شكرا لبوش وشارون على إرهابهما الدولي ضد العالم العربي والإسلامي : ومع ذلك كله، فقد أعطى شارون وبوش للعالم العربي والإسلامي درسا قاسيا كانا في أشد الحاجة إليه، ويمثل دعما قويا لمبادئ ومكونات "الصحوة الإسلامية العالمية" المعاصرة، وفي نفس الوقت يعبر عن "بداية النهاية" ل "الإفساد الأول" لبني إسرائيل في فلسطين، وإرهاصا بقرب "نهاية إسرائيل" التي ستقترن مع "إفسادها الثاني" الذي سينفجر تعبيرا عن حالة "المنهزم اليائس" الذي يضرب عدوه بكل قوته، لينتحر بعده، تبعا للمثل العربي " : "بعدي الطوفان" يا شهداء وشهيدات فلسطين وأفغانستان والشيشان. يا أبطال الإسلام ومجددي دينه في عصر العدوان. يا شعب فلسطين المجاهد الصامد في أرض الأنبياء.يا أطفال الحجارة ملائكة السماء في جنة الشهداء.أنتم والله عزاؤنا في (العرب) القاعدين المتخلفين.حجارتكم عند الله أشد فتكا من صواريخ الظالمين. بل هي شهادة البشرية، وحجتها عبر القرون بسقوط "حضارة" الإرهابيين الغربيين المستكبرين.مصاصي دماء الشعوب المستضعفة باسم حقوق الإنسان. دمروا حقوق الله في الأرض، ورفعوا راية الشيطان البلاغ القرآني بقيام إسرائيل، وإفسادها في الأرض مرتين مع العلو الكبير، وانتصار المسلمين عليها في الإفساد الثاني. من أسرار القرآن ومعجزاته التي لم تتضح ولم تنكشف للمفسرين خلال القرون السابقة كلها، وكان لا بد ان تمضي أربعة عشر قرنا، وتتطور أ حداث التاريخ المعاصرة، وتظهر إسرائيل كدولة عنصرية مغتصبة ومفسدة في أرض فلسطين، لتنكشف لنا اليوم بوضوح أسرارا الآيات الأولى في سورة الإسراء. فالآية الأولى في هذه السورة، وقد ذكرناها سابقا، تبدأ بالحديث عن معجزة الإسراء، وقدسية المسجد الأقصى الذي بارك الله ما حوله، والتقدير الذي خص الله به النبي (ص) حيث اطلعه على أسرار هذا الكون وآيات الله الكبرى. والآية الثانية والثالثة قوله تعالى : (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل الأ تتخذوا من دوني وكبلا، ذرية من حملنا مع نوح، إنه كان عبدا شكورا). هاتان الآيتان تنتقلان من الحديث عن المسجد المذكور، الذي هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله لبني إسرائيل ثم أخرجهم منها، إلى الحديث عن كتاب موسى، التوراة، الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل، وما اشتمل عليه من إنذار لهم بأن لا يتخذوا ربا من دون الله يكلون إليه أمورهم، مع تذكيرهم بجدهم الأكبر نوح، العبد الشكور، وآبائهم الأولين المؤمنين الذين حملوا معه في السفينة. ومن الآية الرابعة إلى الثامنة ينتهي هذا التسلسل بالحديث عن (فترة مستقبلية) من حياة بني إسرائيل، يقول عنها الشهيد سيد قطب : لم تقع الإشارة لها في القرآن إلا في هذه السورة بقوله تعالى : (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا، ثم رددنا لكم الكرة عليهم، وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا، إن أحسنتم لأنفسكم، وان أسألتم فلها. فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا، عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا، وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). وقد أشار سيد قطب إلى أن كلمة القضاء هنا، لها معنى الإخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم، حسبما وقع في عمله الإلاهي من مآلهم، لا أنه قضاء قهري عليهم، تنشأ عنه أفعالهم، فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء)، فما سيكون، بالقياس إلى علم الله، كائن، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد . وهكذا يكون معنى الآيات الكريمة حسب هذا النسق والترابط البادي في سياقها العام، أن الله تعالى بعدما أشار لمعجزة الإسراء التي خص بها خاتم رسله، أبان بها عن علاقة الرسالة الإسلامية بالمسجد الأقصى، وقدسيته الدينية هو والأرض التي حوله، ذكر بعلاقة رسول سابق على عبده محمد بهذه الأرض، وعلاقة قومه الذين أسكنهم الله بها، هو موسى عليه السلام الذي أتاه الله الكتاب، وجعله هدى لبني إسرائيل الذين هم من ذرية نبيه وعبده نوح أيضا، ولكن بما أن الله تعالى أخبرهم منها بسبب سوء أعمالهم، وكفرهم بالنعم التي انعم عليهم بها، وهذا ما تحدث عنه القرآن بتفصيل في مناسبات أخرى، فقد جاءت الآية الرابعة وما بعدها مخبرة بأحداث لم تقع من بني إسرائيل إلا في عصرنا هذا، ونظرا لما لها من الارتباط الوثيق بالأرض المقدسة هذه، وبالمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وبالمسلمين أتباع الرسول الجديد، فقد أوضحت هذه الآيات المعجزة حرفيا، وبغاية الإيجاز والدقة، أن الله تعالى قضى في سابق عمله المنصوص عليه في كتاب موسى المذكور، أو اوحى لبنى إسرائيل في الثوراة، وهم الذين كانت بدايتهم في هذه الأرض المقدسة على ما ذكرنا، بأن أمرهم سينتهي بالإفساد في هذه الأرض (أرض فلسطين، أو فلسطين والشام، أو فلسطين والشام ومصر، أقوال عند المفسرين القدماء) مرتين فقط مقرونتين بالعلو الكبير، أي بالسيادة السياسية والقوة العسكرية. موعد الإفساد الأول : فإذا جاء موعد المرة الأولى، بعث الله عليكم عبادا له أي من المؤمنين به، ذوي بأس شديد، فجالوا في وسط الديار، لم يقل ديارهم، لأنها مغتصبة وليست لهم، وعاثوا فيها فسادا، وهذا الموعد الذي سبق في علم الله وقضائه انه سيقع استقبالا، لا بد أن يحدث في المكان والزمان حسبما سبق في عمله تعالى، وبعد ذلك سيجعل بني إسرائيل يردون عليهم بهجوم مباغت. و يعيد لهم الدولة عليهم، وسيمدهم بأموال لا حصر لها، وبأبنائهم، أي الذين سيهاجرون إليهم لمضاعفة قوتهم العددية والعسكرية، وسيجعلهم اكثر نفيرا، أي تعبئة وتسلحا للقتال، من عباده المذكورين، ثم يضعهم الله تعالى بعد ذلك تحت مسؤوليتهم الكاملة، وقد وفر لهم إمكانات الدولة المسؤولة عن أعمالها قائلا : إن أحسنتم التصرف، أي في كل ما وفرناه لكم من طاقات وإمكانات، فقد أحسنتم في الحقيقة لأنفسكم، وإن أساتم السلوك أي عدتم لمظالمكم مرة أخرى، فقد أساتم في الحقيقة لأنفسكم قبل غيركم. موعد الإفساد الثاني : وتأتي الآية التالية بعد ذلك لتصف لنا، وبإيجاز بالغ للأحداث اكثر، موعد المرة الثانية التي وصفتها بالآخرة، للتأكد بأنها الثانية والأخيرة، ولا ثالث لهما في حياة بني إسرائيل كلها بنص القرآن الصريح هذا، ونعني بهما إفسادهم في أرض فلسطين المقرون بالسيادة والعلو، لا مجرد الإفساد المطلق. وتسكت الآية في هذه المرة الأخيرة عن ذكر إفساد بني إسرائيل في الأرض اكتفاءا بذكره السابق، لتدخل مباشرة في وصف ما سيحدث لبني إسرائيل، وهو الأهم، من طرف عباده المؤمنين الذين سيسلطون عليهم في هذه المرة الأخيرة، ويذيقونهم من النكال ما يجعل وجوههم تسوء ذلة وهزيمة، وسيدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة (أي في عهد عمر بن الخطاب، وفي هذه إشارة صريحة إلى أن المسجد سيكون في هذه المرة تحت سيطرة بني إسرائيل)، وسيهلكون ويدمرون قواعد عدوهم، ومراكز قوته، تدميرا كاملا وشاملا، ما دام لهم الحكم والغلبة،وتنتهي الآيات بإعطاء الباقين على قيد الحياة من بني إسرائيل الأمل في رحمة الله المتمثلة في وضعهم الجديد كأهل ذمة تحت حماية وأمن الدولة الإسلامية. ومع ذلك، تأتي خاتمة هذه الآيات لتوجه إنذارا إلاهيا أخيرا لبني إسرائيل بأنهم إن حاولوا بعد ذلك العودة إلى الإفساد، ولن يكون وقتئد مقرونا بالعلو الكبير في الأرض، فإن الله سيعود إلى معاقبتهم، وانه جعل جهنم للكافرين من أمثالهم حصيرا، أي، محبسا يحاصرون فيه، فلا يستطيع احد منهم الإفلات منه. رأي المفسرين في شرح الآيات : نعود بعد هذا الشرح الموجز والخالي من أي تأويل وابتعاد عن نص هذه الآيات الكريمة، لنشير إلى أن المفسرين القدماء جميعا ومن تبعهم تقليدا من المعاصرين اعتقدوا أن الإفسادين المذكورين صدرا من بني إسرائيل قبل ظهور الإسلام، إذ لم يتوقع أحد منهم، حتى على سبيل التخيل، إمكانية حدوثهما بعد الإسلام، واليهود على ما هم عليه من تشتت وضعف وذلة، وهكذا اتجهوا في تفاسيرهم للبحث عن فتراث الإفساد في تاريخ اليهود، فقال بعضهم إن المرة الأولى هي مخالفة أحكام التوراة، وانتهاك المحارم، وارتكاب المعاصي، وقتل اشعياء، والثانية قتل زكرياء ويحيى ومحاولة قتلهم لعيسى، وان الله سلط عليهم الآشوريين بقيادة سنحاريب، أو البابليين بقيادة بختنصر، وقيل أرسل إليهم جالوت وقومه فدمرهم، إلى غير ذلك من الأحداث التاريخية التي لا يبدو أن الأوصاف المذكورة في هذه الآيات تنطلق عليها، والغريب ان المفسرين المعاصرين انفسهم، لم يخرجوا عن هذا الاتجاه. تفسيرنا المعاصر والمطابق للأحداث : نحن المسلمين الذين كتب علينا أن نعيش عصر ظهور دولة إسرائيل، نستطيع وحدنا اليوم أن نفهم معنى الآيات المعجزة التي وصفت، منذ أربعة عشر قرنا، ما يحدث اليوم من بني إسرائيل، وما سيحدث غدا من عباد الله المؤمنين، كرد فعل تاريخي، لتدميرهم، ولذلك نقرر أولا ان الإفسادين المذكورين لم يقعا إطلاقا قبل الإسلام وهذه هي حججنا : أدلتنا على أن الإفسادين لم يقعا قبل الإسلام : أولا إن الله تعالى يقول في وصف المرة الأولى أنه سيبعث عليهم عبادا له، والمعروف في البيان القرآني أن الله عندما يضيف كلمة عباد لنفسه تشريفا لهم، لا بد ان يكونوا مؤمنين بالله وحده، ولم يكن كذلك الآشوريون الذين قضوا على مملكة إسرائيل سنة 721ق.م ولا البابليون الذين قضوا على مملكة يهودا، ودمروا الهيكل، وسبوا بني إسرائيل سنة 585ق.م ولا الفارسيون المجوس الذين أحسنوا إليهم وأعادوهم إلى بيت المقدس سنة 538ق.م، ولا الرومان الوثنيون (تنصروا في القرن الرابع الميلادي) الذين هاجموهم مرتين : مرة في عهد الإمبراطور تيطوس الذي دمر أورشليم وأحرق الهيكل سنة 70م، ومرة في عهد الإمبراطور حدريانوس الذي دمر المدينة وغير اسمها إلى إيليا سنة 135م. وشتت سكانها. ثانيا : إن الآية المذكورة تنص على أن الله جعل لبني إسرائيل الكرة على عباده المذكورين، وأمدهم باموال وبنين، وجعلهم اكثر تعبئة واستعدادا للحرب، ولم يثبت في تاريخ بني إسرائيل انهم قاموا بكرة على البابليين أو الفارسيين أو الرومان، أو توفرت لهم الصفات الأخرى، وإنما أشفق عليهم ملك الفرس فأعادهم للديار بعد سبعين عاما. ثالثا إن الآيات المذكورة لا تتحدث عن إفساد بني إسرائيل في الأرض فقط، ولكن الإفساد المقرون بالعلو الكبير جدا في الأرض، ومثل هذا العلو لا يكتسب عادة إلا بشن حروب على اعدائهم، تكون لهم الغلبة عليهم، مع العلم بأنهم كانوا على العكس من ذلك تماما، وكما وصفهمالله تعالى في الآيات التالية : (ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله، ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) (61/البقرة). وقالوا لنبيهم موسى : (فاذهب انت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) (24/المائدة). فهذه الصفات : الجبن والذلة والمسكنة، التي نشأت عنها روح الاعتداء والتآمر والقتل والكفر والعصيان كانت صفاتهم الدائمة، طيلة تاريخهم القديم، أما فترة الإفسادين المذكورين مع العلو الكبير، فهي حالة استثنائية فريدة كما ذكرنا آنفا. رابعا إن صيغة الآية (فإذا جاء وعد أولاهما) تدل على المستقبل كما هو معروف في قواعد اللغة (إذا الشرطية إذا دخلت على الماضي تحوله إلى المستقبل) كما أن الفعل المضارع المؤكد بنون التوكيد في قوله (لتفسدن) يدل على المستقبل ولو كان الغرض الإخبار عن شيء مضى فعلا لعبر الله عنه بما يفيد ذلك كما هو الشأن في موضوعات أخرى. خامسا جاء في الآيات المذكورة ذكر كلمة (المسجد) أي الأقصى وهي تسمية إسلامية اطلقها القرآن على بيت المقدس، ولك يكن يعرف قبل ذلك باسم المسجد، بل باسم المحراب، فلو كان الأمر يتعلق بأحداث وقعت قبل الإسلام لاحتفظت الآية باسمه القديم وقت الأحداث، تبعا للسياق العام، ولأسلوب القرآن المتبع في غير هذه الآية كما في قوله تعالى : (كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا) (37/آل عمران)، قال المفسرون : المراد بالمحراب غرفة عبادتها في بيت المقدس. (فخرج على قومه من المحراب (أي زكرياء) فاوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) (11/مريم). (فنادت الملائكة (أي زكرياء) وهو قائم يصلي في المحراب) (39/آل عمران). اما وقد جاءتنا الآية باسم جديد تماما هو المسجد، لم يعرف إلا بعد ظهور الإسلام، ونصت على أن (عبادة تعالى) الذين سيهاجمون بني إسرائيل في إفسادهم الأول، سيدخلون (المسجد) الأقصى في إفسادهم الثاني، أي أنهم سيعودون للسيطرة على القدس، ودخول اعظم وأقدس مكان فيها وهو المسجد الأقصى لعبادة الله فيه وشكره على نعمة نصره، فقد دل هذا بما لا يحتاج إلى مزيد، بان الأمر يتعلق باحداث ستقع في العصور الإسلامية، ولم تقع قبلها. سادسا جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : (تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم، حتى يقول الحجر يا مسلم : هذا يهودي وراءي فاقتله ). إن هذا الحديث الصحيح الذي أخبر فيه الرسول عليه السلام منذ أربعة عشر قرنا بان اليهود سيشنون حربا على العرب المسلمين تنتهي بتسلط المسلمين عليهم، وإهلاكهم شاملا حتى ينطق الحجر الذي يختفون وراءه، حقيقة او مجازا، لشدة تتبعهم بالقتل، مطالبا هو الآخر بقتلهم، هذا الحديث الصريح الذي يتضمن أيضا معجزة إخبار بغيب لم يتحقق مضمونها إلا في عصرنا هذا، يتطابق في معناه مع ما جاء في آية الإفساد الثاني، ويشرح بوضوح ما نعتقده من أنها تتعلق بأحداث تقع بعد الإسلام لا قبله، وان المقصود من "عباد لنا" هم المسلمون، وبذلك نكون قد اتبعنا طريقة تفسير القرآن بالحديث، فالآية وإن كانت تتضمن تفصيلا لنتائج تسلط المسلمين على اليهود يتعلق بإساءة وجوههم وخروجهم من المسجد، ولكنها تتفق معها في : أ أن اليهود هم الذين سيبدأون قتا المسمين منذ إفسادهم الأول، وهذا ما حدث فعلا منذ 1948، وحتى قبل هذا التاريخ. ب أن نتيجة هذا القتال، في نهاية الأمر، هي انتصار المسلمين عليهم. ج أن هذا الانتصار لن يتم في شكل تصالح أو اعتراف بهم، بل بالتسلط عليهم وإهلاكهم. سابعا وأخيرا فإن برهاننا القاطع على ان الإفساديين والعلوين المذكورين في الآية لم يقعا معا قبل الإسلام، هو أن الآيات المذكورة تنص صراحة على أنهما لن يحدثا إلا مرتين فقط في حياة بني إسرائيل، فإذا قلنا اليوم بأنهما وقعا قبل الإسلام، يكون الإفساد والعلو الكبير في الأرض الذي يشهده العالم كله اليوم من بني إسرائيل هو المرة الثالثة، ويصبح تحديد المرتين في الآيات وكأنه مجرد لغو، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ومثل هذا القول يستحيل صدوره من مسلم إلا عن غفلة وعدم تفكير. ومع ذلك لا يزال علماء معاصرون يكررون التفسير القديم دون أدنى وعي بما يجري في عصرهم. ودون أدنى تفكير في الحجج التي أشرنا إليها. وننتهي من هذا التحليل إلى نتيجة حاسمة في الموضوع، وهي ان الإفساد التاريخي الذي قام به بنو إسرائيل في منتصف هذا القرن في أرض فلسطين والشام ومصر، هو المشار إليه في الآيات المذكورة بالمرة الأولى، وهو الذي تنطبق عليه الأوصاف الواردة فيها، حسبما يبدوا واضحا فيما يلي : أ إفساد بني إسرائيل وعلوهم الكبير في الأرض : إن الإفساد الحالي لبني إسرائيل ليس له نظير في التاريخ كله، ولا يمكن أن يكون صدر من بني إسرائيل قديما ما هو أفظع منه، لأنهم اغتصبوا أرضا برمتها من شعبها، وقتلوا وأحرقوا وعذبوا وطرد وتهذا الشعب من أرضه، وهدموا منازل الباقين منه (20000 منزل منذ 1967 لغاية 1979)، كما خرجوا ودمروا مدنا وقرى من أربعة دول مجاورة لفلسطين وقتلوا وشردوا سكانها، واستعملوا في ذلك أحداث أسلحة الدمار والتخريب التي لم تعرفها البشرية قبل هذا القرن، وتواصلت عمليات هذا الإفساد أكثر من ثلاثين سنة حتى الآن (1979) ولا تزال قائمة، وهي مصحوبة في نفس الوقت بعلو كبير أي بسيادة وقوة ونفوذ سياسي، لا على أرض فلسطين وحدها، ولكن على دول الغرب قاطبة بما فيها الولاياتالمتحدة، ولم ينج من هذا النفوذ الاتحاد السوفياتي والدول التابعة له التي تعترف كلها بإسرائيل وحقها في الوجود. ب دخول جيوش الدول العربية لمقاومتهم : مع بداية بني إسرائيل في إفسادهم بفلسطين، وإعلان دولتهم، قامت سبعة دول عربية بإرسال جيوسها التي توغلت داخل المدن الفلسطينية من عدة جهات لمقاومتهم سنة 1948. وكان بين هذه القوات عدد هام من المجاهدين الفلسطينيين والإخوان المسلمين، كان في الإمكان لقوة إيمانها وشدة بأسها. أن تقضي على القوة الصهيونيو الناشئة، لولا الخيانات والمؤامرات الاستعمارية المعروفة التي لعبت أكبر دور في حماية وبقاء الدويلة الوليدة، ويصدق على الجيوش العربية المذكورة ومن أنظم إليهم من المجاهدين المسلمين، قوله تعالى : (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار). ومن الواضح أن الآية لم تصرح بأن هؤلاء العباد سيقضون على بني إسرائيل في هذه الحملة، الشيء الذي يتطابق تماما مع واقع الأحداث. ج معاودة هجوم بني إسرائيل على المسلمين : بعد بداية هذا الإفساد الأول المتمثل أساسا في اغتصاب الأرض الفلسطينية، وتشريد سكانها، وفشل الحملة الإسلامية المذكورة، قامت إسرائيل بالكر على العرب المسلمين لتشبيت دعائم اغتصابها الأول الذي قام عليه وجودها، وقد تشخصت كرتها هذه في الهجوم الساحق المفاجئ، يوم 5 يونيه 1967 (الاعتداء الثلاثي على مصر بمشاركة إسرائيل سنة 1956 كان خطة غربية للانتقام من تأميم قناة السويسي) الذي الهى العرب العرب عن الاغتصاب الأول، لينشغلوا فقط بمشكل احتلال القدس والضفة الغربية والأراضي العربية الجديدة، ومعاودة إسرائيل الهجوم بهذا العنف، يتطابق مع مدلول قوله تعالى : (ثم رددنا لكم الكرة عليهم)، فقد استعملت كلمة (ثم) للتعبير عن المسافة الزمنية الفاصلة بين بداية الإفساد الأول، ومعاودة الكرة على العرب سنة 1967، وتبلغ 19 سنة، وكلمة (الكرة) من أعظم التعابير إعجازا في هذه الآية، لوصف حالة الهجوم الإسرائيلي المفاجئ، والسريع بالطيران أولا، إذ تتضمن معنى الانقضاض المباغت على غير انتظار وهو ما حدث فعلا. د تدفق الأموال على إسرائيل : أمتن الله على إسرائيل بعد إفسادهم الأول، بتيسير أربع عمليات لصالحهم، تضمن لهم التفوق على عباده المسلمين، الأولى عملية الكرة المفاجئة، والثانية هي إمدادهم بأموال لا حصر لها، والواقع أن إسرائيل تدفقت عليها أموال يهود العالم، وأموال الدول والشركات والأبناك والمؤسسات الاستعمارية كلها، بشكل لا يمكن لأحد من المؤرخين أن يدعي بحدوث مثله لليهود في تاريخهم، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة : (وأمددناكم بأموال)، والتنكير في اللغة يفيد الكثرة وعدم الحصر. ه تدفق الهجرة إلى إسرائيل : تمثل هجرة اليهود من جميع دول العالم، وفي طليعتها الاتحاد السوفياتي، إلى إسرائيل، ثالث عملية وفرها الله لبني إسرائيل في مجابهتهم للمسلمين، فبعد أن كان يهود فلسطين لا يتجاوزون 56000 من مجموع سكان فلسطين العرب البالغ 700.000 نسمة أي 8% سنة 1918، وارتفع هذا العدد إلى 700000 من مجموع 2100000 أي 30% قبل قيام إسرائيل سنة 1948، لأنهم كانوا يستعدون لعملية الإفساد هذه، بعد هذا التاريخ ارتفع عدد اليهود بسبب الهجرة إلى أن أصبح اليوم يبلغ : 3.500.000 أي أنه تضاعف منذ قيام إسرائيل خمس مرات، ولم يحدثنا التاريخ عن وقوع مثل هذه الهجرة لبني إسرائيل إلى فلسطين، وهذا مصداق قوله تعالى : (وأمددناكم بأموال وبنين) أي بأبنائكم المشتتين في الأرض، وهذه الهجرة يعتقد الصهيونيون أنها الضمان الوحيد لبقاء دولتهم واستمرار اغتصابها لفلسطين. و تفوق تعبئة بني إسرائيل على المسلمين : منذ بداية الإفساد الأول احتفظ اليهود بتفوق شامل في التعبئة والتسلح والاستعداد للحرب (بمساندة كاملة ومستمرة للولايات المتحدة والدول الاستعمارية) على دول المواجهة العربية، وقد ظهر هذا التفوق في الحروب التي شنتها إسرائيل على هذه الدول، الشيء الذي يمثل العملية الرابعة التي وفرها الله لتفوق بني إسرائيل، والتي تتطابق مع مضمون قوله تعالى : (وجعلناكم أكثر نفيرا). وصف نتائج الإفساد الثاني : أما الإفساد الثاني فتشير إليه الآيات الكريمة بعد ذلك مباشرة بقوله تعالى : (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيرا)، ويلاحظ أن هذه الآيات تجاوزت وصف الإفساد نفسه، مثلما فعلت في سابقه، لتنتقل مباشرة إلى ذكر النتائج المترتبة عنه لأنها الأهم، وهي كما يلي : 1 الهزيمة المنكرة التي ستحل ببني إسرائيل والتي ستسوء وتسود لهولها وجوههم. 2 اقترانها مباشرة بعودة المسلمين إلى دخول المسجد الأقصى كما دخوله أول مرة، أي في عهد عمر بن الخطاب. 3 ملاحقة المسلمين وتتبعهم لمجرمي بني إسرائيل بأشد أنواع العقوبات طيلة عهد حكمهم وسيادتهم على فلسطين بعد ذلك. 4 بعد خضوع بني إسرائيل لحكم المسلمين وطاعتهم ستشملهم رحمة الله، التي تتمثل في توقف عمليات التدمير التي تستلزمها عادة حالة الحرب، وفي تدابير الأمن والحماية، التي يتضمنها نظام الحكم الإسلامي. لرعاياه من أهل الذمة. 5 كل محاولة جديدة من بني إسرائيل للعودة إلى الإفساد بعد ذلك، ولن تكون أبدا مصحوبة بالعلو في الأرض، سيعاقبون عليها بشدة في الدنيا، وستكون جهنم في الآخرة محبس جميع الكافرين وهم في طليعتهم. الإفساد الثاني لم يحدث بعد : وبناء على اقتران هذه النتائج الموصوفة بالإفساد الثاني لبني إسرائيل يتضح جليا أن هذا الإفساد لم يحدث بعد على أرض فلسطين، ويجب أن نتوقعه طال الزمان او قصر في جيلنا او بعده، والمواقف الأخيرة لإسرائيل تؤكد بأن تمسكهم بالقدس والسيادة على الأراضي المقدسة كلها هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم، ولو أدى الأمر إلى حرب ذرية يشنونها على المسلمين، قد تكون هي الإفساد الثاني الذي يقترن بزوال إسرائيل، وإنجاز وعد الله. الإفسادان هل يقعان في فترة علو واحدة تشملهما ؟ هنا سؤال هام ينبغي الإجابة عليه لتوضيح بعض الغموض وهو : هل سؤال هام ينبغي الإجابة عليه لتوضيح بعض الغموض وهو : هل الإفسادان المذكوران ينفصل أحدهما عن الآخر في الزمن وفي العلو المصاحب لهما ؟ أم سيقعان في فترة علو واحدة تشملها ؟ وبالتأمل في أسرار البيان القرآني المعجز نلاحظ ما يلي : أولا تسلسل واستمرار الوقائع بعد بداية الإفساد الأول دون إشارة تفيد انقطاع صلته بالإفساد الثاني، فالأول يبدأ بقيام إسرائيل، ودخول الجيوش العربية إلى فلسطين وعودتها دون أن تحقق انتصارا ساحقا، ثم يستمر وصف الأحداث الناتجة عنه إلى ان ينتهي بالإفساد الثاني الأشد فظاعة من الأول. ثانيا لم يقل تعالى : وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض ولتعلن علوا كبيرا مرتين، وإنما قال : (لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا)، وهذا يعني بدقة اللغة أن عدد المرتين إنما ينصب على ما قبله وهو وصف الإفساد، أما وصف العلو الكبير فقد خلا من التقييد بهذا العدد لمجيئه بعده، فهو إذن علة واحد يعم الإفسادين. بهذه الإشارات البيانية التي اختص بها الإعجاز القرآني نستطيع أن نجيب عن السؤال السابق مطمئنين بأن الإفسادين المذكورين ينفصل أحدهما عن الآخر في الزمن فقط، ولكنهما يقعان معا في فترة علو كبير واحدة ومستمرة تنتهي بحدوث الإفساد الثاني. ولا بد هنا من التذكير بأن هذه الفترة من العلو هي، كما أشرنا سابقا، مستثناة من الصفة الأبدية القديمة التي عاقب الله بها بني إسرائيل في قوله تعالى : (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله)، ولا تتعارض مع إخباره تعالى بتسليط العذاب عليهم باستمرار في الدنيا بقوله تعالى : (وإذا تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) (167/الأعراف)، لأنهم سينالون جزء إفسادهم المذكورين مضاعفا من العذاب في نهاية هذه الفترة من العلو التي لم تكن إلا امتحانا جديدا من الله لهم، لإقامة الحجة عليهم. حضرات السادة، إن الرغبة التي دفعتني إلى انتهاز هذه الفرصة، ونحن في ندوة عالمية عن مصير القدس والمقدسات الإسلامية بفلسطين وتحديات الاستعمارية الصهيوني والغربي للإسلام والمسلمين، لعرض تفسيرنا وفهمنا الجديد لآيات الإسراء المذكورة، تعود إلى اعتقادي بتقصير علماء المسلمين والمراكز والمؤسسات اٌٌلإسلامية في هذا المجال، والواقع أن إعادة النظر في فهم وتفسير هذه الآيات بدأ جديا من طرف عدد من العلماء بعد نكسة 1967 في مقالات ودراسات متعددة، أغلبها كان مع الرأي الذي عبر عنه مدير مجلة الأزهر الشيخ عبد الرحيم فودة وصدر في كتيب (صوت الأزهر في المعركة) سنة 1967، ويتلخص في ان المرة الأولى وقعت عند ظهور الإسلام بتآمر اليهود عليه، وانتهت بهزيمتهم وإجلائهم عن الجزيرة العربية وعن القدس، وأن الثانية هي القيام إسرائيل سنة 1948، ولسنا متفقين مع هذا الرأي لما شرحناه بتفصيل آنفا. وهناك رأي آخر عبر عنه الشيخ عبد الحميد وأكد في كتابه (نهاية إسرائيل والصهيونية) تتفق معه تماما في شرح وتأكيد أن المرة الأولى تتمثل في قيام إسرائيل ولكننا نختلف معه في القول بان الثانية هي حرب 1967، لما شرحناه سابقا أيضا. وأعتقد ان نوعية شعوبنا ومجتمعاتنا الإسلامية بموقف الإسلام من مشكلة إسرائيل، ورأي القرآن الصريح في بني إسرائيل، وإفساديهم وعلوهم الكبير في الأرض، والنهاية الحتمية لهذا العلو على أيدي المسلمين، مما يزيد في إيمانهم بحتمية هذا الانتصار، ويقوي من عزائهم وقدراتهم على الصمود، ويفشل المخططات الاستعمارية القائمة على قبول الأمر الواقع، والخضوع لشروط الاستسلام طبق نموذج المعاهدة المصرية الإسرائيلية. واحب أن أسجل في خاتمة هذا البحث إعجاب الشعب المغربي بصمود شعب فلسطين في ساحة النظال، وخصوصا في هذه الفترات الصعبة التي تخلت فيها مصر عن القيم والمبادئ التي دافعت عنها منذ ربع قرن تجاه قضية فلسطين، وأذكر بقول الله تعالى : "ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (7/محمد) وقوله تعالى : (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) (4/الحج) صدق الله العظيم والسلام عليكم ورحمة الله الرباط في 15/06/1979.