لمن يسألني عن السبب أو الأسباب التي دفعتني للدخول في هذه العزلة أجيب فورا بأني لا أعرف السبب، أعرف فقط أني لم أستطع أن أقاوم الرغبة في الإختلاء بذاتي. لقد وجدْتُني أجمع حاجياتي الضرورة وغير الضرورية وأبتعد عن علم الناس بحثا عن نفسي، كان لدي دائما شعور بالحاجة للعودة إلى ذاتي وإعادة اكتشافها من جديد، ربما أوجدت مسافة كافية تتيح لي رؤيتها، تأملها من جديد..هكذا إذا وجدتني على مسافة كافية من قبائل الناس ومشاغلي اليومية لأحدد بصفاء ما كنته وما أنا عليه وما أرغب في أن أكونه.. اخترت أن أبني خيمتي على ضفة واد هادئ يجري داخل أودية عميقة ومتوحشة، في فضاء يغري بالإقامة. فحين تدير البصر حواليك تجدك محاطا بالجبال من كل الجهات، تحملق فيك بكبرياء لتشعرك بضاءالتك، وتفاهتك، فلا صوت بشري يؤدي سماعتك، ويزعج راحتك، كل ما حولك ساكن إلا من أصوات الطبيعة.. ما أن بنيت خيمتي، ورتبت حاجياتي حتى قمت بجولة استطلاعية بهذف استكشاف المكان، أشعر بالرهبة وأنا أسير محاديا ضفة النهر، أحسبني فردا في هذا الكون المترامي الأطراف، لأول مرة أحس أن الكون بلا بداية وبلا نهاية، وما أنا إلا ذرة غبار بلا شكلولا طعم ولا لون. بدأ الليل ينزل بطيئا، وانطلقت في أعماقي مشاعر لم أكن قط أعرفها قبل هذه اللحظة، ها أنذا أكتشف بعضا من نفسي الذي كنت أجهله، خوف بدائي يتملكني وأنا أراقب من داخل الخيمة ما يجري حولي:"علي أن أتغلب على هذا الخوف الذي تحرر من عقاله في داخلي على حين فجأة.. علي أن أذهب بهذه العزلة إلى آخرها". وهذا ما حصل بالفعل، شيئا فشيئا بدأت أستعيد الثقة في نفسي:"سأصبح جزء من هذا الفضاء البدائي وما علي إلا أن أتغلب على وحشته الرهيبة". صعب على من تعود أن يخبئ خوفه بين جدران الإسمنت وخلف الأبواب الحديدية أن يطمئن إلى هذا الخلاء المفزع، وصعب على من دأب إخفاء ذاته في ذوات الأخرين أن يجد نفسه وجها لوجه معها، وفي كامل عريها. في مثل هذه المواقف الناذرة فقط يكتشف الشخص مدى صلابة أو هشاشة مقوماته النفسية والروحية والجسدية..ومدى قدرته على مواجهة المواقف الجديدة ولا سلاح له سوى دفاعاته الذاتية والطبيعية.. وأنا أغادر الخيمة، وأجيل النظر بدا لي أن لا وجه للألوان التي كانت منذ وقت قصير زاهية، والماء غير شكله، واحتل السواد المواقع التي تخلى عنها البياض، أصبحت كل الأشياء متشابهة. جوقة النهار رحلت لتحل محلها جوقة الليل، اختلف العازفون واختلفت الإيقاعات، جاء العرض الموسيقي في غاية من الإثارة والإنسجام، سمفونية جديدة، مهرجان للأصوات المألوفة وغير المألوفة لأذني، أردت أن أشاركهم الحفل حتى أتناسى خوفي لكن عزفي جاء تقليدا باهثا، مشوها وممسوخا، لقد أرغموني على الصمت والإستماع.. مع مرور الوقت بدأت ألفة عجيبة تُنْسج بيني وبين المكان، وتقليدا لأجدادي البدائيين أوقدت نارا خفيفة بالقرب من ضفة النهر لأطرد الأشباح التي تسكنه، وأهيئ فنجان قهوة أستدفء به ورحت أتسلى بإلقاء الطعام إلى الأسماك التي تلوح لامعة وهي تقفز لتلتقطه بخفة ورشاقة..مرت لحظات وأنا على هذه الحال قبل أن ينتشلني منها ضوء ساطع غير الأشكال والأصوات بأسلوبه المدهش والمثير، وسَرَت بين المخلوقات روح غريبة وحدت بيني وبينها فرأيْتُنِي في الماء والأسماك والبوم والجناذب وأوراق الأشجار..الكل يهلل ويسبح لطلوع القمر وينشر لحافة الفضي من أعالي قمم الجبال على الوادي، لم يحصل لي أن رأيت القمر في مثل هذه الروعة والجمال والجلال، إنه إله صغير عظيم يهدهد الأجساد والأرواح بنور قدسي، إنه يمنحنا بركاته ودعواته، يمسح على رؤوسنا، يهدء روعنا ويخلق في أنفسنا الأمان والسلم والحب..هي لحظة ناذرة ستجعلني أترقبه كل ليلة حتى أتمسح بأذياله النقية الظاهرة. اليوم فقط أدركت لم سجد له الكهنة والأنبياء..