قصة قصيرة: في إحدى عشيات خريف 1968 ، قال لي والدي :" غداً سنسافر نحن الإثنين " فقلت له : " ومن سيرعى البقر ؟ " أجابني أنه سيتدبر هذا الأمر . لم أُخف فرحي ، حسبتها زيارة أخرى إلى أحد أعمامي ، فغالباً ما يذبح أحدهم جدياً على شرف مقدمنا . كنت أمضي كل الوقت في اللعب مع أبناء عمومتي . في صباح اليوم الموالي ، أيقظني باكراً وتناولنا فطورنا الذي لم يكن يتعدى كالعادة كسرة خبز أسود من الشعير وكأساً واحدة من الشاي . سلكنا طريقاً ضيقاً وسط الغابة ، وعندما وصلنا إلى مفترق ثلاث طرق ، انعرج بي إلى اليسار حيث كانت المدرسة ولا تزال . وجدنا المعلم في باب الفصل ، كانت تلك أول مرة أرى فيها رجلاً ببذلة سوداء ، أمرني والدي أن أقبل يده ففعلت ، أتذكر أنه ناوله ورقة نقدية حمراء وورقة شبه بيضاء من الوسخ وهمَّ بالانصراف ، فصرت أصرخ وراءه : " أبي ... أبي ..." وما كان منه إلا أن صفعني حتى ظننته فعل ذلك بقطعة خشبية . أدخلني معلمي فأمر أحد التلاميذ بإخلاء مقعده وأجلسني مباشرة أمام مكتبه . اللهم لا تجازيه خيراً بما فعل . صرت أول من يقرأ الحروف الهجائية والقطع النصية ويستظهر النصوص القرءانية ، كما كنت أول من يعاقب من حين لآخر . معلمي ذاك لم يكن يعرف الأمازيغية ، وبالمقابل نحن التلاميذ لم نكن نحسن العربية ، أحياناً نعاقب جميعنا لعدم التواصل فقط . أما زوجته ، فسيدة حسناء تفوح منها رائحة عطر لم أشمه من قبل ، لم تكن كأمي وأخواتي اللائي كانت تفوح منهن رائحة العرق والبقر والغنم والحمير و... و... و... كانت هذه السيدة تستدعيني مرات عديدة وتحاول التحدث معي بالأمازيغية بغية تعلمها . على يدها أكلت الحلوى لأول مرة ( الكاطو ) . في أحد الأيام ، حدث أن طلبت منها الزواج بكل براءة وتلقائية ، فأجابتني مبتسمة : " أنت لاتزال صغيراً يا ولدي ، ولكنني أعدك بأن أزوجك أختي عندما تكبر ، فهي تشبهني تماماً " كان ذلك أول مشروع فاشل في حياتي .أخجل الآن من نفسي أيما الخجل كلما أتذكر هذا الموقف . خلال أيام الدراسة ، كنت أرتدي جلباباً أسود نادراً ما يتم غسله ، وأحمل محفظة جلدية فارغة إلا من كتاب ودفتر وبعض الأقلام ، وكسرة خبز في قطعة ثوب متسخ لوجبة الغذاء . أحياناً أعود بها من غير الأقلام تحت سطو وسرقة الأطفال الكبار . كنت أسرق بعض الحاجات من المنزل لإحضارها لمعلمي اتقاء عقابه ، فغالباً ما يكون المسروق بعض البيضات ، وحدث يوماً أن أحضرت له ديكاً بلدياً . كان والدي دائماً يحضني على الدراسة لأجل أن أصبح دركياً في المستقبل ، كان يتمنى أن يكون من العائلة واحداً في "المخزن" للاستنجاد به عند الحاجة . على كل ، خيبت أمله في هذا المشروع أيضاً ، فكثيراً ما وجه لي ملامة في هذا الموضوع . إن أحلى أيام طفولتي عندما أحصل على ريال أبيض أو ريالين أو أربع ريالات أو عشر ريالات حمراء نحاسية على الأكثر . في صغري ، خطرت ببالي مشاريع كثيرة خصوصاً عندما أحصل على شهادة دراسية ، وإلى اليوم على الأقل لم أصبح ذلك الشخص الذي تمنيت أن أكون . صحيح ، لم يخطئ ذلك الحكيم الذي قال : " ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل " وما كتابتي هذه إلا واحدة من هذه الفسحات .