عند المعالجة الأصولية التفصيلية لعلاقة الوسائل بالمقاصد سواء في حالة التوافق أو التعارض، سيتضح جليا أن جلب المصالح الدينية أو الدنيوية أو هما معا، قد يقتضي، في حالات اضطرارية معينة اقتضاءَ وجوبٍ أو ندبٍ التوسلَ إليها بوسائل محرمة أو مكروهة.. ويتضح كذلك أن دفع الضرر الديني أو الدنيوي أو هما معا، قد يقتضي بالاضطرار، اقتضاءَ وجوبٍ أو ندبٍ، التوسلَ إلى دفعها بوسائل محرمة أو مكروهة. سأكتفي بهذه الوجوه التي يتغير فيها حكم الوسيلة، تبعا لمقصدها،من النقيض إلى النقيض.. من الحظر أو الكراهة إلى الندب أو الوجوب.. لنتبين المساحة الواسعة التي جعلها المنطق الشرعي السمح، مليئة بالفرص الكثيرة والمتنوعة، لاستجلاب المصالح أوإكمالها ودرء المفاسد أو تقليلها.. حتى لا تتعثر عجلة الإسلام الإصلاحية مهما كانت رياح الظروف الاجتماعية والسياسية، المحلية والدولية، مساعدةً أو منابذةً.. سواء كانت هذه الظروف، ظروف فرد أو ظروف جماعة وأمة.. وسيتبين لنا أن الغاية تسوغ الوسيلة بمعناها الإيماني، لم تفارق الممارسة الإسلامية حتى في العصور الموصومة بالانحطاط والتقليد.. وسيتبين أن الفكر الحركي الإسلامي كان في معظمه إلى عهد قريب، متخلفا جدا في هذا المضمار عن أجداده، المجتهدين منهم والمقلدين.. قال ابن تيمية رحمه الله: (وإذا عرف مقصود الشريعة سُلك في حصوله أوصل الطرق إليه) الفتاوى/ ج:28/ ص:207.. والطرق الموصلة قد تكون واجبة أو مندوبة أو مباحة في أصلها وقد تكون محظورة أو مكروهة في أصلها. ووجهة بحثنا هي عندما تكون الطرق والوسائل الموصلة إلى المصالح أو الدافعة للمفاسد، محظورة أو مكروهة، فتصير بالاضطرار إما مستحبة أو واجبة.. وفي نص آخر لابن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم) إشارة واضحة إلى وجهة بحثنا.. يقول رحمه الله: (لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب: لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يُستحب للرجل أو يجب عليه: أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، و الاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.).. معلوم أن ابن تيمية من الفقهاء المتشددين في التشبه بالكفار في هديهم الظاهر وخصوصا ما كان لهم شعارا دينيا.. فالحكم عنده يتراوح بين الحظر والكراهة. لكنه عند إعماله النظر المصلحي نجده كما في هذا النص يتحول عن الحكم في أصله وينفتح على مراتب ضده.. فمن الحرام والكراهة تحول إلى الإباحة وما فوقها من ندب ووجوب.. فبقوله: (لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في هديهم الظاهر، لما عليه ذلك من الضرر)، أباح التشبه لدفع الضرر المتيقن أو المظنون.. لكنه رحمه الله لم يتوقف به نظره الفقهي المصلحي عند الإباحة بل ظهر له أن القضية قد تصل إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، فأضرب عن الإباحة بحرف (بل) ، مع إقرارها بالتعبير عنها بصيغة النفي، وأثبت الاستحباب والوجوب، كأحكام قد تقتضيها المقاصد الصالحة، كالتي ضربها ابن تيمية مثلا في نصه.. ومن أهمها وأوقعها في قلبي، قوله: (إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين...) فالمصلحة الدعوية قد توجب على الداعي أن يتلبس ببعض ما هو محظور أو مكروه في أصله.. وهذا الذي انتهى إليه ابن تيمية بعقله الفقهي المصلحي، عبر عنه قبله شيخ القواعد المصلحية العز بن عبد السلام بتأصيل وتفصيل وتمثيل، في كتابه العجاب:(قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) قال رحمه الله: (وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، لا من جهة كونها معصية، بل من جهة كونها وسيلةً إلى مصلحة. وله أمثلة: منها: ما يبذل في افتكاك الأُسارى فإنه حرام على آخذيه، مباح بل مستحب لباذليه.. ومنها: أن يريد ظالم قتل إنسان مصادرة على ماله، ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه المال، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه. ومنها: أن يُكره امرأة على الزنا، ولا يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها، فيلزمها ذلك عند إمكانه. وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان، وإنما هو إعانة على درء هذه المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا مقصودا..). ويكثر الاضطرار إلى هذه المسالك عند فشو الجهل بالدين وضعف الالتزام به، وخصوصا في أوقات الفترات.. فتحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور.. ومن عجيب المفارقات أن أكثر الحركات الإسلامية المعاصرة، رغم وجودها في زمن أخطر فترة دينية عرفها تاريخ الأمة، ومع ذلك لم يستنجدوا بهذه القواعد الكلية المقاصدية ولم يأخذوا بها وخصوصا تلك التي تسوغ الوسائل الفاسدة أو الضارة، اعتقادا منهم أن ذلك لا يجوز وأن فيه تمثلا وتشبها بالقاعدة الميكيافلية. فحَرَمَتْ الحركة الإسلامية نفسها من عناصر القوة والصمود والانتشار في أوساط كل الناس.. وأختم بهذه الصورة التي أوردها الشيخ تاج الدين السبكي مع صور أخرى في كتابه: الأشباه والنظائر؛ قال رحمه الله: (ومنها : قد علم أن لبس زي الكفار وذكر كلمة الكفر من غير إكراه كفر ؛ فلو مصلحة المسلمين إلى ذلك واشتدت حاجتهم إلى من يفعله فالذي يظهر أنه يصير كالإكراه. وقد اتفق مثل ذلك للسلطان صلاح الدين ؛ فإنه لما صعب عليه أمر ملك صيدا وحصل للمسلمين به من الضرر الزائد ما ذكره المؤرخون ألبس السلطان صلاح الدين اثنين من المسلمين لبس النصارى وأذن لهما في التوجه إلى صيدا على أنهما راهبان وكانا في الباطن مجهزان لقتل ذلك اللعين غيلة ؛ ففعلا ذلك وتوجها إليه وأقاما عنده على أنهما راهبان ، ولا بد أن يتلفظا عنده بكلمة الكفر وما برحا حتى اغتالاه وأراحا المسلمين منه ولو لم يفعلا ذلك لتعب المسلمون تعبًا مفرطًا ولم يكونوا على يقين من النصرة عليه). وعليه فإن الغاية الشريفة تبرر الوسيلة وإن كانت غير شريفة، إذا لم نجد غيرها.. وقد يكون حكم الأخذ بهذه الوسيلة الاستحباب أو الوجوب، وليس فقط الإباحة كما فهم من تعبير الدكتور الريسوني.