لا ينفك حديث الجهوية بمغرب اليوم ، عن حديث الديمقراطية التي يطمح المغاربة الوصول إليها، ولا عن رهانات الدولة في تحديث دواليبها وأجهزتها، فطيلة عقود خضعت التجربة المغربية في اللامركزية لعميات جراحية طفيفة ،تحكم فيها الهاجس السياسي والأمني ،في ظل دولة تحكمية بامتياز. إن النقاش حول الأدوار التي يمكن أن تلعبها الجماعات الترابية بكافة مستوياتها،في ترسيخ المسار الديمقراطي ببلادنا،وفي ضمان الانتقال الذي انتظرناه كثيرا من نمط تدبيري قائم على الوصاية من قبل وزارة الداخلية ،إلى أخر حر ومسؤول أمام المواطنين والكتلة الناخبة.هو نقاش يمس جوهر السلطة السياسية وبنيتها في المغرب. لذا كان من الطبيعي أن تستلزم المرحلة الراهنة مراجعة دستورية في إطار الإصلاح السياسي الشامل. إن إصلاحا بهذا الشكل ،وفي هذه الظرفية التي تتسم بتسونامي سياسي هز أركان النظام السياسي العربي ،يتطلب بالإضافة إلى تعبئة جماهيرية ومشاركة سياسية واعية ،خلق مناخ سياسي ميزته الانفتاح وعدم التمييز بين مختلف الفرقاء السياسيين مهما كان حجم الخلاف معهم. فهو أمر يهم مستقبل البلد ،وأمنه وكيانه. وللإصلاح والتغيير الديمقراطي المنشود لا محالة رجع الصدى ،على ترسانة من القوانين والتشريعات الحالية،حيث تستدعي من الإصلاحيين والقوى الديمقراطية مراجعتها،حتى تواكب التصورات الجديدة في الممارسة والحكم. المرحلة تتطلب كذلك يقظة فكرية ،ونقاشا جادا ومسؤولا ،يشكل قطيعة مع الماضي وممارساته،ومع البنيات التقليدية التي تمارس فيها السياسة بعقلية الوصاية سواء تلك المقننة بنصوص تنظيمية ،أو الوصاية بحكم العرف المؤطر بالممارسة التاريخية للحكم وبالمعطيات السوسيولوجية التي تتحكم في المخيال الشعبي. لقد مارست السلطات المحلية والإقليمية وبعدها الولائية ،على امتداد التاريخ السياسي للمغرب الحديث،وصايتها على الإرادة الشعبية بشكل فج،أفقد الممارسة الانتخابية الديمقراطية معناها،أثارت أسئلة محرجة حول الغائية والجدوى من الانتخاب ومن الترشح والمشاركة في تسيير المجالس المحلية .في ظل رقابة قبلية وبعدية للأسف رغم حضورها واستنادا إلى تقارير المجالس الجهوية للحسابات لم تقطع مع الفساد الإداري والمالي،بحكم التواطئ الخفي بين الأطراف في صيغة توازنات من قبيل (تكشف لي نكشف ليك،إوا خبي علي نخبي عليك). فلن تفرز رقابة حقيقية حول أسئلة الشرعية والمشروعية القانونية لقرارات هذه المجالس،بقدر ما كانت رقابة ذات طبيعة سياسية ،تفصح عن آلية في الحكم تحاول الهيمنة على الحقل السياسي،من خلال التحكم في النخب ،ومناولة مبادراتها،وتحجيم دورها ،وضرب استقلاليتها.وهي أثر عن سبق لسلوك كان للدولة خصوصا في عهد إدريس البصري الوزير السابق في الداخلية،يتم فيه التحكم فيما تفرزه صناديق الاقتراع من خلال صنع الخريطة السياسية،بالتزوير الفاضح والمباشر لإرادة الناخبين. وقد امتد هذا السلوك من خلال الحزب السري بطرق أكثر ودهاءا. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن مدى توفر المناخ الفكري والسياسي، لدى النخب المحلية والوطنية،المفضي إلى تحقق شروط الحكامة الإدارية والاقتصادية لدى هذه النخب أثناء توليها للمسؤولية ،واشتغالها على ملفات الشأن العام؟ألا تؤثث فئة الأعيان والتجار ورجال الأعمال ،المشهد السياسي المحلي في جمع سافر ما بين المصالح الاقتصادية والمنافع الشخصية ،والممارسة السياسية الانتدابية ؟ مما يشكل جمعا ما بين الثروة والسلطة ويجعل الثانية في خدمة الأولى، ويعرض الصالح العام لخطر محدق.ومن جهة أخرى نتساءل كيف تمارس السياسة في المغرب محليا وجهويا؟ هل بالحوار الدائم والمقنع مع الجماهير الشعبية والرامي إلى توعيتها،والنهوض بقضاياها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية؟أم بتحريك أجندة الأموال وممارسة النفوذ،والسمسرة الانتخابية والوساطات العائلية والقبلية؟ ثم ما حجم تنزيل السياسات العمومية على الواقع،وما أثر البرامج والمبادرات السياسية السالفة على حياة الناس في ظل سيادة نوع غامض من المقاومة،يجعل أي سياسة عمومية ،سواء اتفقنا معها،أو اختلفنا في ثناياها،في منأى عن بلوغ أهدافها ومراميها،فتتبدد الأموال وتهدر الجهود.هل نحن أمام تأكل لقنوات تصريف هذه السياسات،تتجه إلى إفراغ العمل الوطني من كل مضمون؟أم أن السياسة لدى قسط لا يستهان به، ممن تولى المنابر من النخب المحلية، ترادف القدرة على البقاء أطول مدة ممكنة ،وأن مزاجها العام هو مراكمة الثروات أولا ،باستغفال الجماهير، وبالتلاعب بآمالها ،وأحلامها، بدل خدمة المشروع التنموي للساكنة. إن ما يميز النقاش السياسي الحالي،هو بحثه عن ضرورة إقامة آليات تصريف السياسة،وضرورة اتفاق مكونات المشهد السياسي الوطني بكل أطيافه وخلفياته الثقافية،والفكرية والسياسية، على ميكانزمات التداول السلمي الحضاري على المسؤولية،تداول مبني على البرامج السياسية المتمايزة بين المتدخلين،لا تلك المبنية على توافقات هشة وتحالفات مشبوهة وكأن ممارسة السلطة غاية في حد ذاتها.هي ديمقراطية تنتقل من الولاء للمال إلى الولاء للشعب ،وتمنع الجمع بين السلط،وتربط المسؤولية بالمساءلة،وتخضع للرقابة الشعبية من خلال مؤسسات مستقلة،وتضمن تفادي التسلط والجور والاستبداد،وهو نقاش جوهري،به تتحدد قواعد اللعبة السياسية على أسس سليمة،وهو نقاش له الأولوية الكبرى وسابق عن أي نقاش حول المضامين السياسية التي يحملها الفرقاء،إنه تفكير في سؤال كيفية تصريف السياسة ؟ قبل بسط وعرض الأفكار والإيديولوجيات السياسية. ياسين الضوو yassinedow@ gmail.com