خلال الأشهر المقبلة سوف تجري الانتخابات العامة في مصر وتونس، هذا فضلاً عن الانتخابات التركية التي سوف تبدأ خلال شهر يونيو المقبل . إذا صحت التوقعات، فإن الإسلاميين سوف يشكلون أكبر كتل نيابية في المجالس الجديدة . هذه النتائج التي ستفسر عنها الانتخابات ستكون واحداً من أهم الأحداث التي طرأت على المنطقتين العربية والشرق أوسطية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى . فخلال هذه المرحلة المنصرمة، استوحت أكثر النخب والأحزاب والحركات الحاكمة في المنطقتين مبادئ الحكم من الفكرة القومية . أما في المرحلة المقبلة فإن التيار الإسلامي سوف يحل محل التيار القومي في توجيه السياسة والحكم في المنطقتين . تتفاوت ردود الفعل على هذه التطورات المرتقبة، وينقسم أصحاب هذه التوقعات إلى فريقين: واحد يشدد على أهميتها وحجم تأثيرها المرتقب على صعود الإسلام السياسي في الدول العربية وتركيا وإيران . وفريق آخر يسعى إلى التقليل من حجم الأسلمة المتوقعة، ومن أثرها في النظم السياسية في المنطقة . ومن المفارقات أن قيادات إسلامية تتبنى ما يذهب إليه الفريق الثاني، وتؤكد أن فوز الإسلاميين في الانتخابات المقبلة لن يؤدي، بالضرورة، إلى أسلمة جذرية للمجتمعات العربية، كما أنها تؤكد أن النجاحات الانتخابية الإسلامية لن تؤدي إلى إحباط التحولات الديمقراطية في الدول العربية . في مواجهة صيحات التحذير التي أطلقها الفريق الأول، أكد عبدالله زواري الناطق باسم حركة النهضة التونسية وعضو لجنتها التنفيذية، أن الحركة حتتطلع إلى بناء مجتمع حر، منفتح، عصري يتساوى فيه سائر المواطنين نساءً ورجالاً، مسلمين وغير مسلمينخ، وخأنه ليس هناك من وثيقة تلزم الحركة بالعمل من أجل إقامة دولة دينيةخ . وتتكرر مثل هذه الإعلانات على لسان زعماء الأحزاب والجماعات الإسلامية الرئيسة في مصر وفلسطين واليمن وعدد من الدول العربية الأخرى . ويرد هؤلاء على الذين يقولون بحتمية التناقض بين الإسلام والديمقراطية بالإشارة إلى تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، وبتأكيد أن هذه التجربة باتت تمثل اليوم النموذج الذي تقتدي به هذه الحركات، خاصة حركة الإخوان المسلمين في مصر . بالفعل، إن تجربة العدالة والتنمية في تركيا تدحض بصورة عملية نظرية التضاد المطلق بين الإسلام والديمقراطية . بالعكس، فعدد الذين يعتبرون هذا الحزب الخلاق فاعلاً رئيساً في ترسيخ الديمقراطية في تركيا هو في تزايد مستمر في العالم. ولكن هذا لا يعني أن هذه النظرة تنسحب بالضرورة على الأحزاب الإسلامية الرئيسة في الدول العربية . هنا يرى المعنيون بالتطور الديمقراطي في المنطقتين العربية والأوسطية فروقاً مهمة بين التجارب العربية، من جهة، والتجربة التركية . يقف د .أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي، وأحد المنظرين البارزين لحزب العدالة والتنمية، بين الذين يعون أهمية هذه الفوارق، إذ يلاحظ في كتابه -أن التحول الديناميكي للثقافة السياسية الذي اكتسب اندفاعة قوية في تركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يختلف عن الوضع في دول الشرق الأوسط الأخرى- ويظهر أوغلو وكأنه يقارن بين الثقافات الرسمية السائدة، إذ يكمل قائلا - . . . إن الثقافة السياسية في دول الشرق الأوسط محصورة بين الأنظمة الملكية التي تعكس الثقافة التقليدية وبين الأنظمة الجمهورية التي لا تحتوي على مساحات ديمقراطية كافية- . هنا يجد وزير الخارجية التركي فوارق جدية على صعيدي مفهوم الشرعية السياسية ومركزية السلطة . في ضوء ذلك يستنتج أوغلو أن - للانتخابات التركية معاني مختلفة عن تلك التي قد تجري في بعض دول الشرق الأوسط الأخرى- . ولكن هل يمكن رد هذه الفوارق الناتئة إلى عوامل أخرى؟ في ظل علاقات التقارب والتباعد الجغرافي والتاريخي تتبلور العلاقات الفكرية والثقافية سلباً وإيجاباً . ابن خلدون قال عكس ذلك تماماً، إذ قرر أن الشعوب والأمم التي تهزم في الحروب وتعاني الغلبة، تميل إلى الاقتداء والاقتباس من الذين تغلبوا عليها وهزموها . ولكن التاريخ الحديث يدل على العكس، أي أن الشعوب والدول تميل إلى التعلم من الشعوب والدول التي تمد إليها يد المساعدة والعون، وأن مشاعر العداء لدولة من الدول لا تلبث أن تمتد لكي تشمل معتقدات هذه الدولة . هذا ما نستقيه من تجارب العلاقات الخارجية لتركيا وللدول العربية، ومن أثر هذه العلاقات على مواقف النخب الوطنية تجاه الديمقراطية -الوافدة من دول الغرب- . لقد تضافر العاملان الجغرافي والتاريخي على ترسيخ شعور الأتراك بأنهم أوروبيون مثلما هم آسيويون . كانت الإمبراطورية العثمانية تبسط هيمنتها على أراض أوروبية، مثلما كانت تمتد إلى عمق الأراضي الآسيوية . وترسخ الشعور بترابط المصير بين تركيا وأوروبا بسبب الهجرة التركية الواسعة إلى الدول الأوروبية . وأكد الأتراك هذا الترابط عندما طلبوا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ورغم تلكؤ الأوروبيين في قبول الطلب، فإن إصرار الحكومة التركية على دخول الاتحاد لايزال على حاله . وفي الآونة الأخيرة برز تباين بين أنقرة والحلف الأطلسي حول الثورة في ليبيا، إلا أن تركيا لاتزال ركيزة أساسية للحلف، كما أنها عضو في كافة المنظمات القارية الأوروبية . مقابل هذه النظرة التركية إلى العلاقات مع أوروبا، تنتشر في المنطقة العربية مشاعر سلبية ضد أوروبا التي احتلت الأراضي العربية بعد الحرب العالمية الأولى، والتي لعبت دوراً رئيساً في قيام -إسرائيل-، وفي توسعها وتقويتها على حساب العرب . وتعكس أغلبية الأحزاب العربية هذه المشاعر، ويتفاوت التعبير عنها بين حزب وآخر وحسب المراحل التاريخية، إلا أنها موجودة باستمرار وكما تؤثر نظرة الأتراك إلى أوروبا في نظرتهم إلى الديمقراطية، فإن النظرة إلى الديمقراطية في المنطقة العربية عكست إلى حد بعيد النظرة إلى أوروبا . ورغم أن الإسلاميين العرب والأتراك يشتركون في موضوعات كثيرة، إلا أن الفوارق القومية والفوارق في التجارب التاريخية والجيواستراتيجية تؤثر في الجانبين . فالإسلامي في حزب العدالة والتنمية لا يجد تناقضاً وإحراجاً في أن يكون أوروبياً وأن يطبق النظم الأوروبية، أما العربي، سواء كان إسلامياً أو غير إسلامي، فإنه يحتاج إلى تخطي الذكريات التاريخية والصراع الدائم مع أوروبا والغرب، حتى يتمكن من تمثل الثقافة الديمقراطية وتبنيها . هذه العلاقة مع الغرب تعرقل التطور الديمقراطي في المنطقة العربية حتى ولو لم تمنعه، وهي مشكلة تعانيها العديد من الأحزاب والحركات العربية وليس الإسلامية وحدها . كاتب لبناني