من بين المهام الحيوية المطروحة أمام الفريق الحكومي اليوم صهر الاجتهادات القطاعية في إطار التعدد الذي يتسم به التحالف الحكومي، واستثمار هذا التعدد وجعله عامل قوة للتجربة الحكومية. لقد كان للتوقيع على ميثاق الأغلبية قبل توزيع المناصب الوزارية دلالة سياسية كبيرة، وربما كانت الرسالة الرمزية الأكثر وضوحا هي أن قواعد العمل المشترك هي فوق المبادرات الفردية، وأن الحكومة مهما تعددت مكوناتها، إلا أن مخرجاتها ومواقفها في نهاية المطاف لا ينبغي أن تعبر عن أحد أطيافها وإنما يفترض فيها أن تعبر عن هوية الحكومة التي يعكسها التصريح الحكومي. ليس معنى ذلك أن هذه القواعد ستنهي الخلافات، وتمنع حرية المبادرة، وستنمط منهجية الوزراء في الاشتغال. إنما المقصود بها، أن تتحدد الخطوط العريضة للعمل المشترك، وترسم الدوائر والحدود بين ما لا يمكن أن يتم إلا في إطار مشترك، وبين ما يندرج ضمن حرية مبادرة كل وزير على حدة. ليس هناك أدنى شك في أن الحرص على أن تحظى هذه المبادرات بدعم الحكومة بجميع مكوناتها يقوي الانسجام ويمتن التماسك بين مكونات الأغلبية، لكن لا ينبغي أن يصبح الانسجام الحكومي حجة لتعطيل هذه المبادرات أو تأخيرها لاسيما إن كانت تنطلق من العناوين الكبرى التي بنيت عليها التجربة. فكل المبادرات التي تنطلق من تكريس ثقافة الشفافية قد نالت شرعية «الانسجام الحكومي» لحظة التوقيع على ميثاق الأغلبية المحدد لعناوين التجربة. وكذلك المبادرات والإجراءات التي اتخذت لمحاربة الفساد ومحاربة الريع، فما دامت المبادئ التأسيسية للتحالف الحكومي قد حددت هوية الحكومة وأدوارها التاريخية في هذه المرحلة الحاسمة، فإن تقييم هذه المبادرات القطاعية ينبغي أن يتم بناء على هذه المرجعية، لا بناء على مرجعية ضرورة حصول «الانسجام الحكومي» حولها. وما عدا ذلك من المبادرات، مما قد يخالف هذه المرجعية، فإن تقييمه بمعيار «الانسجام الحكومي» مطلوب، بل معالجته ضرورية حتى لا تتعدد المرجعيات، وتضعف قاعدة التحالف الحكومي. إن الوضوح على هذا المستوى يمكن أن يحصن التجربة من بعض الاختلالات التي عرفتها التجارب السياسية السابقة، والتي كثيرا ما تم فيها توظيف «الانسجام الحكومي» كحجة لفرملة بعض الإجراءات المتخذة لمحاربة الفساد، حتى صار تحصين الانسجام الحكومي رهينا بالتستر والتغطية على الفاسدين خاصة إذا كانوا ينتمون إلى بعض مكونات التحالف، وهو ما يجعل الحكومة تتورط في الانتقائية في التعامل مع ملفات الفساد، بل ويدفعها إلى مناقضة مقتضيات الدستور» عندما «تضطر» من أجل المحافظة على «الانسجام الحكومي» إلى التمييز في التعامل مع المواطنين. بكلمة، إذا امتلكت الحكومة القدرة على أن تجعل من اجتماعاتها فضاءا للاتفاق على كل المبادرات والمشاريع بما في ذلك التفاصيل التي تندرج ضمن اختصاصات الوزراء، فهذا، يمكن أن ينهي المشكلة من أصلها. لكن أمام استحالة حصول هذه الصورة المثالية من العمل الحكومي، وفي ظل صعوبة إمكان تصور حصولها، فإن القيم المؤسسة للتحالف الحكومي، وفي مقدمتها الشفافية والحكامة الجيدة ومحاربة الفساد، تبقى المرجعية التي ينبغي اعتمادها والاحتكام إليها لتقييم المبادرات الفردية التي يقدم عليها الوزراء كل في مجال تخصصه.