صعق المغاربة بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم بفاجعة الدارالبيضاء الدامية، وتلاقت مشاعرهم وعواطفهم عن بكرة أبيهم للتنديد بما حصل وعلى اعتباره غريبا عن تربيتهم وأصالتهم وعلى التضامن مع ضحايا هذا العدوان الغادر. لكن إزاء هذه الوحدة الشعورية ووحدة الموقف لجميع الهيئات السياسية ومختلف مكونات المجتمع المغربي يشاء الإعلام العمومي كما عودنا إلا أن يصطاد في الماء العكر وينحو نحو التوظيف السياسي الرخيص لأهداف دفينة لدى بعض نفوس الدوائر الاستئصالية الرسمية والحزبية. الإعلام الغربي والتغطية للعمليات الإرهابية ببلاده: كلنا يذكر كيف تصرف الإعلام الفرنسي خلال تفجيرات 1995 التي هزت فرنسا، حيث كان في مستوى الحدث وجسد وحدة المجتمع بأجمعه، والتحمت النخبة السياسية الفرنسية في مواجهة العدوان على أمنها، وانمحت ظرفيا كل الاختلافات السياسية بين اليمين واليسار. وتوحدت بأجمعها ضد من يمس بأمن وسلامة أراضيهم... ولعله نفس السلوك لاحظناه من طرف النخبة الأمريكية والإعلام الأمريكي عقب أحداث 11 شتنبر 2001، حيث ذابت كل الحساسيات الفكرية والمصالح الاقتصادية وطغت النبرة الوطنية ومصلحة الأمن القومي على كل ما عداه من حسابات سياسوية أو انتخابوية ظرفية. الإعلام العمومي وأحداث الدارالبيضاء، قناة دوزيم نموذجا... نقيض المثالين السابقين، نجد الإعلام العمومي المغربي وخاصة القناة الثانية تتصرف عكس كل ما تقتضيه الأعراف الديمقراطية والتعددية السياسية والمواطنة العالية، إذ راكمت السقطات المهنية الشنيعة ولم ترتفع إلى مستوى الحدث وإلى مرتبة المؤسسة الوطنية المواطنة ترص الصفوف وتدعم الوحدة الوطنية ضد العدوان الغادر، بل نراها تنساق وراء أهدافها الخبيثة وحساباتها الصغيرة القائمة على ضرب الوحدة الوطنية وزرع البلبلة بين مختلف الشرائح والأطياف الفكرية والسياسية ببلادنا والسقوط في أحضان الحزبية الضيقة لبعض مسيريها والاستئصالية المقيتة للمشرفين عليها. إن حديثنا عن القناة الثانية (دوزيم) الذي سيتناول بالرصد والمتابعة ما بعد أحداث الدارالبيضاء سينصب على إدارتها الحالية، التي أسقطت في ظرفية معروفة من طرف أجهزة بعيدة كل البعد عن الحقل الإعلامي، وبالتالي فإننا لا نبخس بأي حال كفاءات صحافية عديدة بالقناة، نعرف أنها إما مكبلة أو مهمشة بفعل قيامها بمبادرات إعلامية منفتحة جريئة لم ترق للإدارة المتنفذة ولأولياء نعمتها. وهكذا، وغداة الحدث الشنيع بالدارالبيضاء، كان من الطبيعي والبديهي أن تقوم القناة باستجماع ردود فعل الشارع المغربي وكافة مكوناته الجمعوية والسياسية، لكن إدارة دوزيم الحالية عمدت إلى القيام بتغطية انتقائية وموجهة بطرف خفي لأهداف لم تعد خافية. يوم 17/5/2003، عمدت إدارة دوزيم في نشرتها الزوالية إلى بث تصريحات لممثلي الأحزاب الرئيسية بالمغرب، واستثنت عمدا القوة السياسية الثالثة بالبلاد وأعني بذلك حزب العدالة والتنمية من حقه في التعبير عن رأيها في جرائم الدارالبيضاء، وحسبنا الأمر في البداية ناجم عن "أعذار تقنية"، لكننا نجدها تصر في نشرتها المسائية على نفس النهج الإقصائي إذ قامت بتوسيع نطاق استجلاء آراء السياسيين، وبعضهم غير معروف أو لم يحز على أي صدى شعبي في الانتخابات الأخيرة، في الوقت نفسه عمدت على تهميش رأي حزب العدالة والتنمية ثم أعادت بث تصريحات ممثلي باقي الأحزاب الرئيسية التي سبق أن قدمتها زوال ذلك اليوم مع الحرص على احترام توضيب (مونتاج) معين لتلك الآراء لتختتم بتصريح غير برئ لخالد الناصري عن حزب التقدم والاشتراكية مليء بالألغام السياسية معتمد على التعميم وإلقاء ظلال الريبة والفرقة وصولا لتوظيف انتخابوي للظرف الأليم الحالي. إدارة دوزيم... من إقصاء لحزب العدالة والتنمية إلى التحريض عليه منذ اليوم التالي للأحداث الأليمة بدأت تتضح معالم الاستراتيجية الإعلامية والسياسية لإدارة دوزيم في التعامل مع هذا الحدث الخطير، وهي إن كانت تظهر بأنها استمرارية لما نهجت عليه سابقا إلا أنها قد أضافت عليها بعض الرتوشات الظرفية لاستجداء بعض أجواء اللحظة لأهداف خبيثة مستقبلية، ويمكن استجلاء بعض تلك المعالم المحكمة الحلقات المتشابكة فيما بينها، وذلك فيما يلي: 1 الاستمرار في إقصاء أي دور لعلماء الأمة أو للحركة الإسلامية كإحدى المكونات الفاعلية والحاضرة بقوة في المجتمع المغربي، وكذا حرمان بعض ممثلي الأمة وخاصة حزب العدالة والتنمية من حقهم الطبيعي، وليس ذلك منة من أحد، في التواصل مع الشعب. 2 توظيف غير بريء لعواطف أسر الضحايا من خلال المبالغة في تجييش المشاعر عبر التركيز على آلام أسر الضحايا وأصدقائهم في محاولة لاقتناص بعض التصريحات العفوية الناجمة عن حرقة مفهومة للفراق الصعب مع أحبتهم، رغبة منها في توظيفها وتوجيهها وتوضيبها لأهداف رخيصة. موازاة مع هذا التركيز العاطفي المبالغ فيه، هناك تغييب الجانب التحليلي لفهم الحدث، كيف؟ ولماذا؟ ومن؟ إذ كانت الفرصة مواتية لفتح حوار مجتمع شامل غيرإقصائي بوعي المجتمع، بما حوله ويعبئه للتحديات الحقيقية. 3 تكثيف ظلال الارتياب والشك على مسار الأحداث بتمطيط حالة اللاأخبار، تذكرنا بفترة ما بعد انتخابات 73 شتنبر، أو إيراد القناة لأخبار مبتورة وقصاصات جرائد ذات حظوة لديها تستفيد من "تسريبات" أمنية مدروسة تغذي حالة الشائعات والتلميحات وتخدم جهات استئصالية رسمية وحزبية تتاجر في دماء وآلام الضحايا. 4 تهييء الرأي العام الوطني لضربة أمنية كبرى، ولتمرير مشروع قانون الإرهاب السيء الذكر الذي أجمع الكل على أنه ردة قانونية وحقوقية، والذي انتهزت الحكومة الحالية الظرفية العصيبة لإعادة طرحه مجددا على نواب الأمة. وموازاة مع هذه الاستراتيجية الخبيثة لإدارة دوزيم، انتقلت هذه الأخيرة من محاولاتها إقصاء أي دور لحزب العدالة والتنمية من حقه في التواصل السياسي والإعلامي مع المواطنين إلى دور التحريض عليه علانية. وهكذا، وكما أشرنا آنفا فبعد أن غيبت صوته ورأيه الصريح المندد بالأحداث الإجرامية الأخيرة، وسوقت لآراء منافسيه السياسيين في أكثر من مناسبة إخبارية، ومن ذلك تغطيتها الموسعة لتظاهرتي الرباطوالدارالبيضاء مساء السبت 17/5، وإفساحها المجال لمنظميها للكلمة والرأي من وحي المناسبة، غير أن نفس الإدارة تعاملت بالنقيض من ذلك مع التظاهرة الشعبية التي نظمتها فصائل التيار الإسلامي بالمغرب ومن بينها حزب العدالة والتنمية مساء الأحد 18/5 للتنديد بالأحداث الإجرامية بالدارالبيضاء، إذ عمدت إدارة دوزيم على "تغطية" هذا الحدث الإعلامي بشكل لا مهني مفضوح يؤكد حقيقة عقلية الإدارة المتنفذة لهذه القناة العمومية التي تمول من أمول عامة الشعب، حيث أنها لم تكتف بحرمان ممثلي الأطراف المنظمة للوقفة الاحتجاجية أو للمواطنين المشاركين بها من الكلمة على منوال ما قامت به خلال الوقفة السابقة بل عمدت على تحويل التركيز على تغطية الوقفة الحدث إلى التركيز على حديث هامشي مفتعل وبشكل مضخم بحجة الدفاع عن حرية التعبير للصحافيين، في سابقة لا مهنية خطيرة تستهدف حزبا وطنيا دون إعطائه حق الرد والتوضيح الذي تضمنه كل القوانين والأعراف الديمقراطية والإعلامية، وذلك حين ادعت القناة أن الصحافية نرجس الرغاي قد تعرضت "لهجوم" من طرف أطر حزب العدالة والتنمية، لم ينفعها منه إلا "تدخل" صحافيين أبطال "افتكوا" الصحافية المدعية من "المتظاهرين"، للدلالة على "حكايتها" المفتعلة هاته قامت بإيراد شهادة المدعية التي تباكت على حرية التعبير رأيها لوحدها ولأمثالها بطبيعة الحال وأردفتها بشهادة صحفي من جريدة "الاتحاد الاشتراكي" وآخر من "بيان اليوم" لم يدع الفرصة تمر دون أن يبث حقده الدفين علانية على حزب العدالة والتنمية كان خاتمة هذا الريبورتاج العجيب، الذي أغفل بشكل فاضح ولا مهني شهادة المدعى عليه موضوع الحدث الأصلي (الوقفة المنددة بالإرهاب) أو الحدث الفرعي (الحادث الهامشي المفتعل) كان من شأنها تنوير المشاهد بحقيقة الموقف المخالف لما صرحت به الصحافية المدعية. ونقف هنا ولنتساءل مع القارئ الكريم: منذ متى وإدارة دوزيم الحالية مهووسة بالدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وهي التي جعلتها منحة للمرضيين عندها أو لدى أولياء نعمتها، ومحنة على كل من خالفهما؟ لماذا تجاهلت محنة الصحافي علي لمرابط، الذي يخوض إضرابا عن الطعام دفاعا عن حقه البسيط في التعبير عن آرائه؟ لماذا تجاهلت قضية أحمد ويحمان لاسترداد حقوقه الصحافية (وغير هذين المثالين كثير لا سبيل الآن لاستقصاء عددهم). لماذا تجاهلت دوزيم سابقا قضية الصحافية المدعية نرجس عندما وجه لها سابقا مصطفى السحيمي المحلل الإعلامي السابق بالقناة إهانة غير لائقة... ولماذا انتفضت اليوم انتصارا ودفاعا عن نفس الصحافية المدعية؟... لعل الإجابة عن هذا التساؤل الأخير تكمن في الأمرين التاليين: الصداقة الحميمية أو لنسميها الزبونية الصحافية التي تجمع الصحافية المدعية وإدارة دوزيم الحالية وهو الأمر غير المتوفر في الحالات الأخرى الآنفة الذكر على سبيل المثال. انتماء هذين الطرفين إلى مجموعة من الصحافيين المنتفعين المعروفين على الساحة الإعلامية الوطنية، بأصحاب الحظوة والقربى لبعض الأجهزة الرسمية ذات الميول الاستئصالية التي تستعملهم كقنوات دائمة لتمرير بعض "تسريباتها" أو لجس نبض الرأي العام الوطني في قضايا ساخنة تهم تلك الدوائر. وبالتالي، فإذا عرف السبب، عرفنا لماذا هذه الغيرة الصحافية الجديدة التي أصابت إدارة دوزيم الحالية!! إقصاء ممنهج لطرف وتسويق انتخابوي فاضح لطرف سياسي آخر سيرا على النهج المعادي للتيار الإسلامي عموما وحزب العدالة والتنمية خصوصا في سياق الأحداث الدامية الأخيرة تمادت إدارة دوزيم في سقطاتها الإعلامية بمحاولتها التوجيه الصارخ في مسار العمل السياسي العام وذلك بتحيزها الفاضح كقناة عمومية لفائدة طرف حزبي ومعاداة طرف آخر، ضدا على كل الأعراف الديمقراطية. وهكذا فقد قامت إدارة دوزيم مساء الإثنين 19/5 بتغطية زيارة تضامنية، لمن قدمته القناة بصفته أحد نواب الدارالبيضاء، والذي لم يكن سوى النائب خالد عليوة وعرضته في جلسة "حميمية" مع بعض أسر الضحايا... وهي مبادرة قد تكون طبيعية وعادية وغير ملفتة للانتباه، لو حظيت بهذه الميزة باقي مبادرات نواب الدارالبيضاء، إلا أن ما يفضح خطورتها هو كون القاصي والداني يعلم أن دوائر معينة تحاول تسويق النائب خالد عليوة كعمدة لمدينة الدارالبيضاء خلال الانتخابات الجماعية القادمة!! ألم أقل لكم ابحثوا دائما عن سبب غير إعلامي بالطبع ليبطل عجب تغطية إدارة دوزيم. هذا التسويق الانتخابوي الرخيص، يقابله إصرار على التعتيم الإعلامي على مبادرات حزب العدالة والتنمية ومن ذلك قيام الأمانة العامة للحزب بزيارة مواقع الأحداث الإجرامية؛ حدث لم يستأهل في نظر القناة التسجيل والإعلان أو بحثا عن سبب منعهم للقيام بذلك الواجب السياسي. وآخرا وليس أخيرا، وفي نطاق تغطيتها لأخبار انعقاد لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب يوم الإثنين 91/5، بمبادرة من الحكومة التي انتهزت هذا الظرف العصيب لتمرير مشروع قانون الإرهاب، حيث أن التقليد الصحافي المتعارف عليه للقناتين العموميتين يقوم على تسجيل تصريح لرئيس اللجنة لتقديم ملخص لأشغال اللجنة، والحالة هاته أن رئيس هذه اللجنة سابقة الذكر هو الأستاذ عبد الله بها، نائب من فريق حزب العدالة والتنمية، فكان قرار إدارة دوزيم بأن تخرق هذا التقليد وتعوضه بنائبين آخرين للإشادة بهذا المشروع وبتعديلات الحكومة... لقد كان ينقص القناة سيرا على نهجها الإقصائي خلال تقديمها صور لاجتماع اللجنة، ترميز صورة الأستاذ عبد الله بها وإن كان يجلس بجانب الوزير بوزبع!! ربما قد يكون هذا الإجراء خطوة لاحقة لهذه الإدارة الوطنية!! خاتمة: إن متابعة الخط التحريري لإدارة دوزيم الحالية يؤكد أنها أصبحت بوقا لدوائر استئصالية رسمية وحزبية حاقدة وأنها لم تعد تخضع لتقاليد وأعراف القناة العمومية التي تحرص على وحدة المجتمع وتكافؤ الفرص لكل أطراف المجتمع وأطيافه. لقد شكلت أحداث الدارالبيضاء الدامية امتحانا صعبا لإعلامنا العمومي... ساهم في فضح دوره الخطير في تكسير الوحدة الوطنية وتفتيت الصف الوطني خدمة لأهداف حزبية ضيقة أو أحقاد مستوردة، ورأينا بأنها لم تكتف بدور التهميش لمكونات وطنية وازنة، بل إنها وضعت نفسها وهي مؤسسة عمومية يفترض فيها الحياد كطرف محرض على طرف سياسي رئيسي ومسوقة لطرف سياسي آخر... إن هذا الانحدار السياسي الخطير لهذا الجهاز الإعلامي العمومي، يقتضي من كافة هيئات المجتمع المغربي بجميع حساسياته وقفة جادة لمعالجة هاته الانحرافات التي قد تجلب فتنة وبلبلة اجتماعية وسياسية تستفيد منها جهات عدة تحول دون إخراج النصوص المنظمة للقطاع السمعي البصري وتفعيل أجهزته الرقابية التي تضمن التعددية السياسية والفكرية وتكافؤ الفرص وتحارب الزبونية والاحتكار. محمد الصنهاجي