قال تعالى: }أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{(العنكبوت: 45) إن الصلاة تختلف عن غيرها من الفرائض والشعائر، فلها مقام خاص عند الله، ولها منزلة عالية الاعتبار عند الرحمان، وما ذلك إلا لأن الصلاة جمعت أسرار العبادة كلها، وزادت عليها بزوائد عظيمة، وهذه بعض من أسرارها العظيمة: الدعاء هو أهم عنصر في الصلاة إن أول ما يستوقفنا في موضوع الصلاة هو المعنى اللغوي لهذه الفريضة، فالصلاة في اللغة تعني «الدعاء»، و»الدعاء» أهم عنصر في الصلاة حيث نجده حاضرا في جل أركانها، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الدعاء هو العبادة»، فحصر العبادة التي من أجلها خُلق الجن والإنس -لقوله تعالى: }وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون{ (الذاريات: 56) في الدعاء. وفي رواية أخرى قال عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة». وهي رواية تزيد هذا التخصيص قوة، لأن المخ أعظم ما في الجسد، وعليه تتوقف حركته، والمخ أصل العظام التي عليها يقوم الجسد، فكان إذاً تسمية هذه الفريضة ب»الصلاة» -وهي في اللغة بمعنى الدعاء- أمرا يستدعي التمعن والتدبر. وإذا نظرنا إلى حقيقة الدعاء نجده ذلك الشيء الذي يعبر حقيقة عن مقام الإنسان وعن مقام خالقه معا، فهو الصورة التي تُظهر لنا مقام العبودية في أوضح صورها، وتُظهر لنا مقام الألوهية في أعلى معانيها، لأن الدعاء يقتضي طرفين: طرف يتضرع ويطلب حاجته، وطرف آخر هو أهل لهذا التضرع وأهل لأن يُطلب وهو في الوقت نفسه غني عن الطلب وغير مفتقر إلى شيء. وهذا هو ما يعبر عنه الدعاء، فالإنسان هو ذاك الطرف المفتقر والمتضرع، والله تعالى هو المطلوب الغني. وبالدعاء يظهر لنا الفقر المطلق للعبد إلى الله تعالى، وبه أيضا يظهر الغنى المطلق للخالق عز وجل، وذلك مصداقا لقوله تعالى: }يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد{ (فاطر: 15) والصلاة قد جمعت بين الدعاء بمعنى «الطلب»، وهو أن يطلب العبد من الله حاجته صراحة، وجمعت بين الدعاء بمعنى «الثناء»، وهو أن يثني العبد على الله بما هو أهله دون أن يصرح بحاجته، بل يُعرّض بحاجته في الثناء، ولذلك قيل: «الثناء دعاء». فالعبد عندما يسبح الله تعالى بقوله: «سبحان الله الغني» فإنه يعرّض بحاجته، ويذكر ضمْناً أنه فقير إلى غِنى الله تعالى، وهذا دعاء. وهناك أصل لغوي آخر للصلاة يذكره أهل اللغة، ولا يتعارض مع الأصل الأول «الدعاء»؛ وهو أن الصلاة سُميت بذلك لأنها صلة بين العبد وربه. فهي إذاً الرابط بين العبد وسيده، أي: أنها الوسيلة والطريق إلى الله، والعبد إذا فقد الصلة بسيده هلك، وكم من عبد هلك ما أغناه ما ملك. وصدق القائل: لولاك يا ربي هلك * كل نبي وملك * أنت له حيث سلك وهذا سر عظيم من أسرار الدعاء الذي هو أهم عنصر في الصلاة. الصلاة والقرآن من أسرار الصلاة أنها جمعت بين أمور عظيمة افترقت في غيرها من الشعائر الأخرى، فإضافة إلى الدعاء الذي هو أهم عنصر حاضر في الصلاة؛ نجد أيضا قراءة القرآن. والقرآن هو كلام الله تعالى الوحيد الموجود في الدنيا، وليس هناك كلام يُنسب إلى الله تعالى غيره، وحتى لو بقي شيء من كلام الله تعالى في الكتب التي أُنزلت على الأنبياء السابقين فإنه لا يُعد كلامَ الله تعالى، لأن هذه الكتب -إضافة لاحتمال دخول التحريف إليها- لم تبق على أصلها اللغوي الذي نزلت به على أصحابها عليهم السلام، فلسان موسى وعيسى عليهما السلام لا يوافق اللسان الذي كُتبت به التوراة والإنجيل بشهادة اليهود والنصارى أنفسهم. فتحصل لنا إذاً أن الوثيقة الوحيدة التي تتضمن كلام الله تعالى لفظا ومعنى هو القرآن وحده. والصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء من القرآن لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب». فقراءة كلام الله تعالى فرض في الصلاة وليس فرضا في غيرها من العبادات، وقراءته أحد أركان الصلاة التي تبطل بدونه كما اتفقت عليه جميع مذاهب المسلمين. الصلاة مناجاة إن الصلاة اشتملت على سر عظيم لا ينتبه إليه الكثير من المسلمين، وذلك أن المصلي عندما يشرع في الصلاة ويكبر تكبيرة الإحرام فإنه يدخل إلى مقام المناجاة والتخاطب، وبتكبيرة الإحرام يحرم عليه فعل شيء إلا الصلاة، ولذلك سُميت «تكبيرة الإحرام»، أي أنها تحرّم على المصلي فعل شيء ليس من جنس الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مفتاح الصلاة الوضوء وتحريمها التكبير وتحليلها السلام». وقد قيل: إذا أردت أن يناجيك ربك فاقرأ القرآن، وإذا أردت أن تناجيه فادخل في الصلاة. لأن القارئ للقرآن يخاطبه الله تعالى بكلامه القديم الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي يدخل في الصلاة يدخل إلى حمى ربه تعالى. والصلاة قد جمعت بين الأمرين معا: فيها يخاطب الله تعالى العبد وفيها يناجي العبدُ ربه، فتكون الصلاة قد جمعت هذا السر العظيم الذي تفرق في غيرها. الصلاة لجميع الأمم إن من أسرار الصلاة العظيمة أنها شريعة الله تعالى لجميع الأمم، وهي الركن الأعظم الذي فرضه الله تعالى على جميع الأنبياء والرسل من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ففي القرآن الكريم نقف عند آيات كثيرة تظهر لنا حضور الصلاة عند الأنبياء وأقوامهم، ومن ذلك: أ- قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: }ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم{ (إبراهيم: 37)، وعلى لسانه أيضا يذكر لنا القرآن الكريم قوله: }رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي{ (إبراهيم: 40). ب- قوله تعالى مخاطبا موسى عليه السلام: }وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة{ (يونس: 87). ج- قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم: }وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا{ (مريم: 31). د- قوله تعالى مخاطبا بني إسرائيل من قوم موسى: }وقولوا للناس حسنا، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة{ (البقرة:83) ه- وأختم هذه الأمثلة بما قرره الله تعالى أنْ جعل جميع الأنبياء هداة داعين إلى طريق الله تعالى وأمرهم بإقامة الصلاة حيث قال تعالى بعد أن تكلم عن مجموعة من الأنبياء فيهم إبراهيم ونوح ولوط عليهم السلام:}وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا، وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين{ (الأنبياء: 73).هذا بعض يسير من آيات القرآن الناطقة بوجوب الصلاة على جميع الأمم، وما ذلك إلا لعظمتها واحتوائها على الأسرار العظيمة. وقد زادها تعظيما وشرفا ورفعة أن فرضها الله تعالى فوق سبع سموات حيث ينتهي علم الخلائق وتختفي ملامح الأسرار، وهي الشعيرة الوحيدة التي فُرضت في غير الأرض، وكان مقامها ما فوق سدرة المنتهى حيث تنتهي جميع الأسرار. الصلاة والسجود سر آخر من أسرار الصلاة لا نجده في غيرها من الشعائر وهو «السجود»، والسجود وضع أشرف ما في جسد الإنسان (الوجه) على الأرض، وهو رمز للذّلّة والحقارة، فإذا كان لغير الخالق يكون قمة الذل والهوان، ولا يوازيه فعل آخر في الحقارة، ولذلك حرم الإسلام السجود لغير الله، وقد قال عليه السلام: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». لأن السجود رمز الذل والخضوع، ولا يكون ذلك إلا للخالق، فإذا كان للخالق كان رفعة وسموا، لأنه يستحق ذلك ولا يستحقه غيره. وقد كانت العرب تأبى أن تسجد أنفة من هذا الفعل، ومما يدل على هذا ما يحكيه لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «ظهر علينا أبو طالب، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نصلي ببطن نخلة، فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: ما بالذي تصنعان بأس، أو بالذي تقولان بأس، ولكن والله لا تعلوني إستي أبدا». فقد عظُم في نفس أبي طالب أن يسجد فينحني وجهه إلى الأرض. وإذا كان السجود بهذا المعنى فإن وجوده في الصلاة ليدل على قمة الذل والخضوع لله تعالى، فهو الفعل الذي يعبر عن حقيقة الإنسان، رغم ما قد يصل إليه من جاه وسلطان، وعلو واستطال، فإنه يخضع بين يدي ربه الرحمان، فيضع جبهته التي هي أشرف وأعلى شيء في جسمه على التراب الحقير المهين الذي تدوسه الأقدام، علامة على أن مكان الإنسان مهما بلغ من العلو والمجد فإنه يبقى عبدا حقيرا أمام خالقه. وهذا هو السر الأعظم من غاية خلق الإنسان: «العبودية». فهذه جملة من أسرار الصلاة، وجلها بل كلها فقدناها اليوم، ولم نعد نلقي لها بالا، حتى ما عاد القلب يخشع لله تعالى في الصلاة، وكيف يخشع وهوغافل عن هذه الأسرار العظيمة ؟!