المشهد السياسي في تونس بعد ''ثورة الكرامة'' لا يبشّر بالهدوء. فالحكومة الجديدة/القديمة بدأت بالتصدع ما إن خرجت إلى النور، على وقع التظاهرات الاحتجاجية، التي يقودها الإسلاميون واليساريون والذين يرفضون الخروج من الشارع حتى اجتثات أركان النظام الديكتاتوري السابق، في وقت يبدأ فيه المبعدون العودة إلى البلاد. واتهمت أحزاب سياسية تونسية الوزير الأول، محمد الغنوشي، بالمغالطة السياسية للتونسيين عبر الإبقاء على سيطرة حزب الرئيس المخلوع، التجمع الدستوري الديمقراطي، على الحكومة الوحدة الوطنية، ودعت إلى عدم التورط في مناورة سياسية تهدف إلى بقاء رموز حزب بن علي في الحكم والحكومة. وعزا حزب ''التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحرية'' في تونس انسحابه من الحكومة التي حاز فيها على مقعد وزارة الصحة لأمينه العام مصطفى بن جعفر إلى ''المغالطة السياسية'' التي حاول الوزير الأول، محمد الغنوشي، تمريرها عبر الإبقاء على سيطرة الحزب ''الدستوري'' على الحكومة وتوزيع ستة مقاعد فقط بين أحزاب المعارضة والنقابات. وقال العضو القيادي في المكتب السياسي للحزب إنه ''لا يمكن القبول بعد الدماء التي سالت والتضحيات التي قدمت أن يبقى التجمع الدستوري مسيطرا على الحكومة وكأن شيئا لم يتغير''، مضيفا أنه ''وقعت مغالطة سياسية كبيرة لم نطلع على تفاصيلها خلال المشاورات السياسية، لكن بعد الإعلان عن تشكيلة الحكومة تبينت خيوطها''. وأوضح أن التكتل الديمقراطي ''لا يمكن أن يتورط في لعبة سياسية تهدف إلى إبقاء هيمنة الحزب الدستوري على الحكومة التي حاز أغلبية حقائبها وعلى الساحة السياسية''. وأشار خليل الزاوية إلى وجود تنسيق ومشاورات تجري بين حزبه التكتل واتحاد الشغل وحزب التجديد (الذي أدى وزيره اليمين لكنه قدم اشتراطات) لإجبار الوزير الأول الغنوشي على إعادة النظر في تركيبة الحكومة، وتوسيعها إلى الأطراف التي تم إقصاؤها، مضيفا ''قدمنا احترازاتنا إلى الغنوشي ونتمنى أن يستجيب سريعا حتى لا تنزلق الأمور''. من جهته، قال منصف المرزوقي، أبرز المعارضين لنظام بن علي ورئيس ''حزب المؤتمر من أجل الجمهورية'' الذي عاد أول أمس إلى تونس من منفاه في باريس، إنه ''يرفض العودة إلى الوراء أو إبقاء أي من رموز النظام الفاسد في الحكومة أو الاستهانة بدماء شهداء الانتفاضة الأحرار في تونس''. وقال ''أنا أرفض إشراف وزير الداخلية الحالي، على اعتبار أنه ينتمي إلى حزب بن علي، على أي مهمات سياسية أو انتخابات''، ودعا إلى ''تشكيل حكومة وحدة انتقالية تضم كل الأحزاب باستثناء حزب التجمع الدستوري تكون مهمتها تنظيم انتخابات نزيهة''. من جانبه، دعا حمة الهمامي، رئيس حزب العمال، الأحزاب والشخصيات السياسية والنقابات والمثقفين إلى عدم التورط في المناورة السياسية التي يقودها الوزير الأول محمد الغنوشي على ثورة التونسيين. وبحسب ''الخبر'' الجزائرية في عدد ، أمس، أكد الهمامي بالقول: ''لن نشارك في شرب دماء شهداء الثورة على نظام بن علي''، وأشار إلى أن انسحاب وزراء اتحاد الشغل والتكتل يؤكد أن القوى النقابية في اتحاد الشغل التي تمثل غالبية العمال والشعب غير موافقة على سيطرة التجمع الدستوري على الحكومة، وقيام الغنوشي بحركة تمثيلية على الشعب عبر توسيعها إلى عدد من المعارضين، مشيرا إلى أن ''تصريح الغنوشي بأنه مازال على اتصال بالرئيس المخلوع إشارة مزعجة تؤشر على بقاء أركان النظام السابق في مواقعهم''. وجدد الهمامي مطلب حل الحكومة وإنشاء حكومة إنقاذ وطني، واعتبر أن الوزير الأول الغنوشي ''سيكون مجبرا على الاستجابة لمطالب التونسيين، وفي حال عدم استجابته فسيكون عليه مواجهة المظاهرات العارمة في الشارع''. من جانبها، هددت حركة التجديد التي حصلت على حقيبة التعليم العالي والبحث العلمي وأدى وزيرها اليمين الدستورية بالتراجع عن المشاركة في الحكومة وسحب وزيرها، إذا لم تتم استقالة جميع الوزراء الذين ينتمون إلى الحزب الحاكم سابقا، وتجميد الممتلكات والحسابات البنكية لهذا الحزب باعتبارها ممتلكات الشعب التونسي. وقال أحمد إبراهيم، الأمين العام للحزب، إنه ''إذا لم تتحقق هذه المطالب بصفة عاجلة، فإننا نعتبر أنفسنا منسحبين من الحكومة وغير معنيين بها''، موضحا أن الوزير الأول محمد الغنوشي وعد بالفصل بين الدولة والحزب الدستوري ولم يف بهذا الوعد. وفي السياق ذاته، اعتبر أمين عام حركة النهضة الإسلامية والناطق باسمها، حمادي الجبالي، أن انسحاب وزراء اتحاد الشغل والتكتل الديمقراطي هو نتيجة حتمية للطريقة الخاطئة التي أدار بها الغنوشي المشاورات السياسية بعد خلع الرئيس بن علي، وللإقصاء والمناورة السياسية التي حاولت بعض الأطراف فرضها على الشارع التونسي. وقال عبد الرزاق كيلاني، نقيب المحامين التونسيين، إن النقابة سبق لها أن حذرت من هذه الوضعية، وأشار إلى أن انسحاب وزراء حزبين واتحاد الشغل يؤكد أن الحكومة الحالية لا تمثل أرضية وفاق وطني ولا يمكن أن تصنع حلولا للمرحلة الجديدة. في سياق متصل، خرج أحمد المستيري، السياسي التونسي الذي قام بتأسيس أول حزب معارض في تونس، أول أمس، عن صمت استمر 22 عاما وندد بحكومة ''الوحدة الوطنية'' التي أعلن تشكيلها الاثنين الماضي. وكتب المستيري الذي انسحب من الحياة السياسية منذ 1989 ''من المستحيل علي أن أصمت إزاء هذه العملية المخزية التي تمثل على ما يبدو محاولة صريحة لانتهاك الحقوق الشرعية التي حققها الشهر الماضي شعبنا التونسي بفضل كفاح مناضليه وبدم شهدائه''. وندد ب''استيلاء أقرب مساعدي زين العابدين بن علي (الرئيس المخلوع) على الغالبية ومراكز القرار والمناصب السيادية'' في حكومة الغنوشي. ودعا المستيري في تصريح ل''وكالة فرانس برس'' ''المواطنين إلى التعبير عاليا عن رفضهم لهذا الفعل الشائن الذي يسعى إلى إعادة نظام بن علي تحت ''غطاء'' لا يمكن أن ينطلي على أحد''. وكان المستيري (86 عاما) أحد المقربين من الحبيب بورقيبة، أول رئيس لتونس المستقلة (1987/1956)، وذلك قبل أن يندد بنظام الحزب الواحد ويؤسس في 1978 أول حركة معارضة تونسية، حركة الديموقراطيين الاشتراكيين. انسحابات ومظاهرات وبعد يوم من إعلان ''حكومة الوحدة'' في تونس (والتي تتسم بوجود بعض الأطراف ذات المنزع الفرانكوفوني المعادي للهوية العربية الإسلامية والبعيد عن المطالب الحقيقية للشعب التونسي) انسحب الوزراء المنتمون إلى الاتحاد التونسي للشغل وحزب التكتل الديمقراطي، أول أمس، من الحكومة، فيما جمّد حزب ''التجديد'' مشاركته في الحكومة إلى غاية انسحاب الوزراء المحسوبين على نظام بن علي من عضوية حزب التجمّع الدستوري الحاكم سابقا. وأكد الاتحاد التونسي والتكتل الديمقراطي أن قراريهما جاءا بسبب تشكيلة الحكومة التي غلب عليها وزراء حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي الحاكم السابق، بالإضافة إلى سيطرتهم على جميع الحقائب السيادية، ومنح القوى المعارضة والمستقلة مناصب وزارية هامشية جدا. وقال العيفة نصر، الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، إن قيادة الاتحاد قررت في اجتماع استثنائي، أول أمس، ''عدم الاعتراف بالحكومة الجديدة''. وأضاف أن الاتحاد دعا ممثليه الثلاثة في الحكومة، وهم حسين ديماسي وزير التكوين المهني والتشغيل وأنور بن قدور وزير النقل والتجهيز وعبد الجليل البدوي وزير دولة، إلى الانسحاب منها، وأنه في حالة رفضهم الانسحاب فإنهم سيصبحون لا يمثلون إلا أنفسهم. كما أعلن حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل استقالة أمينه العام مصطفى بن جعفر من حكومة الوحدة الوطنية. وفي السياق علق حزب التجديد المعارض مشاركة ممثليه في الحكومة وهدد بانسحابه منها إذا لم يتخل وزراء الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عن عضويتهم في الحزب الحاكم السابق، وجاء في بيان لحزب التجديد تُلي عبر التلفزيون التونسي أن الوزراء يجب أيضا أن يعيدوا إلى الدولة كل الممتلكات التي حصلوا عليها من خلال زعامتهم في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم السابق. هذا وكان زعيم حزب التجديد، أحمد إبراهيم، قد عيّن وزيرا للتعليم العالي في الحكومة المؤقتة. وفي محاولة لاحتواء الاحتجاجات وغضب الشارع ولإنقاذ حكومة الوحدة الوطنية من التصدع، قدّم الرئيس التونسي بالإنابة فؤاد المبزع ورئيس الوزراء محمد الغنوشي استقالتهما من حزب التجمع الدستوري الديموقراطي، الحاكم سابقاً في تونس، الذي قرّر بدوره طرد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وستّة من أقرب معاونيه من صفوفه. من جهته، أعلن رئيس كتلة الاشتراكيين في البرلمان الأوروبي مارتن شولز أنه تم فصل ''التجمع الدستوري الديمقرطي'' من الاشتراكية الدولية. وقال في مؤتمر صحافي عقده في البرلمان في ستراسبورغ (شرق فرنسا) إن التجمع ''أقصي من الاشتراكية الدولية التي كان عضواً فيها'' منذ سبعينيات القرن الماضي. وقال بيان مقتضب أورده ''الاشتراكية'' أن ''هذا القرار، في ظروف استثنائية، يتوافق مع القيم والمبادئ التي تحددها حركتنا''. وكان آلاف الأشخاص قد تظاهروا مجددا، أمس، في تونس العاصمة والعديد من المدن، داعين الى حل حزب ''التجمع'' وإبعاد المحسوبين من نظام بن علي من الحكومة الجديدة وتنديدا بإقصاء أحزاب وازنة. وجاءت هذه التظاهرات استمرارا لمثيلاتها التي شهدتها شوارع وسط العاصمة، أول أمس، رفع خلالها المتظاهرون شعارات تنادي بإقصاء حزب التجمع الدستوري الديموقراطي. وتقدم القيادي الإسلامي الصادق شورو، الذي سُجن طويلاً في عهد بن علي، تظاهرة العاصمة. وقال إن ''الحكومة الجديدة لا تمثل الشعب ويحب أن تسقط. لا للتجمع''. وقد تصدت الشرطة التونسية بشكل عنيف ضد المتظاهرين بالهراوات والغازات المسيلة للدموع في مشهد لم يقطع مع العهد البائد. ودعت المتظاهرين إلى التفرق بموجب حالة الطوارئ التي تمنع تجمع أكثر من 3 أشخاص في الطريق العام. فتفرّق المتظاهرون، قبل أن يعودوا في عدد أكبر فتدخلت الشرطة بعنف لتفريقهم مجدداً. وقال أحد المتظاهرين ''نرفض هذه الحكومة المجرمة التي تريد سرقة ثورة شعبنا''.