أعلنت أول أمس نتائج الانتخابات السابقة لأوانها التي أجريت في البرتغال على خلفية أزمة اقتصادية ومالية خانقة، وجاءت النتائج لتحمل يمين الوسط ممثلا في الحزب الاجتماعي الديمقراطي بزعامة بيدرو باسوس كويلو إلى رئاسة الحكومة ومعه أحزاب اليمين والوسط الشعبي، بينما ألحقت هزيمة قاسية بالحزب الاشتراكي الحاكم برئاسة رئيس الوزراء الحالي جوزيه سوكراتس ومعه مجموع أحزاب اليسار، حيث حصل الحزب الاجتماعي الديمقراطي على 105 مقاعد من أصل مئتين وستة وعشرين مقعدا مع انتظار نتائج أربعة مقاعد يتنافس عليها البرتغاليون القاطنون بالخارج،والتي ستعطى نتائجها بداية شهر يوليوزالقادم ،لكنها بدون تأثير يذكر على تشكيلة الحكومة المقبلة التي ستكون دون منازع بين يدي أحزاب اليمين والوسط التي حصلت على الأغلبية المطلقة. ما تثيره الانتخابات البرتغالية في السياق الدولي الذي تعرفه خاصة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يحيلنا بالضرورة إلى العودة إلى الأزمة المالية والاقتصادية التي شهدها العالم انطلاق من أزمة الغذاء والطاقة التي بدأت عام 2008 وما تلاها من انهيارات متوالية في أكبر البورصات العالمية التي شكلت «تسونامي» ضرب كل الاقتصادات العالمية ولازالت آثاره بادية إلى اليوم،ويمكن أن نعتبر التحولات التي عرفتها المنطقة العربية، هي واحدة من تعبيرات الآثارالجانبية للهزة المالية العالمية، حيث صادفت منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط أنظمة شمولية وديكتاتوريات مطلقة إستبدادية وتسلطية ، مع بنية اقتصادية فاسدة ومبنية كلية على الريع ،فكانت الانتفاضات العربية بدون استثناء انتفاضات للفقراء والمعدومين والجياع أكثر منها انتفاضات من أجل الحرية والديمقراطية، وهو ما سيجعل الأنظمة الوليدة على أنقاض الديكتاتوريات السابقة ستواجه تحديات خطيرة،حيث أن المطالب الاجتماعية التي كانت المحرك الأساسي للانتفاضات العربية ستتواصل بحدة أكبر وقد تكون حصان طروادة لانتفاضات مضادة تقودها فلول الأنظمة السابقة بنوع من المزايدات التي تسعى إلى تأزيم الوضع، نظرا لسابق معرفتها بالظروف البنيوية للاقتصادات القائمة والتي من الصعب في ظل الأزمة العالمية المستمرة،وفي ظل عدم الاستقرار السائد في المنطقة من خلال الإنفلاتات الأمنية والطائفية والقبلية والعشائرية، التي تنتعش في ظل بنية اجتماعية منغلقة ومحافظة ..إضافة إلى الصراعات الواضحة والمكتومة على السلطة ... أن تجيب على المطالب التي ألهمت وألهبت الناس في الميادين والساحات خلال الشهور الماضية. بالعودة إلى البرتغالي فإنه يمكن الإقرار بعد الانتخابات التشريعية التي عرفها هذا البلد الأوربي، أن المنافسة لم تكن بين البرامج الانتخابية للأحزاب ، ولكن فقط للمصادقة على الحزب الذي سيقوم بتنفيذ حزمة من الشروط التقشفية التي فرضها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي، نتيجة ضخه في الإقتصاد البرتغالي أزيد من 78 مليار دولار، وهذه الخطة سوف تتطلب في حد أدنى ثلاثة سنوات ، ومعنى ذلك أن الحكومة المقبلة سوف تكون بلا برنامج وبلا سيادة فعلية على الاقتصاد الوطني ، وربما هذا ما دفع احد المحللين للقول بأن البرتغال توجد اليوم في ظل الحماية الأوربية وصندوق النقد الدولي، وكل المؤشرات تؤكد أن الوضع سوف يستمر على هذا النحو خاصة أمام واقع العجز التجاري للبرتغال والذي يبلغ أكثر من 9 في المائة ، وتوقعات باستمرار ارتفاع معدل البطالة إلى ما فوق 15 في المائة، وتراجع القدرة الشرائية في ظل تخفيض الحد الأدنى للأجور ليبلغ حوالي 5000 درهم مغربي ، وهو ما يعني العجز الكلي لعدد من الأسر عن بلوغ الحاجيات الأساسية وعلى راسها السكن... الدرس البرتغالي بالغ الأهمية في الظرفية التي جاء فيها ، فأن يتحول الناخبون إلى مجرد موزعين للأدوار بين الأحزاب السياسية من اليمين واليسار لتحديد من يقوم بتنفيذ تعليمات المصارف العالمية وحسابات الشركات العابرة للقارات ...هو ما جعل الإسبان يخرجون للشوارع من أجل المطالبة بديمقراطية حقيقية الآن ...وهو ما يعني أنهم منذ سنوات وهم يعيشون ديمقراطية مزيفة، فالديمقراطية التي لا تحقق العدالة الإجتماعية وتمنح فرصا متساوية للجميع، لا يمكن أن تكون تعبيرا عن إرادة الشعوب ..وأعتقد انه في الشهور المقبلة سوف يتكرر المطلب الإسباني وربما بحدة أكبر في عدد من عواصم البلدان الكبرى ..ساعتها سوف يكون العالم أمام ميلاد جديد، لايقل أهمية عن سقوط جدار برلين وتفكك المعسكر الاشتراكي ، وستكون مرحلة لكي يعود الصراع الإيديولوجي والفكري للعالم ونهاية عهد الأحادية التي هيمنة على العالم منذ 23 سنة الماضية.