ما من شكل صحفي أرقى من كتابة المقالة. وما من متعة تضاهي قراءة مقالة شيقة تجمع بين الرشاقة والسلاسة والمعلومة وقوة الحجة. وصلى الله وسلم على من قال: إن من البيان لسحراً . بعض الكتاب يكتب مقالة فترى القارئ وهو يقرؤها قد أطبق صمتا، متلذذا بها كما لو أنها وجبة جائع، وبعضهم يكتب كتيبا أو مقالة فيثير وراءه عاصفة من الأسئلة لا تتوقف طيلة عقود من السنين، وبعضهم يكتب مجلدات فلا يترك أثرا في عقل القارئ. كثيرا ما تعرضت لسؤال القراء والطلبة عن سر القدرة على كتابة نص مميز يتمتع بجاذبية تسر القارئ وتشعره بمتعة القراءة. وكثيرا ما شكا بعض القراء من عجز في القدرة على الكتابة رغم أنهم يمارسون القراءة بشغف، ويحضّرون لها جيدا لكنهم لا ينجحون في جذب الاهتمام ولا في إيصال رسالتهم. فما الذي يجعل النص متميزا: كاتبه؟ أم موضوعه؟ أم شروطه؟ في النص أدناه أربعة محاور أساسية تصلح للبناء عليها فيمن يفكر في الكتابة أو يسعى إلى تنمية قدراته، والحقيقة أنها حصيلة تجربة أكثر منها تأصيلا علميا، وهي على كل حال تبقى مقالة أقصى ما ترمي إليه إثارة بعض عناصر القوة والضعف في كتابة المقالة على وجه الخصوص. مع الأمل أن يعكس النص محتواه وأن يتسامح القراء مع الكاتب فيما ارتكبه من أخطاء في النص أو تقصير في المزيد من البيان. فكرة النص (1) بداية لا يهمنا القول بأنه ثمة موضوع سيئ وآخر جيد، أو أن هذا موضوع سفيه وذاك رزين. فالأصل أن الموضوع مجرد فكرة، إذا ما نوقشت بحيادية واحترام فستنتج معرفة علمية بشرط ألا تكون فكرة الموضوع ذات طابع عدائي فيما يتعلق بالمعتقد الديني. ففي الدين، مثلا، اجتهاد واسع وهو من اختصاص أهل العلم، أما فيما يتعلق بالغيبيات، وكمسلمين، فما علينا إلا التسليم والإيمان بها لأنها ليست موضع نقاش أو جدل. وفي مستوى الأفكار فمن الضروري التساؤل: متى يكون موضوعا ما جذابا وآخر منفرا؟ إذن أهم ما في الموضوع هو الفكرة، وهي أثمن ما يمكن أن ينتجه العقل البشري. ولأنها كذلك فمن السهل ترقيتها من مجرد فكرة محدودة تراءت لنا أو خطرت على بالنا، في لحظة ما، إلى موضوع بحيث تغدو جديرة بالبحث والنقاش والتنقيب عنها وعن مضامينها ومحتوياتها وجدواها وتبيُّن مدى صلاحيتها في خدمة هدف معين. لكن كيف سنتعامل مع الفكرة بحيث تتحول إلى موضوع؟ بالتأكيد نحن نتحدث عن مواضيع صحفية وليس عن أبحاث علمية لها شروط صارمة. ومع ذلك فالكتابة في موضوع صحفي قد لا يتجاوز 500 كلمة تستدعي توفر قدر من الرصيد المعرفي قبل الشروع في الكتابة، وهنا علينا أن نهتم بمرحلتين ونفهم متطلباتهما. أولا: مرحلة تفكيك الفكرة · يلزم الاتفاق أولا على أن كل فكرة لها جذر لغوي أو اصطلاحي أو معرفي أو علمي أو عقدي. ومهمة الكاتب هي (1) البحث عن الجذور ذات العلاقة و (2) البحث عن العناصر التي تربط بين الفكرة وجذورها و (3) فرز العناصر القوية عن العناصر الضعيفة و (4) اعتماد العناصر القوية واستبعاد الضعيفة. لكن ينبغي ملاحظة أنه ليس كل رابط مهم بالضرورة حتى لو كان قويا، فثمة عناصر قوية قد لا يحتاجها النص فعلا بحيث يكتفي ببعض العناصر ويتخلى عن أخرى. مع ملاحظة أن العناصر الترابطية الضعيفة هي كذلك في سياق معين، وهذا يؤشر على أنها قد تكون قوية في سياق آخر. · بطبيعة الحال فإن لكل جذر من الجذور خصوصياته المميزة. فقد تعترضنا بعض الأفكار ذات الجذور المتنوعة والتي لا تتضح فيها الفكرة إلا باستعراض أبرز العناصر الكفيلة لإزالة الغموض عنها. وقد نحتاج فقط إلى جذر أو جذرين. لكن من المهم الإشارة إلى أن الجذر اللغوي نستخدمه في العادة حين يكون هناك لبس كبير حول الفكرة بحيث تختلط المعاني وتضيع الحقيقة فنلجأ حينذاك إلى الجذر اللغوي لإعادة الأمور إلى نصابها. ومن باب الإشارة فالجذر اللغوي هو المتعلق بالمفاهيم، فلما نقول هذا مفهوم يعني أن له جذرا لغويا سهل التتبع، ولما نقول هذا اصطلاح فالمقصود تسمية لا أصل لها في اللغة الأمر الذي يستدعي بحثا في أصول النشأة ومصادرها. ثانيا: مرحلة تجميع الفكرة الآن وقد اتضحت لنا الفكرة ووقفنا على جذورها سنبدأ بعملية تجميع للفكرة عبر: · الاستعانة بالرصيد المعرفي. وهنا لا بد من التنبيه أن جودة المقالة وتميزها ترتبط ارتباطا جذريا ليس بما نسميه ثقافة الكاتب ومدى سعتها بل بقدرة الكاتب على توظيف ما لديه من معلومات في سياقها الصحيح. ولا شك أن الكثير منا لاحظ أن بعض الكتاب يتمتعون بثقافة واسعة ولديهم شغف في القراءة ويجيدون التحدث شفاهة لكنهم عاجزون عن تنزيلها في قالب مقالة فتبدو كتاباتهم ركيكة وشبه خاوية. وثمة العكس، كأنْ نجد كتابا يجيدون الكتابة ولكنهم يعانون من القدرة على التعبير وطعوجة اللغة والتحكم بجمالياتها. · تحديد الأفكار الداعمة للفكرة بشكل مباشر بحيث تشكل أسانيد قوية يصعب تجاهلها. لكن في حالة غياب مثل هذه الأسانيد من المفضل أن نلجأ إلى مقاربة الفكرة بما يتوفر من أفكار أخرى قريبة. · حشد البيانات والتصريحات والمعلومات القادرة على كشف الغموض المحيط بالفكرة والتي تهيئ، في الإطار الإعلامي، إلى مزيد من البحث والتقصي. منهجية النص (2) ليكن معلوما أنه ما من نص يعتمد منهجية واضحة ومحددة ويحترم ثقافة جمهوره وعقولهم إلا ويكون نصا متميزا بقطع النظر عن المحتوى. وليكن معلوما أن المنهجية ليست أسلوبا في الكتابة كما يتراءى للبعض بقدر ما هي طريقة منضبطة في التفكير. لذا فالسؤال هو: كيف نكتب نصا منضبطا؟ أكيد أن للصحافة لغتها وأساليبها وفنونها، لكن هذا لا يمنع أن يتقيد الكاتب بما هو أهم من فنون الكتابة، ونعني بذلك المنهج. فالمرحلتين السابقتين (التفكيك والتجميع) ليستا عمليتين يسيرتين كما قد يتصور البعض. فعن أي حشد للأفكار والمعلومات إذن نتحدث؟ وبأية وسائل وتقنيات يمكننا البناء؟ لا ريب أن المسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بمنهجية المقالة هل هي مقارنة؟ أم توصيف؟ أم تعليل؟ أم نقد؟ أم استطلاع؟ وهكذا. إذ لا يمكن أن نحشد مثلا عناصر نقدية في مقالة موضوعها وجوهرها هو المقارنة بين حدثين أو أمرين أو شيئين. ففي المقالة النقدية مثلا نقوم باستجماع ما نستطيع من العناصر التي تدلل على نقاط الضعف في موضوع ما. أما في حالة المقالة المقارنة فإننا غالبا ما نبحث عن حشد العناصر المتشابهة في مواجهة العناصر المختلفة، أو البحث في أوجه التشابه والاختلاف. وهذا الأمر ينطبق على المبتدئين بالدرجة الأساس كي يتعلموا مهارات الكتابة بأقصى قدر من الانضباط. لكن من الممكن ملاحظة أكثر من منهجية في بعض المقالات وهذا جائز في العمل الصحفي. بل أن القارئ المتمرس يمكن أن يلاحظ أن مقالة ما قد استعملت منهجية المقارنة والتوصيف في آن واحد. ولا ريب أن مثل هذه المقالات يتمتع كتابها بقدرات عالية في المزج بين أكثر من منهجية واستعمال أكثر من أسلوب في الكتابة دون أن يؤدي ذلك إلى ثقل في النص. فالخبرة كافية لتطويع النص والموضوع بحيث تظهر جماليته واضحة وشيقة في نفس الوقت. أما فيما يتعلق بالوصف أو الاستطلاع فثمة خطأ شائع لدى الكثير يعتقد بموجبه أن الوصف هو صيغة نقل رتيبة على شاكلة صف ما شاهدت في حين أن أغلب المقالات التحليلية هي مقالات وصفية في الصميم. والحقيقة أن منهجية التوصيف بالغة الأهمية إذا انطلقنا من اعتبار أن التوصيف هو التشخيص الدقيق للموضوع. ولا شك أن هذا التعريف يمكّن من تقديم صورة واضحة وجلية للفكرة كونه يجمع بين الوصف والتحليل. وهي عملية مطابقة لما يقوم به الطبيب. فإذا نجح هذا في تشخيص المرض استطاع وصف العلاج وإلا فقد يهدم أكثر مما يبني. إذن لما يكون السؤال كيف؟ فالجواب تفسيري، ولما يكون السؤال لماذا؟ فالجواب هو البحث عن الأسباب والعلل، ولما يكون المطلوب هو التوصيف فالجواب هو التشخيص والتحليل، ولما يكون المطلوب مقارنة فالجواب يكمن في البحث عن أوجه التشابه وأوجه الاختلاف، ولما يكون المطلوب نقدا فالجواب في البحث عن نقائض الأفكار ولما يكون المطلوب ظاهرة اجتماعية فالبحث هنا يكون عن الفوارق بين الظواهر، ولما تكون ظاهرة سياسية فالجواب هنا يتعلق بالوظيفة، ولما يكون المطلوب شخصية فالبحث يتركز على الدور الذي تلعبه، ولما يكون المطلوب مسألة قانونية أو قضائبة فالبحث يتركز على العدالة، وهكذا فلكل سؤال جواب ولكل مقام مقال. قوة النص (3) لا نظن أن قوة النص تكمن في طوله أو قصره كما تفرض وسائل الإعلام على الكاتب فتقيده بمساحة معينة، إذ أن بعض وسائل الإعلام تلجأ إلى تقسيم الموضوع على حلقات إذا وجدته مجديا ويستحق النشر بكامله. فالإثارة والسبق الصحفي ومكانة الكاتب أو موقعه وغير ذلك كلها عناصر لها نصيب في اتخاذ القرار. لكن قرار النشر غالبا ما تفرضه جودة النص إلا إن كان هناك مانع سياسي أو أمني أو أيديولوجي كما هو شائع في البلاد العربية. والحقيقة أن قوة النص تكمن أيضا في ترتيبه المنهجي وفي أدواته. فالقارئ قد ينفر من النص لدى قراءته الجملة الأولى، وهذه مأساة الكاتب الذي يبتعد عن الإثارة ويفضل الرزانة، لكن هذا القصور غير الإرادي يمكن التعويض عنه عبر الاهتمام بالعنوان والصورة والعناوين الفرعية للنص. فهذه تشكل عناصر جاذبة للقارئ. وحين الشروع في الكتابة من المفضل الاهتمام بالفقرات الأولى للنص والتي تشكل الإطار العام الجامع له. وهذه الفقرات قد تشتمل على الموضوع والمشكلة والأسئلة الكبرى وكذلك على الافتراضات التي يطرحها الكاتب كمقدمة ينتظر القارئ أن يتلقى إجابة عليها في خاتمة النص. أما في المتن فأيا كانت المنهجية المستعملة فإن السؤال يظل مصدر المعرفة. لذا فإن ترتيب الكاتب لموضوعات النص وأفكاره يعتمد بشكل كبير على إجادته لطرح الأسئلة في المكان المناسب لها والاستعداد للإجابة عليها. أما لماذا؟: فلأن تكرار طرح الأسئلة يفيد في (1) إثارة الفضول وفي (2) كشف التناقضات وفي (3) إضاءة الجوانب الخفية في الموضوع. وفي مثل هذه الحالة فقد تحمل هذه الأسئلة رسالة معينة توجه القارئ أو الباحث إلى مكامن النقص والغموض في الفكرة موضوع النص بحيث يجري التنبه لها لاحقا كلما تطورت الفكرة أو نضجت. ثمة مسألة مهمة في سياق قوة النص وهي عدم كتابة أية جملة أو معلومة ما لم يكن الكاتب على ثقة بصحة محتواها. لكن المعلومات ذات الطابع الإجمالي (صحيحة في الإجمال ولكن بلا تفاصيل دقيقة) غالبا ما يلجأ الكتاب إلى استعمال عبارات احتمالية في توظيفها في النص، ويمكن أن يلجأ الكاتب في التعبير عنها بصيغة سؤال دون أن ينسبها لأي مصدر كان. أما الشق الآخر من قوة النص فيتعلق بقدرة الكاتب على الإقناع. وهذه لا تأتي بكثرة الشهادات ولا الأسانيد ولا بقوة الحجج فقط بل بصراحة الكاتب وأمانته وحياديته فيما يكتب من جهة وما إذا كان يحترم عقول القراء من جهة ثانية، وبعبارة مختصرة تأتي من قوة البيان بدون أية مجاملات أو حسابات أيديولوجية، فهي الحقيقة .. فمن شاء فليأخذها ومن شاء فليرفضها. بالتأكيد لن يفلت الكاتب من الانتقاد على صراحته سواء في التوصيف أو النقد أو المقارنة أو أية منهجية أخرى يتبعها في كتاباته. ومع ذلك تبقى الصرامة المنهجية والعلمية هي الحصن الحصين للكاتب في مواجهة مختلف ألوان الطيف الفكري. وهي على كل حال حالة طبيعية وليست استثناء. ثمة أمر مهم في تماسك النص وهو الحدس. وهي تقنية منهجية استعملها بكثافة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو. أما لماذا يستعمل هذه التقنية فلأن بورديو يعتقد أن الحدس ينطوي على عناصر تفكير تقع في صميم العقل. وهي بمعنى آخر تعبير عن الذات وعن مستوى الرضا فيها تجاه أي سلوك تقوم به. وعليه فإن ميزة هذه التقنية أنها تمكن الكاتب من مراقبة نصه والتساؤل: هل هو متماسك؟ أم ضعيف؟ ولعل أطرف ما في بعض الكتابات أن أصحابها يقدمون نصا يعتقدون أنه يعبر عن الأفكار التي يرغبون في إخراجها فيكون ما في عقولهم شيء وما كتبوه حقيقة شيء آخر، ولما تناقشهم فيما كتبوه يقولون لك العبارة الشهيرة الرتيبة: أنا أقصد كذا وكذا! وكأنهم يكتبون لذواتهم متناسين أن هناك قراء يطلعون على ما يكتبون ليسوا مستعدين لمتابعتهم طالما أصروا على هذا النوع من الكتابة. هؤلاء، ومنهم محسوبون على كبار الكتاب، يقعوا في هذا الخطأ عن جهل أو عن غير قصد لأنهم لم يعتادوا إخضاع نصوصهم للتحكيم الذاتي أو الحدس، وركنوا إلى مكانتهم. عقبات في النص (4) لغة النص تعتبر لغة النص أحد أهم العناصر الجاذبة فيه. وليست المشكلة التي نطرحها هنا تتصل بالأسلوب إن كان أدبيا أو علميا، شعبيا أو نخبويا، فلكل صحيفة كتابها ولكل كاتب أسلوبه وجمهوره. لكن المشكلة تكمن في التقيد بضوابط اللغة النحوية والصرفية والتعبيرية وفي تراكيب الجمل ونوعيتها من حيث الطول والقصر ومدى تمتعها بشحنات إعلامية جذابة وممتعة. والأكيد أن سلامة الإملاء تعني سلامة النص، على أن الأخطاء الإملائية تهون، رغم إساءتها للنص، في مقابل الحقيقة المرة التي تجعل من بعض النصوص عالة على القارئ وهو يفتش عن جوهر النص أو عن باقي جملة انتهى النص دون أن يجدها. لذا من الضروري الالتزام بالجانب اللغوي وهو يحسم بأن: · كل جملة اسمية من اللازم أن يكون لها خبر وإلا فالنص ناقص وبلا فائدة ناهيك عن أن تكون له أية جاذبية أو متعة. · وكل جملة تبتدئ بأداة شرط ينبغي أن يكون لها جوابه، · وكل جملة قول يجب أن يكون لها بداية ونهاية، · وكل جملة فعلية يجب أن تكتمل وتنتهي بنقطة، · وكل جملة اعتراضية تثقل النص وتعيقه يجب التخلص منها، · وكل فقرة ينبغي أن تكون قصيرة مرتبطة بما قبلها وتقدم إضافة لما سبقها. وعليه فليس كافيا أن يتمتع الكاتب بلغة سليمة وقدرة على التعبير ما لم يحسن استخدام اللغة ويتقيد بلوازمها وينقاد لشروطها مرغما. فحتى أولئك الذين يجيدون الكتابة تراهم يقعون في أخطاء فادحة في استخدامهم لحروف الجر أو للمتممات اللغوية في النص كأدوات الوصل وحروف العطف وأسماء التفضيل وغيرها، ويتقاعسون حتى عن الاهتمام بعلامات الترقيم والتوقف بحيث يبدو النص مختنقا تارة أو هاويا في واد سحيق تارة أخرى. وبعض هذه الأخطاء تقلب المعنى رأسا على عقب وتضيع النص وجواهره. وللعلم فإن أول تقييم للكاتب دائما ينطلق من اللغة. فمن منا لم يسمع بأن كاتب ما لغته جيدة وذاك سقيمة؟ أما لماذا التركيز على اللغة فلأنها الأداة التي نقرأ ونتعلم ونحلم ونأكل ونشرب بها، وهي التي بواسطتها نبني تصورنا للحياة، وهي وسيلتنا للتفاهم والتطور والعلم والمعرفة، وهي (العربية بالذات) لغة القرآن والوحي، وهي اللغة التي تتسع لكل موجودات الجنة حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فهل يمكن لأية لغة أن تبدع مثلما هي اللغة العربية؟ وهل يصح أن تهون علينا كما هو حالها الآن؟ بعض وسائل الإعلام وأكثرها ما زالت تصر على تعيين أساتذة لغة عربية مهمتهم التصحيح اللغوي لنصوص الكتاب، بل أنها توظف كتَابا أو مذيعين تخرجوا من قسم اللغة العربية وليس من الصحافة. وهي محقة في ذلك خاصة وأن الصحفي من الضروري أن يكون ملما باللغة وقادرا على التحدث بها بطلاقة والكتابة بسلاسة. لكن، في المقابل، ليس شرطا أن يكون خريج الصحافة عالما باللغة بقدر ما هو ملزَم بأن يكون ملما بأساسياتها في الكتابة وإلا ستفقد نصوصه بريقها. ولا ريب أن النص السقيم لغويا هو بالضرورة سقيم موضوعيا. الجمل الاعتراضية أحسب أن كثيرا ممن صنفوا من كبار الكتاب فشلوا فشلا ذريعا في إثارة اهتمام القارئ أو دفعه إلى متابعة نصوصهم بانتظام ليس لأنهم محدودي الاطلاع أو أن كتاباتهم ذات لون معين يستهدف جمهورا بعينه، بل لأن أسلوبهم يبعث على الملل والضجر وهم يحاولون حشو مقالاتهم بأقصى قدر من المعلومات والتحليلات في حيز ضيق. فتجدهم مثلا يكثرون من التشويش على نسق النص عبر الجمل الاعتراضية. فلا يكاد يكتب جملة أو جملتين إلا وتراه يعترضها بنص يسبب نفورا للقارئ وهو يبحث عن جوهر النص والأفكار الواردة فيه فلا يجدها إلا بعد عناء طويل وكان المشكلة في اللغة وليس في الكاتب. إذن ينبغي بداية تجنب اعتراض النص، فليس من المعقول أن نكتب نصا ثلثه جملا اعتراضية. فمهما كانت أهميتها في توضيح النص إلا أنها تظل جملا قادرة على قطع النص من سياقه وتشتيت أفكاره. على أنه من الأهمية أن نذكر بعض الأمثلة على اعتراض النص من واقع الكتابة الصحفية خاصة أنها تتنوع وليست على شاكلة واحدة: · ثمة جمل اعتراضية توضيحية تنحشر في وسط الجملة أو الفكرة وتأتي ما بين شرطتين (- ......-). وهذه قد تطول وقد تقصر. · جمل اعتراضية إنشائية الطابع ما من وظيفة لها إلا الخلط والإرباك والتخبط الذي يؤدي إلى توهان النص بحيث يخسر تسلسله وتناسقه وحتى أفكاره. هذه الجمل غالبا ما تستعمل بكثرة صيغة ( الحيثيات والينبغيات واليجبيات وأدوات الوصل وهكذا ). ولا شك أن أسلوب الكتابة بهذه الطريقة هو الأسوأ خاصة وأنه يؤدي إلى الاسترسال المذموم، وهو أسلوب يشبه إلى حد كبير جدا شخص ما دخل متاهة معقدة وعجز عن تبين ملامح الخروج منها، وبدلا من التراجع أمعن السير في أزقتها دون حساب إلى أين ستوصله. أو شخص ما ولّى مدبرا من خطر دون أن يلتفت خلفه فقطع مسافة لا تتناسب وحجم الخطر. جمل اعتراضية تكميلية غير محددة المعالم بحيث تبدو جزء من النص وهي ليست كذلك، لكنها تستهدف شرح ما يسبق الفكرة أو ما سيأتي بعدها. ثم يأتي الكاتب بعد أن قطع شوطا طويلا ليقول لقارئه: لنعد إلى مسألة كذا وكذا. جمل اعتراضية تفسيرية تأتي بين معقفين ( ........ ). والفكرة هنا هي محاولة الكاتب الربط بين حدثين أو أكثر في غير الموضع المناسب. فالكاتب يعتقد أن الربط قد يقوي النص، بينما الحقيقة أنه قد يثقله، وقد يضيعه بأن تتغلب الفكرة التابعة على الفكرة المركزية فيضعف النص بدلا من تقويته. كل هذه الجمل الاعتراضية وأمثالها ينبغي التقليل منها وإن أمكن الاستغناء عنها أو التفكير في جعلها جزء من النص ولكن غير اعتراضي. كتب :د. أكرم حجازي - الأردن خاص بموقع الصحفي العربي