي يصوغ دساتيرا تخدم مصالح الحكام و الأغنياء و ذوي النفوذ و تهضم حقوق الضعفاء و المساكين. و بخصوص سورة الكافرون التي يستدل بها بعض العلمانيين لكون الإسلام دين يدعو إلى العلمانية, أقول لهم أن هذا الإستدلال ليس في محله, و أن السورة نزلت لموقف معين يخالف ما تحطون عليه نظرياتكم و سبب نزول السورة كما روي أن الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل السهلي و الأسود بن عبد المطلب و أمية بن خلف و آخرون من قبيلة قريش أتوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم, فقالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا و نتبع دينك, و نشركك في أمرنا كله, تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة, فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه و أخذنا حظا منه, و إن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا في أمرنا و أخذت حظك منه, فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره, فأنزل الله هذه السورة ردا على موقفهم الشاذ و الذي لا يستند إلى أي مصداقية تذكر بل قولهم مبني على فراغ أفئدتهم. و لما نزلت هذه السورة كان التكرار و التوكيد طاغيا عليها بشكل بلاغي لا يبعث على تقبيح التكرار و لا التوكيد بل زيدت السورة بلاغة في التركيب و قوة في دقة انتقاء الكلمات و تسلسلها, لتؤكد على أن الإله الحق إله واحد و أن المعتقد الحق معتقد المسلمين, و لا سبيل للعب بالكلمات و التفاسير المزيفة لإقناع الناس حول مشروعية العلمانية, و إنما أقول أن هذا التفسير الذي يستند إليه دعاة العلمانية إنما هو تفسير بما تهوى أنفسهم و أن تفسير السورة يظهر ضرورة تجنب المعتقدات الزائفة, و عدم مساواتها بالدين الحقيقي, ما يستلزم اتباع الإسلام بالضرورة و جعله دستور الأمة في تنظيم الحياة العامة . فالإسلام دين حق و لا سبيل لتغييره بنظام بشري حتى و إن أجمع الناس على ذلك, و نحن المسلمون لنا مبادئ و تصورات تجعلنا نؤمن إلى حد بعيد أن الإسلام نظام إلهي المصدر و لا يمكن استبداله بغيره من المعتقدات الزائفة, فهو في اعتقادنا الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه, و إذا كان كذلك فإننا نعي و ندرك غاية الإدراك استحالة تواجد نصوص متجاوزة فيه, بل هو صالح لكل زمان و مكان, اللهم بعض الأحاديث النبوية التي تكون آنية أو مخصصة لموقف دون آخر, و ما عدا ذلك فالإسلام دين حق و صالح لنا أنى وجدنا و أين استقررنا. أيها المسلمون اعلموا رحمكم الله أنه متى سلمنا بضرورة تغيير الإسلام بنظام العلمانية في تسيير الدول و البلدان متى أنقصنا شأن ديننا و تنازلنا عنه تدريجيا حتى يتلاشى, و الأكبر من ذلك أن تبني العلمانية كنظام ضرب للإسلام و الذي بالضرورة ضرب في الألوهية و الربوبية الحقة, حيث يجعل العلمانيون عقولهم تسمو فوق الله تعالى و يعتقون أن أنظمتهم أصلح للبشرية أكثر من الإسلام الذي يعتبر دستور الربانيين و دليل المسلمين. لذلك كان الرد على مروجي أفكار العلمنة ضروريا للحد من نسبة المؤمنين بها خاصة و أن أغلب الذين يذيعون أبواق العلمانية بين الناس لا يعلمون منها إلا الإسم, الأمر الذي يجعل إقناعهم صعبا للغاية لكونهم تربوا على ذلك و طغت فكرة الكراهة الدينية على تفكيرهم و أنماط العيش عندهم, و الأجدر أن يعود هؤلاء المنادون بالعلمانية إلى آخر الدراسات و الأبحاث الأنثروبولوجية حول نسب الإنتحار و الطلاق و العزوبة في المجتمعات الغربية ليدركوا مخلفات العلمانية و ضحاياها و الأكيد أن ذلك سيصدم كل من المنصفين في الحكم على بشاعة العلمنة و البعد عن الدين. هذه الدراسة أعدها الدكتور صلاح الدين سلطان أستاذ الشريعة الإسلامية, ورئيس الجامعة الإسلامية الأمريكية سابقاً, والذي أقام في الولاياتالمتحدة قرابة عقد من الزمان, بعنوان : " إفرازات الحضارة المادية على الحياة الزوجية في أمريكا و أوربا ", و هي دراسة توضح مدى التفكك الأسري الذي تعيشه الدول الغربية, و كذا المفهوم الحقيقي لمؤسسة الزواج الذي يغيب بشكل كلي عن المجتمعات الغربية حيث لم تعد تجمع بين الزوج و زوجه غير علاقات مصالح سرعان ما تتلاشى عندما يكف أحدهما عن العمل ليصبح عالة على الآخر, ما يجعل الأبناء تحت رحمة المحاكم, لا تتسع رقعة المقال لسرد تفاصيل الدراسة بكاملها غير أن الأهم هو أنها توضح تفكك المجتمع الغربي المادي جراء أنظمته العلمانية, و الدراسة موجودة على الشبكة العنكبوتية لمن أراد الإطلاع عليها, و في المقابل نجد تسجيل نسبة الزواج في المملكة العربية السعودية التي تتبنى الشريعة الإسلامية بلغت 76.71 في المائة مقابل 23.29 في المائة كنسبة للطلاق, هذه الأرقام كشفت عنها وزارة العدل السعودية, وقد أكد وزير العدل السعودي عقب كشف هذه الأرقام قبل عامين أن الأمر يتعلق بالحرص على تعزيز البدائل الشرعية لفض المنازعات سواء كانت في سياق الصلح و التوفيق أو التحكيم. أيا كانت الدريعة لتحقيق مآرب المكبوتين فكريا بغرض توسيع علمنة الدول الإسلامية, فهي لن تنال من عزيمة الشباب المسلم لنشر شريعة الله في الأرض, و جعله المنارة الوحيدة لإطلالة شاملة حول قضايا المجتمع و الوقوف على الأسباب و الحلول الناجعة للإصلاح و التصالح مع الذات و إعادة إحياء الهوية الإسلامية لإنقاذ البشرية من غياهب الضلال الذي تتخبط فيه بلا وعي و مسؤولية, إن الفكر الشاذ الذي يسعى لفرض تصورات صبيانية و علمنة المغرب عن طريق شرذمة من المتثاقفين, لن يبلغ صداه مبلغ الأقدام, و لن يؤثر على مساعينا لزيادة تعزيز النصوص الدينية في دستور الأمة المغربية, مع الإلحاح لجعل الإسلام دستورا لإصدار القرارات و التحكيم إليه في كل كبيرة و صغيرة, ذلك ما لن يستسيغه دعاة العلمنة من بني جلدتنا, لأنهم بكل بساطة لم يستطيعوا بعد تحرير تفكيرهم و أنفسهم من الشهوات التي تعصف بهم وسط ركام من العوائق المظلمة و التي يستعصي المرور عبرها دون دفع أثمان باهظة و لو كان ذلك على حساب مستقبل الأبناء. العلمانية جلاد الإسلام الذي يجعله حبيس المساجد بإقصائه من الحياة المؤسساتية, و مغتصب حرية الإحتكام إليه لإفتقار القوانين إلى النصوص الدينية لتنظيم العلاقات وفق منظور إسلامي محض, و منكر وصاية الله الواحد الأحد لعباده, كما أن العلمانية ضرب من ضروب تشجيع البغاء عبر منفذ الحرية الفرية, و تشجيع البغي عبر الرأسمالية التي تزيد الغني غنى و تزيد الفقير فقرا, و تشجع التفكك الأسري عن طريق الإستهانة بمؤسسة الزواج التي تعتبر النواة الرئيسة لبناء مجتمع راق و واع بالمسؤولية التي يتحملها, هذه المؤسسة التي سماها الحق سبحانه بالميثاق الغليظ لأهميتها في بناء المستقبل و خلق أجواء الود و المحبة بين أفراد المجتمع على اختلاف ألوانهم و ألسنتهم و مستوياتهم المعيشية. نعم الإسلام هو الحل لفض النزاعات السياسية, و هو الحل للخروج من بين أنياب الأزمة الإقتصادية التي تعصف بالأمة, و هو الحل لبناء المستقبل, وهو الحل لتربية الشباب تربية حسنة, و هو الحل لنشر السلام و المحبة, و هو الحل للقضاء على مختلف أشكال الإنحرافات السلوكية من الظلم و السرقة و غيرهما, و هو الحل لصناعة رجال الغد القادرين على مجابهة الصعاب و تنمية البلاد و العباد, و الإسلام هو الحل لمكافحة ثقافة العري أو التصريح بالممتلكات كما يسميها بعض الكوميديين, هذه الثقافة التي يعدها البعض رمزا و علامة من علامات التقدم, و لو فطنوا إلى أقوالهم قليلا لعلموا أن أكثر المخلوقات عريا هي الحيوانات, و بالتالي فهي أكثر الحضارات تقدما و رقيا من بني الإنسان حسب قراءاتهم. نعم الإسلام هو الحل شاء من شاء و أبى من أبى.