كما كان متوقعا، وحسب النتائج الرسمية، صوت المغاربة المشاركون في الاستفتاء ب"نعم" للدستور الجديد بنسبة 49ر98 في المائة، على مستوى 94 في المائة من مكاتب التصويت. لكن الغير متوقع، والذي تجب الإشادة به حقيقة، هو غياب الاحتفالات المصطنعة بعد إعلان النتائج، حيث أن "الهيستيريا الاحتفالية" المصطنعة التي اعتدناها، تقضي بأن تخرج "الجماهير" بالهتافات بحياة الدستور الجديد يوم الجمعة ليلا. وفي هذا الصدد لم يعد السؤال الذي يجب طرحه هو لماذا لم تخرج تلك الجماهير؟ بل أصبح لما لم يتم إخراج تلك الجماهير؟ و كيفما كانت دواعي الزهد في الاحتفالات الجماهيرية بالنتائج فإن "قرار" عدم إخرجها يعد من صميم "الحكمة السياسية" في مثل هذه المحطات التي ينبغي أن تكون استيعابية للجميع. وبالرجوع إلى النتيجة المعلنة حول الدستور، سوف تثير نسبة المشاركة الجدل المعتاد في مثل هذه المحطات، لكن الأهم هو ماذا بعد هذه النتيجة؟ هناك عدة "استحقاقات ما بعد الاستفتاء"، وهي أكبر وأهم وأخطر من وثيقة الدستور نفسها مهما كانت درجة الدمقرطة التي تعد بها، ويمكن إجمالها في: إجراءات الثقة: وأهمها استكمال ملف المعتقلين على ذمة الارهاب، استكمال جبر الضرر الجماعي للمتبقين من ضحايا سنوات الرصاص ولضحايا قانون الإرهاب، ... استحقاقات محاربة الفساد: وهو أخطر ملف على الإطلاق، ولم يسجل فيه المغرب بعد نتائج مهمة. وهو الملف الذي يعتبر أولوية الأولويات سواء على مستوى انتظارات المواطنين أو على مستوى الحراك الشعبي الشبابي، ... وهذا الملف إذا لم يفتح بنجاعة من شأنه أن يجعل كل جهود الاصلاح غير ذات جدوى! استحقاقات ملف الانتخابات: النزاهة، قانون الانتخابات، واعتماد البطاقة الوطنية، تقطيع انتخابي أكثر ديمقراطية، لوائح انتخابية جديدة،... الحريات العامة: وبالخصوص إطلاق قانون الصحافة وما يرتبط به من انتظارات تتعلق بحرية الصحافة ودمقرطة الولوج إلى المعلومة ودمقرطة الإشهار ودعم المقاولة الصحافية ... ويتوقع أن ينقسم المجتمع السياسي المغربي على نفسه من جديد حول تلك الاستحقاقات إلى توجهات متصارعة ومتناقضة، ويمكن التمييز بين ثلاث توجهات كبرى يتوقع تباريها على استقطاب الرأي العالم الوطني. توجه محافظ، تمثله الدولة وأجهزتها وإعلامها وثلة من الطبقة السياسية الحزبية والنقابية التي تدور في فلكها، وهذا التوجه ستكون أولوياته، بعد تسويق نتائج الاستفتاء، هي القفز على أهم قضايا"استحقاقات ما بعد الاستفتاء"، و تضييق دائرة الحراك الشعبي المطلبي إن لم يكن ممكنا إقباره. والعمل على جعل الاستحقاق المركزي فيما بعد الدستور يتمحور حول الانتخابات، وستكون الأجندة المرتبطة بهذا الملف الوسيلة الفعالة لشغل الأحزاب عن باقي الاستحقاقات. ويتوقع أن يعرف الوسط الحزبي تقاطبا خاصا يتمحور حول تشكيل تكتلات حزبية تضمن تصدر نتائج الانتخابات المقبلة وبالتالي الفوز بمنصب رئيس الحكومة. وهو الحراك الذي دشنته العائلة الحركية حتى قبل المصادقة على الدستور. كما يتوقع أن تندلع "حرب" التزكيات والتموقعات لضمان ترؤس اللوائح الانتخابية أو التموقع المتقدم ظمنها. توجه وسطي، هذا التوجه يجمع بين الاستمرار في المطالبة ب"استحقاقات ما بعد الاستفتاء"، لكن بترتيب قد يجعل محاربة الفساد في آخر الاهتمامات، مع الاستعداد للقفز على هذا الملف الشائك مقابل "تقدم" معين في الملف الانتخابي وملف إجراءات الثقة وباقي الملفات. توجه ثالث هو امتداد لحركة "20 فبراير" ومجموعة الأحزاب والهيئات التي قاطعت الاستفتاء أو دعت إلى التصويت بالسلب عليه. وهذا التوجه، الذي أعلن استمراره في الدعوة إلى دستور جديد، يتوقع أن يستمر في الدعوة إلى إسقاط الفساد كأولوية وفي تنظيم التظاهرات والمسيرات. غير أن التطورات الأخير في نضالات "20 فبراير" وخاصة خطأ استهدافها للأحزاب السياسية، وتناقضاتها الداخلية وغيرها من العوامل تؤشر على دخول الحركة مرحلة الضعف والعزلة السياسية. التقسيم السابق لا يحصر جميع السيناريوهات، خاصة وأن هناك خيارات يمكن أن تتموقع بين توجه الدولة والتوجه الوسطي أو بين هذا الأخير والتوجه الشبابي إن صحت هذه التسمية. وبالرجوع إلى نص الدستور الجديد نجد أنه يتضمن "كعكة سياسية" تتمثل في عدد من الهيئات التي سيتم إحداثها تباعا، والتي سوف تشكل "الجزرة" التي سوف تكرس تقاطبا صراعيا بين اللوبيات السياسية من أجل السيطرة عليها، ورغم أن إحداث هذه الهيئات قد يستغرق مدة انتداب أول حكومة ما بعد الاستفتاء، يتوقع أن يتحول هذا الملف إلى آلية سياسية فعالة للتفاوض على المستقبل السياسي للمغرب، و قد تصل حد الترويض والابتزاز والمقايضة. وهذه الآلية يتوقع أن تحدث تقاطبات إضافية داخل الأحزاب وباقي الهيئات سعيا إلى الفوز برئاسة تلك الهيئات أو العضوية فيها. نحن مقبلون إذن على مرحلة جديدة سيكون للفاعل الحزبي بالأساس فيها دور حاسم في ترجيح أحد تلك التوجهات، ويبقى مستقبل "حركة 20 فبراير" غامضا في ظل ما كشفت عنه تطوراتها الأخيرة خاصة ما يتعلق بتماسكها الداخلي ومدى قدرتها على التوسع الاستيعابي لباقي التوجهات السياسية في المغرب، ومدى قدرتها على تحقيق مصداقية أكبر في الأوساط الشعبية والسياسية. والمطلوب في هذه المرحلة الجديدة هو أن تتعبأ جميع قوى الإصلاح السياسي الصادقة في العمل على إسقاط الفساد، وتحرير هذا المطلب من سياسة تحويل الاهتمام به التي تنهجها السلطوية ومن الخندق الضيق الذي وضعته فيه أخطاء حركة 20 فبراير، وإلا فإن استمرار الفساد يهدد بإفشال جميع الجهود التي بذلت في ورش الإصلاح السياسي لحد الآن. وهذا يجعلنا نشدد على أن "نعم" للدستور ليس بعدها سوى "لا" للفساد في مغرب ما بعد فاتح يوليوز. فهل تنجح الطبقة السياسية المخلصة في فتح هذا الورش رغم محاولات القفز عليه من طرف مقاومي الإصلاح.