"لا يستطيع المرء أن يستحم في النهر مرتين. مما لا شك فيه أن الصورة الفوتوغرافية ليست فنا تشكيليا رسما كان أو لوحة، لأنها تخضع خضوعا كليا لآلة التصوير وللتقنية في صناعتها؛ بيد أنها لا تقل قيمة جمالية وأهمية على المستوى المشهدي والفرجوي لأنها تحمل في ثناياها خطابا إقونيا شيقا ومحسوبا. فبالإضافة إلى كونها تحتفي بالزمن المتدفق بشكل جبروتي وتخلد اللحظة الهاربة إلى غير رجعة وترصد "الحقيقة" الدامغة لتقدمها كشاهد حي، محرج أحيانا؛ فإنها في المقابل تعرض للمشاهد فرجة فنية في مشهد مثقل بالأناقة والبلاغة يدهش ويصدم في آن العين المأسورة بغمز اللقطة وشغف الرؤية وفضول القراءة. وعلى حين غرة تحول الحاضر بكل تجلياته الاندفاعية إلى غياب حاضر موشوم بالدلالات والإيحاءات؛ حينها يبدو العالم الدائم التجدد والتغير في الصورة الفوتوغرافية مجرد صدى وأثر للموجودات والشخوص؛ و تصبح بالتالي صورة الأشياء أكثر جمالا بل أكثر قيمة من المرجع نفسه. تستهدف الصورة الفوتوغرافية قارئها اللبيب في اللحظة التي يستهدفها فيها؛ وتصيبه بالدهشة والذهول والحيرة انطلاقا من الفضاء المؤثث عبر تفصيل صغير يشع من المشهد أو نقطة فرادة تثب من أحد الأركان كسهم ضارب أو لسعة ممتعة مفاجئة. وحين لا تقبض العين على هذا الشيء الناتئ بمفهوم رولان بارث، فإن الرائي مدعو للتفكيك والخوض في الأنساق التركيبية للوضعيات والمدلولات والتعبيرات وكذا الغوص في عمق التضمينات والرموز التي تختزنها؛ ليغور المعنى البلاغي ويظهر اللا معنى الإبداعي وينتشر في الصورة كبيان للأشكال والمضامين. لا تترك الصورة الفوتوغرافية البلاغية للمشاهد أي مجال للصدفة أو التلقائية. كل شيء فيها مقصود ومحسوب؛ فهي تستثمر الضوء بإمعان شديد وترسم الظلال بإتقان فريد وتحاور الشخوص والوجوه في حركية مثيرة للدهشة والإعجاب والحيرة؛ وتحول المواقع الآلية للسقوط إلى مناظر مدهشة وتضفي على الخراب البشع نفحة جمالية لا متناهية؛ كما أنها تجعل من الأشياء التافهة في حياتنا اليومية عناصر بصرية رفيعة وصقيلة؛ وتعطي للأغراض الرثة والثياب البالية والألوان الباهتة بعدا فنيا راقيا؛ بل حتى الفوضى تنتظم في فضاء الصورة البلاغية وتبدو غاية في الدقة والجمال. كل هذا القول وذاك ينطبق بالطبع على الصورة الفوتوغرافية البلاغية الرشيقة البالغة الحساسية والجمال، المحسوبة الشكل والمقصودة المضمون والمميزة باللمسة الابداعية البهية. صورة تتواضع اللغة عن وصفها ..