اختلطت الأوراق على مائدة النضال الديمقراطي بعد الإعلان عن فتح ورش الإصلاح الدستوري، واتجهت معظم المواقف السياسية إلى المطالبة بالإعلان إجراءات فورية لكسب رهانات الإصلاح وإعادة تجربة الانتقال الديمقراطي إلى سكتها الأصلية بعد عملية النكوص التي عرفها المغرب خاصة بعد انتخابات .2007 إجراءات تخص تأكيد الإصلاح السياسي والانتخابي، وإجراءات أخرى تطوي صفحة المظالم السياسية والحقوقية (الإفراج عن المعتقلين السياسيين الخمسة، وطي صفحة معتقلي 16 ماي) وتدشين مرحلة شديدة من التدبير الاقتصادي القائم على مبدأي الشفافية وتكافؤ الفرص وبناء تعاقد سياسي جديد بين المؤسسة الملكية والقوى السياسية. لكن، لا ينبغي أن ننسى أن هذه المطالب السياسية، وهذا التقدم في المدافعة السياسية من قبل بعض القوى السياسية إنما يتم ضمن موازين قوى غيرت فيها التحولات الإقليمية والحراك الشعبي موازين القوى التي كانت سائدة بين القوى الديمقراطية والسلطة السياسية، ودفعت السلطة السياسية إلى التفكير في خيارات متعددة للتعاطي مع سقف المطالب المرفوعة سياسيا ودستوريا واجتماعيا. لقد تابع المغاربة إعلان الملك عن فتح ورش الإصلاح الدستوري، وربما فهموا من خلال جملة الإصلاحات السبعة التي أكد عليها الخطاب الملكي أن الأمر يتعلق بنقلة دستورية بعيدة لم تكن القوى السياسية تحلم بنصفها ضمن موازين القوى التقليدية التي كانت سائدة والتي لم تكن تسمح بأكثر من الحديث عن رفع مذكرات للإصلاح الدستوري مع التأكيد على أن هذا الإصلاح ينبغي أن يتم في توافق مع المؤسسة الملكية. سيكون من الغباء السياسي أن نتصور أن هذه الهدية الثمينة التي أعلن عنها الخطاب الملكي تعكس تحولا عميقا في بنية السلطة ومنهجيتها في التدبير السياسي، كما سيكون من البلادة أن نتصور أن هذا الإصلاح المعلن عنه سيجعل المغرب يدخل منعطفا فاصلا في تاريخه السياسي وفي تجربة نظامه السياسي، لأن موازين القوى السياسية القائمة، وحتى ونحن نأخذ بعين الاعتبار التحولات الديمقراطية في العالم العربي، ودرجة الحراك الشعبي الداخلي، كانت تتيح للسلطة السياسية أن تنتج جوابا يقل سقفه عن السقف الذي رفعه الإصلاح الدستوري الذي أعلن عنه الملك. بكلمة، إن أقصى ما كانت تسمح به موازين القوى القائمة، وأقصى ما كان يمكن أن تفرضه التحولات الديمقراطية والحراك الشعبي، هو الإعلان عن فتح ورش للإصلاح الدستوري يبقي هامشا واسعا للمناورة السياسية حول العديد من بنود الدستور. إن الباحث الذي يتتبع الكلمات والمفردات التي تضمنها الخطاب الملكي بخصوص الإصلاح الدستوري، ربما تفاجئه أسئلة كبيرة محرجة، إذ كيف يمكن للسلطة السياسية بهذه السهولة أن تطوي صفحا عن الإصرار التاريخي والسياسي والدستوري للاحتفاظ بوزارات السيادة، والذي بسببه تم إجهاض دستور ,1992 وتم عرقلة حكومة التناوب وتأخيرها إلى سنة .1996 إن الباحث ليصاب بدهشة التساؤل وهو يتتبع مفردات الخطاب الملكي وهي تتحدث عن وزير أول رئيس لسلطة تنفيذية فعلية يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي. إن الجواب الذي تقدمت به السلطة السياسية، وضمن شروط التدافع السياسي الحالي لا يمكن أن يختزل ضمن القراءة السياسية ويعتبر استجابة لتطلعات المغاربة أو إنصاتا للحراك الشعبي واستجابة لصداه. إن مضمون الإصلاحات الدستورية المعلن عنها واضح تماما، فهو يركز بقوة على سلطة قادمة قوية سيملكها وزير أول سيكون من الحزب الفائز في الانتخابات، وهو لن يكون خارج التشكيلات السياسية القائمة. وهذا بالذات هو مربط الفرس، وهو بيت قصيد النضال الديمقراطي، لأن أي وزير أول من الأحزاب التي يعرف المغاربة ارتباطها بالإدارة، أو يعرف المغاربة جيدا أنها صنيعة الدولة، ستجعل من ورش الإصلاح الدستوري مجرد مناورة سياسية كبيرة مضمونها أن الصلاحيات التي ستعطى للوزير الأول، لن تكون أكثر من كلمات مكتوبة على الورق يختفي محتواها الديمقراطي عند الممارسة التي تعتمد منطق التعليمات. بعبارة، إن ورش الإصلاح الديمقراطي لا ينبغي أن ينسي القوى السياسية بوصلة النضال الديمقراطي، والتي ينبغي أن تصر وتلح على حل الحزب الأغلبي، لأنه لا ديمقراطية بدون حل حزب السلطة. إن أي تردد في الموقف، أو تضييع لهذه الفرصة التاريخية، سيجعل التاريخ يحكم على هذا الإصلاح الدستوري بكونه مناورة سياسية كبيرة للفت الأنظار عن مطلب القوى الديمقراطية بحل الحزب الأغلبي لاسيما وأن هذا المطلب كان العنوان الأكبر في الحراك الشعبي. حتى تكون البوصلة واضحة، وحتى يكون الإصلاح الدستوري منعطفا فارقا في التاريخ السياسي المغربي، ينبغي أن يكون شرطه ومقدمته حل الأصالة والمعاصرة وإبعاد مؤسسه عن العمل السياسي نهائيا، ورفع يد الإدارة عن الأحزاب السياسية وترك الحرية لها لتتخذ قرارها السياسي بكل استقلالية. المناورة التي ينبغي أن تفشها القوى الديمقراطية اليوم، وهي ألا جدية ولا مصداقية لأية ديمقراطية ولأي إصلاح في المغرب مع وجود حزب للسلطة يديره مقرب من الملك. ينبغي أن تكون لدى القوى السياسية كامل الجرأة لتعلنها بأن المغرب يجب أن يختار بين بناء تجربة ديمقراطية حقيقية، وبين تجربة الحزب الأغلبي. إنهما لا يلتقيان أبدا، حتى ولو تضمن الإصلاح الدستوري ما لم تكن تتمناه القوى الديمقراطية من مطالب إصلاحية. إن المعركة الوجيهة والقاصدة، ينبغي أن تبدأ من المطالبة بحل حزب السلطة، وتدشين ديمقراطية حقيقية، تفرز وزيرا أولا حقيقيا، وليست مجرد مناورة سياسية، تنتهي بإجراء انتخابات معروف نتيجتها سلفا يتولى فيها الوزير الأول المعروف الصلاحية الواسعة التي ستتيحها له الإصلاحات الدستورية. أعتقد أن المغرب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يختار ديمقراطيته ويكون على موعد مع التاريخ ويقطع مع تجربة الحزب الأغلبي نهائيا، وإما أن ينتج مناورة سياسية جديدة تلتفت على الإصلاحات الدستورية لتجدد وتشرعن وضعا سياسيا قائما كان السبب في تجربة النكوص الديمقراطي.