"قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا" (الكهف 103-104) قبل الحديث اسمحوا لي أن أقول بعد الحكم الصادر على الشاعر و الصحافي و المناضل رشيد نيني: "إنا لله و إنا إليه راجعون" لأنها مصيبة أخرى من مصائب المخزن، لك الله يا رشيد، وهنيئا لك مدرسة يوسف عليه السلام، ولا نامت أعين الجبناء. -1- أعتقد أن المغرب من أكبر دول العالم تقدما في صناعة الأمية و الاستبلاد، والأمية ليست هي الجهل بالكتابة والقراءة، بل هي الاعتقاد الواهم في امتلاك المعرفة، والذي نلحظه في الكثير مما يُكتب، واسمحوا لي أن أكون فضا فالمجاملة فينا أهلكت الحرث و النسل، إن هو إلا تدوير لآلة اللغة كما قد تدور آلة طحن بغير دقيق، ولو جِئتَ لتصفية المَقُول علَّك تشرب فكرا زُلالا، لن تجد غير إنشائية وتعابير ميتة تُستعمل لإرهاب القارئ أو توهيمه بجلالاة قدر الكاتب... ربما لم يحن الوقت بعد ليكتشف الناس أن الاستبداد والاستبلاد سائد "حتى" فيما يسمى حقلنا الثقافي و أن الكثير ممن نعتبرهم مفكرين إن هم في نهاية المطاف إلا قساوسة الكنيسة بما تُحيل عليه العبارة من إرهابٍ للفكر و اعتقادٍ في امتلاك المعنى و المعرفة. ثقافة جداتنا أثرى من ثقافتنا وإن كنَّ يجهلن القراءة والكتابة و لكنهن عشن عصرهن واكتسبن ثقافته و خبرته، وذلك ما يبدو جليا في حكاياهم و أمثولاتهم و مواقفهم في ساعة العسرة. يعتقد الكثيرون في مفاهيم أضحت كالأصنام يُخْضعُ لها ليس لأن لها قدرة ، وهي حجر أصم، ولكن لأنها تضمن استقراراً لحال حتى لو كان وهما و أورث استبلادا و استبدادا، من تلك المفاهيم الاعتقاد الواهم في لفظة "التقدم" و التي تجعل البعض يعتقد نفسه أعلم و أكثر خبرة و إنسانية وتقدما من سلفه لمجرد تأخره عليه في الزمان. نحن في حضن الاستبلاد نكتفي بلوك المفاهيم المستوردة تَجَمُّلا دون استشعار للحاجة لفهمها، فالمهم هو التسييس في الدين و الفكر والصحافة و الحكم. ألقت السياسة عندنا بجثتها على كل الميادين فلم نعد نرى إلا بها و من أجلها، وكان من جرائمها ضد المغاربة أن جعلتهم أمة بلا لغة، أضحت الأخيرة ألفاظا مستوردة لا نعرف عنها إلا كيف تُرقن على الحاسوب و نبيع بها و نشتري في سوق النخاسة السياسية و الصحافية، نعم يحتاج البلد لوقفة جدية مع التعليم و اللغة ليس من أجل إعادة مسرحية "التنوير" كما لا ييأس من التكرار "مفكر النخبة" عبد الله العروي، ولكن من أجل أن نتلمس طريقنا بأنفسنا بعيدا عن تخاريفَ تعتقد التاريخ مسارا واحدا رسمت خارطَةَ طريقِهِ يدُ الرجل الأبيض و إلى الأبد. -2- ليس هذا المقال كما قد يعتقد البعض سياحة في أرض الفكر فليس هذا أوانها، و لكن اللحظة المعيشة اليوم فرصة تاريخية إضاعتها ستكون عارا علينا و جريمة في حق أبنائنا. في أشكال الحِجَاج القائمة اليوم تلمس آثار الاستبلاد و الاستبداد، تُطل عليك بصفاقة من بين الأسطر، في شعارات حركة العشرين من فبراير نجد مطالب كمحاسبة المفسدين و حلِّ حكومة المعارفة وصلاتِ القرابة و رفعِ يد السلطة عن ثروة الأمة، وفي ردود المخزن ومن يفكر من خلال منظاره المشروخ يقول :"عاش الملك"، ابحث أنت عن العلاقة!!، الذي يعتقد الدفاع عن الملك يُدينه من حيث لا يدري. تطالب الحركة بسياسة جديدة وأحزاب مبدئية فيطلع علينا الوزير الأول، المطلوب محاكمته، ب"بشرى" بقائه جاثما على صدر حزبه إلى 2013، و عند حلول السنة الموعودة سيقول:"أقصد التقويم الهجري". يلتحق "إسلاميون" بركب التغيير و نُصرة المستضعفين، فينتصب القضاة و المحققون من كلِّ "قْرِينة كْحْلَة"(1) يستنطقونهم عن مواقفهم من الديموقراطية و الملكية البرلمانية و العلمانية...وما السائل بأعلم بتلك المصطلحات من المسؤول، وما هو بقاض قبل ذلك و لا بمحقق، بل منهم من لا يستحي، كهذا الذي يطلع علينا كل يوم برأي، ويضع الشرفاء في قاعة الامتحان ثم يقول:"مرحبا بالجميع"، يُملي، المستبلد المستبد، الشروط و يُرحب بأهل الدار في دارهم!!!! حال هؤلاء كحال من يقف في قاعة المحكمة من غير هيئة القضاء و يقول:"رُفعت الجلسة"!!!. قلتُ في مقالات سابقة ألا مفهوم واضح للعلمانية (2) ولا تاريخ يقبل التشكل في لحظة واحدة ،أو "في دقة واحدة" بلغة أهل فاش. ومن يدعي غير ذلك فليتقدم ليُنير جهلنا إن استطاع إلى ذلك سبيلا، كما أن من يخاف من جماعة "العدل و الإحسان" أو "الإصلاح و التوحيد" أو "السلفية الجهادية" ومن الدولة الدينية، التي سبق أن ذكرت في مقال سابق ألا وجود لها في تاريخ المسلمين (3)، إنما يعتقد واهما أن التاريخ بيد فئة من الناس تُقلبه كيف تشاء. حركة العشرين من فبراير ليست ملكا لأحد و من يدعي امتلاكها فذلك شأنه و ذاك لسانه، وليس حاله بأفضل من حال صاحبنا الذي يرفع جلسة المحكمة أمام أعين القاضي. و الذين يُريدن نهايتها إنما يعملون على تأبيد الاستبداد لأن عجلة التاريخ بدأت تتحلحل والمطلوب الدفع في اتجاه مطالب واضحة و آنية و التفكير من داخل ما ستأتي به الأيام عن طرائقَ لتدبير الخلاف و إنصاف الضِّعاف. أما حمل القلم من الآن لرسم ملامح مجتمع المستقبل فذلك قياس لمجتمع البشر على تشكيلة من الدُّمى، ومحاول يائسة يأس من يريد أن يقفز فوق ظله ، ولعل ذلك ما دفع أديب النمسا الساخر Robert Musil في تحفته "الإنسان العاري من المواهب" ليقول:"إن "الفلاسفة متسلطون ، و لعدم امتلاكهم جيوشا، يُخضعون العالم بحشره في نسق"(4)، و الذي يقول بأن الحداثة أو غيرها من المسميات الجوفاء هي غاية كل مجتمع وأنها "مشروعنا" و "مشروع" الآتين من بعدنا يمارس أسوء أنواع "التبشير" و أغبى ضروب "الماركسية"، وإذا كان ماركس يرى أن للتاريخ مراحل لا يزيغ عنها "حتى" هالك، فإنه كان يعِد بمستقبل تسود فيه المساواة وتضمحل الدولة تدريجيا إلى أن تلتحق بالرفيق الأعلى، أما هؤلاء فيدَّعون أن شكل العالم اليوم، و الذي "انبثق" عن حروب ومظالم لا حصر لها من استعمار واسترقاق وتقتيل للخلق بالآلاف تَوَسُّلا بالتقنية في هيروشيما وناجازاكي والفيتنام و أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان...(واللائحة أطول من البرجين الفقيدين في نيويورك) هو غاية "التاريخ" وجنته فوق الأرض. وإذا كنا نحلم بمجتمع عادل يُؤخذ فيه على يد الخارق للقانون كيفما كانت حاله و حالته: غنيا نسيبا أم فقيرا لقيطا، وتوزع فيه الثروة على الأمة لا فقط على الجاثمين على صدرها، و يحكم القاضي بما بين يديه من دلائل لا بما يأتي به طارق الليل، فالمطلوب خطى واضحة لذلك الهدف، فالطوباويُّ طوباويٌّ ليس بطبيعة هدفه أو غايته ولكن بعدم إدراكه للخطوات السالكة إلى تلك الغاية كما يذهب إلى ذلك بحق جورج لوكاش في كتابه العمدة: "التاريخ و الوعي الطبقي"(5). وفي معتقدي أن سبيل الاحتجاجات خطوةٌ سيكون وأدُها وأدًا لهذا الحلم، كما سيكون الحديث باسمها و خرم سقف مطالبها تَشَكُّلا لملامح استبداد جديد. وسقف مطالبها الأرسخ في تربة هذا البلد هو المطالبة بالقطع مع المخزن، وذلك بالمطالبة أولا وقبل كل شيء بمحاسبة كل من طالته شائبة الشطط في استعمال السلطة أو نهب المال العام، و إعادة محاكمة المظلومين خلف السجون بالشبهة و التسلط و المؤامرة، لأن أساس المخزن و هواءه الذي يتنفسه و يهبه طول العمر هو تغييبُ مبدأ المحاسبة و "حريةُ" التصرف في حريات خلق الله. و ما نحتاجه هنا و الآن، ليس دستورا عادلا فقط، ولكن خطوات عملية تعينُنا جميعا على تدوير عجلة تاريخنا الذي يراوح مكانه. ننتظر أن نرى و لو استدعاءا بسيطا لكل هؤلاء المتهمين في قضايا نهب المال العام و الشطط في استعمال السلطة و تلفيق التهم، و اعتقال رشيد نيني لن يجعلنا نيأس من وقوع ذلك طال العمر أو قصُر، وبدل أن "يُبشرنا" وِزْرُنَا الأول ببقائه على رأس حزبه حتى 2013، نريد تحقيقا معه في قضايا "سفينة النجاة" و شططه في استعمال السلطة بتمكينِ أقربائه من وظائف حساسة في الدولة، في نفس الوقت الذي تنزل فيه أمطار اللعنة على رؤوس المعطلين، نريد أن يُحقَّقَ مع مؤسس حزب "البُّوم" في علاقة صنيعته السياسية بشركته و بمدى تورطه في التجاوزات التي تحدث عنها الملك في أحداث 16 ماي، نريد التحقيق في مالية جمعية مغرب السخافات ورئيسها و قضايا "استفادته" من أراضي الحبوس دون وجه حق، نريد ونريد و نريد... وربك يريد، وما ربك بظلام للعبيد. -3- ليس كلُّ سؤال يقبل الإجابة عنه بنعم أم لا، لأن السؤال في البداية يخص السائل، وما يخص غيرك لا يخصك بالضرورة، ثم لأنه يُضمر حكما بجدوى الجواب عنه لاستمرار الحديث، وتلك أيضا قناعة لمُخاطِبك وليست قناعتَك، ثم هو مُحَدِّدٌ ضِمنا لطريقةِ ووجهةِ الجواب عنه و ذلك "كمين" ينصبه لك كَلِيمُكَ، قد يسألك سائل : "هل أنت سعيد بغبائك؟ أجِب بنعم أو لا! سواء أجبتَ بالرفض أم بالإيجاب فأنت تُقِرُّ بغبائك. ذلك توضيح ممكن للذين لا يرون ضررا في الاستفتاء القادم على الدستور، و كما كتبت و أُعيد لا تكمن المشكلة في الدستور و لا في طريقة تأويله كما يدعي مفكر النخبة المذكور أعلاه، و إنما في غياب الكفة الأخرى للميزان. ولربما عنَّ للبعض أن يتساءل: "لماذا لا تدخل تنظيمات رافضة ك"العدل و الإحسان" و "السلفية الجهادية" ، هذا الذي يسمونه لعبةً ديوقراطية، ويكون الاقتراع حَكَما؟ و "الإسلاميون" إذا تكتلوا يستطيعون "حصد" الأصوات (بلغة التراكتور)، وتلك حقيقة لا أعتقد ناكرها إلا جاحدا. ومن ثم ربما استطاعت قوى الإصلاح بعث الروح في الكفة الفقيدة، ربما!!، ولكن سبب استبعاد تلك "الربما" هو غياب الخطوة المطلوبة، و حاصلُها البدء بمحاسبة من استحق المحاسبة من المغتنين بعرق الفقراء والمتسلطين باعتقال الأبرياء. أعتقد أن خطوة في هذا الطريق ستكون خير عون لخطوة حركة العشرين من فبراير المباركة. ساعتها سنكون أقرب لمجتمع يكون فيه للوزير و الأجير حساب يُقدمه للشعب، وإن وَجَد جيوبا تقطع عنه الطريق كان له الحق و الشجاعة في الاستقالة، بدل هذه الحال التي نرى فيها "الأوزار" ألصقَ بالكراسي من مجانين ليبيا و سوريا و اليمن. الإحالات: 1) من اللهجة الدارجة و القصدُ "الجائحة". 2)" لا سبيل إلى رؤية واضحة تخدم سياسة جديدة و جدّية في هذا البلد وتكون في مستوى مستقبل كريم، بغير تحديد الأولويات والمطالبِ المُلحة والوقوف عندها حتى تُقضى، وما تُلمِّح أو تُصرح به بعض الأطراف من تقسيم ل"مجالي" المقدس والدنيوي يبدوا دعوة للائكية ("العلمانية") وهو تخليط يستند إلى وهم، فقد قلت وأُعيد أن هذا المفهوم لا مكان له في بلاد المسلمين لأنه كمفهوم "الحداثة" نِتاج تاريخ مخصوص، هو التاريخ الغربي، وحتى لو فرضنا جدلا إمكان مفهوم كهذا في مجتمعنا، فعن أي اللائكيات تتحدثون؟، عن لائكية منغرسة في الدين كتلك القائمة في الولاياتالمتحدة أم لائكية سويسرا التي تمنع بناء المآذن أم لائكية فرنسا التي تفرض على المسلمين نزع "الحجاب" في المدارس وغيرها بل وتُناقش اليوم مسألة الصلاة في الأماكن العامة هل تتوافق مع اللائكية أم لا؟ !أم لائكية غربية الملامح ترى الدم الغربي أقدس من دماء باقي خلق الله، بل و ترى النفط أغلى من دمائنا" من "نكد و معالم الطريق" و كذا مقالي "دولتنا والدين: الحقيقة والوهم" 3) " صرح في مصر القرضاوي بأنه لا يدعوا لدولة دينية وهاجمه البعض اعتقادا في لائكية الرجل وما قوله سوى بداهة، فلا دولة دينية بغير حكم بالحق الإلهي، وهذا لم يعرفه تاريخنا وإنما عرف الحكم بالعَصَبة وبدعوى حفظ بيضة الإسلام وغيرها من التخريجات التي كانت تبرر الاستبداد حينا أو تتوجس من العدو المتربص حينا آخر." (من "نكد و معالم الطريق") 4) Cited in Jean-Pierre Comitti (Editeur) :" Lire Rorty: le pragmatisme et ses conséquences". Edtion de l'éclat 1992 p 54. 5) Georg Lukács: "History and Class Consciousness" The Merlin press ltd 1971 p295-296