في حدود الكتابات والأدبيات التي أنتجها الإسلاميون المغاربة بخصوص رؤيتهم للدولة، لا توجد وثائق ولا كتابات تتبنى فكرة الدولة الدينية، بما في ذلك كتابات الأستاذ عبد السلام ياسين التي تؤصل لمشروع دولة الخلافة، وربما كان في تحيين وثيقة المبادئ والغايات والوسائل التي أصدرتها جماعة العدل والإحسان دلالات كثيرة، بل ومؤشرات على حصول تحولات كبيرة في تمثل الجماعة للعديد من المفاهيم التي تتعلق بموقف الجماعة من الديمقراطية والتعددية السياسية والأحزاب السياسية بل وحتى الموقف من الحركات الإسلامية، ناهيك عن الكتابات التي صدرت مع اندلاع الربيع العربي عن بعض رموز هذه الجماعة والتي مضت بعيدا في تأصيل فكرة الدولة العصرية. وبشكل عام، يمكن أن نؤطر موقف الإسلاميين من قضية مدنية الدولة بحسب الاجتهاد السياسي الذي قدمته كل حركة على حدة، وسنكتفي في هذا المقال على نموذج حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية بحكم أن الجدل حول قضية مدنية الدولة الإسلامية إنما انطلق من داخل التدافع على مقتضيات الوثيقة الدستورية التي كانت حركة التوحيد والإصلاح والعدالة والتنمية الطرف الرئيس فيه دون بقية الحركات الإسلامية الأخرى. حركة التوحيد والإصلاح والتأصيل لفكرة مدنية الدولة الإسلامية تمثل وثيقة «الرؤية السياسية» للحركة الإطار النظري العام الذي يوضح موقف الحركة من الطابع المدني للدولة، كما تقدم الإجابة على طبيعة العلاقة التي تربط المرجعية الإسلامية بالتوجه الديمقراطي، في حين تجسد وثيقتها «مذكرة الإصلاح الدستوري» التجسيد العملي لهذه الرؤية التي لا تحرج في إطارها عن مطلب تأكيد المرجعية الإسلامية للدولة ومطلب دعم التوجه الديمقراطي. وسنقتصر في هذا السياق على فقرات دالة من مذكرتها للإصلاح الدستوري، لأنها تنطلق من الإطار النظري العام الذي تقدمه وثيقة الرؤية السياسية، وتترجم هذه الرؤية في شكل مواقف ومطالب واقعية. تقدم وثيقة الحركة للإصلاح الدستوري إطارا نظريا يمثل المعادلة التي اختارتها الحركة للجمع بين مدنية الدولة وإسلاميتها، تلك المعادلة التي تقوم على «تعميق الدمج الإيجابي بين مبادئ الإسلام في الحكم ومقتضيات الديمقراطية والتي تسعى إلى صيانة كرامة الإنسان والسعي لتحقيق ما يخدم مصلحته وينهض بحضارته، وتُفضي إلى بناء دولة الحق والقانون، بوصفها دولة مدنية ديمقراطية بمرجعية إسلامية» وتوضح هذه الوثيقة مفهومهما للدولة المدنية بمرجعية إسلامية بكون مصدر السلطة في هذه الدولة يكون هو الشعب حيث ترتبط فيها ممارسة السلطة بالمسؤولية والمحاسبة، على أساس تعاقد سياسي يضمن الكرامة والحرية والعدالة والديمقراطية، ويتحقق فيها استقلال سلطة القضاء والارتقاء بمنظومة حقوق الإنسان وإطلاق الحريات. فالحركة بحسب هذا المفهوم تنظر إلى الدولة على أساس أنها دولة مدنية بمرجعية إسلامية، تحتل فيها هذه المرجعية مكانتها الأساسية، بحكم أن الإسلام يمثل الثابت الرئيسي للمجتمع والدولة في المغرب. «العدالة والتنمية» وتأكيد الصفة المدنية للدولة يبسط حزب العدالة والتنمية موقفه من الدولة في ورقته المذهبية وتحديدا عند جوابه على العلاقة بين الدين والدولة، كما يفصل هذه الرؤية في أطروحته النضال الديمقراطي، ففي ورقته المذهبية، يرى أن العلاقة الأوفق بين الدين والسياسة في الإسلام ليست الفصل المطلق بين المجالين، ولا علاقة التماهي المطلق على اعتبار أن الممارسة السياسية هي ممارسة بشرية نسبية قابلة للصواب والخطأ. فحسب هذه الوثيقة، فإن الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة، وروح دافعة، وقوة للأمة جامعة. لكن الممارسة السياسية بطبيعتها ممارسة بشرية، وتعبر الوثيقة أن الإسلام يرفض أن يضفى طابع القداسة على تلك الممارسة ويرفض بشكل قطاع نظرية الحكم الإلهي أو ما يعرف بالحكم الثيوقراطي، وتعتبر أيضا أن الإسلام لم ينص على شكل معين للحكم، ولا على طريقة التداول على السلطة، وإنما نص على المبادئ الكبرى التي ينبغي أن تقوم عليها الممارسة السياسية وغيرها من الممارسات أي الشورى والعدل والمساواة ومراعاة الكرامة الإنسانية وترك للمسلمين مساحة كبيرة للاجتهاد من أجل إبداع واقتباس الشكل. وتنتهي الوثيقة في تقديرها للموقف من الدولة أن الدولة الإسلامية تبعا لذلك هي دولة مدنية لكن مرجعيتها العامة مرجعية إسلامية. وحتى تزيل الالتباس عن مفهوم المرجعية، ترى الوثيقة أن اعتماد المرجعية الإسلامية معناه أن يكون الإسلام منطلقا وإطارا لمختلف الاختيارات والاجتهادات السياسية والمشاريع المجتمعية. وبناء على هذا التحديد، توضح الوثيقة هوية الحزب، وتعتبر أن الحزب حين يؤكد انطلاقه من المرجعية الإسلامية فإنه لا يعتبر نفسه وصيا على الإسلام ناطقا باسمه، ولكنه يعتبر أن الانطلاق من المرجعية الإسلامية هو الوضع الطبيعي في مجتمع مغربي تجذر الإسلام في أعماقه وفي ثقافته وتاريخه وحاضره، وتعتبر بناء على ذلك أن حزب العدالة والتنمية يعتبر نفسه حزبا سياسيا لا حزبا دينيا ويعتبر المجال السياسي هو حقل اشتغاله، كما يرى المواطنة أساسا للانتماء إليه. وتمضي وثيقة أطروحة النضال الديمقراطي في نفس التوجه، وتؤكد بأن حزب العدالة والتنمية حزب سياسي مدني ذو مرجعية إسلامية له برنامج سياسي مدني يعمل على تطبيقه وفق القواعد الديمقراطية ويجيب على الأسئلة باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام. وتفصل الوثيقة موقفها من طبيعة الدولة في محور «الدين والدولة تمييز لا فصل»، حيث تعيد تأكيد ما نصت عليه رؤية الحزب التي بسطها في الورقة المذهبية، وتزيدها تفصيلا، فتؤكد هذه الوثيقة أن الحزب تبنى مبكرا خطابا مدنيا يستدعي أساسا المصطلحات الحديثة مثل التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان والدولة المدنية ودولة الحق والقانون والمواطنة والتداول السلمي للسلطة مع الإصرار على أن فهمه للمرجعية الإسلامية يجعلها تستوعب هذه المصطحات الحديثة. وتؤكد الوثيقة أن فهم حزب العدالة والتنمية للعلاقة بين الديني والسياسي وللعلاقة بين الدين والدولة وبين الإسلام والديمقراطية يقوم على تركيب متناغم بينها في انسجام مع مقتضيات المرجعية الإسلامية ومعطيات الكسب الإنساني. وهي نفس المعادلة التي سبق أن رأيناها في تصور ورؤية حركة التوحيد والإصلاح، بيد أن موقع الحزب، كحزب سياسي يشتغل بأدوات العمل السياسي، أعطى لهذا المعادلة بعدها السياسي، وذلك من خلال تأكيده على بعض المؤشرات نذكر منها ثلاث مؤشرات: 1 المؤشر الأول: تمييز الحزب بين الشريعة والقانون: إذ ترى الوثيقة أنه إذا كانت الشريعة تضع المبادئ العامة وبعض الأحكام التفصيلية فإن مجال القانون هو صياغة نصوص تشريعية أو تنظيمية وهي العملية التي ينبغي أن تتولاها هيئة مخول لها حق التشريع في المجتمع بطريقة ديمقراطية. 2 المؤشر الثاني: الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية بالآليات السياسية: حيث وضحت الوثيقة أن الاشتغال على قضايا المرجعية والهوية ينبغي أن يتم ضمن آليات الاشتغال وأدوات الخطاب السياسي، أي باعتبارها من قضايا تدبير الشأن العام مما يقتضي التركيز على مقاربتها تشريعيا ورقابيا وترجمتها إلى إجراءات عملية واقعية في إطار برامج سياسية تطرح ديمقراطيا ضمن المؤسسات المنتخبة ذات الصلاحية. 3 المؤشر الثالث: الديمقراطية مدخل لتعزيز المرجعية الإسلامية: حيث مضت الوثيقة بعيدا في ترسيم العلاقة بين الديمقراطية والمرجعية معتبرة أن تعزيز الديمقراطية هو السبيل إلى تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع وتأكيد الصدور عنها في السياسات العمومية كما اعتبرت الوثيقة الديمقراطية هي السبيل لدعم الهوية الوطنية في أصالتها وتعدديتها وتكامل مكوناتها. وحتى تزيل الالتباس عن هذا المفهوم، أوضحت الوثيقة أنه إذا كانت الديمقراطية في الجوهر إعلانا لسيادة الإرادة الشعبية، كما أنها في السياق المغربي حيث المجتمع المغربي مجتمع متمسك بمرجعيته ومعتز بهويته فإنها لا يمكن أن تنتج سوى سياسات عمومية تراعي ذلك كله، وأنه لا يتصور غير ذلك إلا إذا تم التمكين لديكتاتورية أقلية بطرق غير ديمقراطية.